صفحات العالم

تحقيقات حازم الأمين من عمان عن “النصرة” و”داعش”

 

رغبة تركية في اندماج «النصرة» و «أحرار الشام» أفشلها رفض «أمراء» أردنيين

الأربعاء، ٢٤ يونيو/ حزيران ٢٠١٥

عمان – حازم الأمين

< طرحت «المسألة السورية» على «النصرة» تحديات لم يسبق أن واجهها تنظيم «القاعدة» في معظم مناطق اشتغاله. ثمة سعي لاستثمار «الإنجاز الميداني» في عملية سياسية. «النصرة» غير معدة لهذه المهمة، بينما «داعش» استعجل الأمر عبر إقامة «خلافته» ودولته. هذا أمر جديد كل الجدة على «القاعدة» التي لا تملك خبرات على هذا الصعيد.

ويرى الباحث حسن أبو هنية أن «النصرة» لا تستطيع أن تقيم حكامتها، طالما أنها تسعى إلى إرضاء الناس، فقد سارعت الجبهة إلى الموازنة بين الميول المحلية وبين التطلبات «الشرعية» في المناطق التي سيطرت عليها. والجبهة مؤلفة من مقاتلين لا يملكون مشروعاً لما بعد «التحرير». وهذا الأمر انعكس على ما يبدو ضعفاً في أدائها في إدارة المناطق وافتقارها لخبرات بيروقراطية.

و «النصرة» التي هي امتداد لـ «القاعدة» وللتاريخ «الجهادي» التقليدي بصيغه الأفغانية والبوسنية والشيشانية، هي أسيرة المضمون التضامني و «النكائي» (من نكاية) لهذا «الجهاد»، أي أن «الجهاد» يقتصر في عرفها وفي خبرتها على الأذى والانسحاب، ولا يشمل طموحات بالتمكين وبإقامة الدولة.

«داعش» على عكس «النصرة»، مسألة الدولة هي في صلب تطلعاته، وهو منذ سنوات «الجهاد» الأولى في العراق أطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية في العراق»، وراح يراكم التجارب في إدارة المناطق التي سيطر عليها مستفيداً من الخبرات الكبيرة التي يملكها نشطاؤه الجدد من ضباط الجيش العراقي السابق. فـ «دارة التوحش» وضبط المناطق الجامحة والسيطرة على الفوضى، عبارات لطالما وردت في أدبيات الجماعة، ولطالما مورست بصفتها وسيلة الحكم وطريقاً لـ «تثبيت الخلافة». وبهذا المعنى وفر «داعش» نظاماً صارماً من العقوبات ومن الأمن ومن الخدمات، لم يسبق أن طرحته «السلفية الجهادية» على نفسها بصفته هدفاً لـ «الجهاد».

ويبدو أن الكثير من أمراء «النصرة» ممن انشقوا عن الفرع العراقي لـ «القاعدة» والذي تحول إلى تنظيم «داعش»، حاولوا أن يستثمروا تجاربهم «الداعشية» في المناطق التي تحولوا إلى أمرائها. فأمير «النصرة» في درعا، الأردني إياد الطوباسي (أبو جليبيب) حاول تأسيس ما أطلق عليه في درعا اسم «دار العدل» ومحاكم ومدارس لإدارة المناطق التي تمت السيطرة عليها، وهو أشرك في تجربته كتائب من الجيش الحر ومن أحرار الشام، وهو ما أدى وفق ناشط سلفي إلى فشل التجربة، ذاك أن السلطة تقتضي بأن يكون الحاكم واحداً، وتنفيذ الأحكام يقتضي حزماً لا توفره سلطة مشكلة من حزمة خيارات مختلفة.

تكشف المقارنة مأزقاً كبيراً تُكابده «النصرة» وتُدركه القيادة الدولية لتنظيم «القاعدة»، لا سيما أن رجحان كفة «داعش» في هذه المنافسة يتغذى أيضاً من قدرته على مخاطبة الضائقة المذهبية التي تشطر المنطقة كلها. فالعدو المذهبي الذي أعلن «داعش» أنه وجهة حربه الوحيدة قادر على تغذية الجماعة بالمقاتلين والمريدين، فيما يتولى إغراء الدولة و «الخلافة» والفعالية حسم تفوقه على «القاعدة» وعلى صيغتها السورية، أي «جبهة النصرة».

يقول قتيبة، وهو جهادي أردني من مدينة السلط أن تنظيم «الدولة» هو دولة وهو خلافة، بينما النصرة مشروع «جهادي» بلا أفق. ويرى الشاب أن إعلان «الخلافة» يُملي على المسلمين البيعة للخليفة المقتدر حتى لو لم تقنعهم شخصيته. ويشير قيادي من التيار السلفي الجهادي الأردني إلى أن مسارعة البغدادي في إعلان خلافته شكلت تحدياً كبيراً لخصومه في التيار، ذاك أنها وضعتهم أمام تحدي «اكتمال الجهاد»، فيما كشفت عن نقص كبير في العدة الإيديولوجية لـ «النصرة»، فبين «جهاد التمكين» الداعشي و «الجهاد النكائي» النصراوي، وجد الكثير من «الجهاديين» الجدد أنفسهم أمام إغراء الخلافة التي يوفرها «داعش».

والحال أن بقاء «النصرة» كفكرة مجردة لـ «الجهاد» فيما تولى «داعش» ابتذالها عبر مشروع الدولة والخلافة، كشف عن معضلة أخرى، تتمثل في أن «داعش» هو حقيقة الدعوة فيما «القاعدة» هي فكرتها غير الواقعية. علماً أن نموذج المقاتل القاعدي غالباً ما يكون مشحوناً بقيم يخاطبها اليوم «داعش» أكثر من تلك المتوفرة لدى «النصرة». فالعنف المطلق والقوة والفعالية، هي من عناصر الإعداد الأيديولوجي الذي تتولى السلفية الجهادية ضخها في وعي متلقنيها في المساجد.

وهذه الحسابات كلها كانت جزءاً من العناصر التي جرى نقاشها والتفكير بها خلال البحث في إمكان استقلال «النصرة» عن «القاعدة». فإعلان الانفصال يمثل مزيداً من الابتعاد عن التحديات التي فرضها «داعش»، أي مزيد من الابتعاد عن المضامين «السلفية الجهادية» للحرب وللدعوى. وهذا الابتعاد سيكون «داعش» أكثر المستفيدين منه. ويحسم أبو محمد المقدسي أن أيمن الظواهري غير متمسك ببيعة «النصرة» له إذا كان للتخفف من البيعة أثر إيجابي على وضع الجماعة، لكنه يشير إلى أن إعلان الانفصال لن يُفضي إلى وقف غارات التحالف الدولي على مواقع «النصرة» في سورية، فيما سيجد كثيرون من عناصر «النصرة» وخصوصاً غير السوريين منهم أنفسهم أمام خيارٍ لا بد منه، وهو الالتحاق بـ «داعش» أو مغادرة سورية.

الأكيد وفق مصادر السلفيين من مؤيدي «النصرة» أن الجماعة تعرضت لضغوط إقليمية كبيرة بهدف إعلان انسحابها من «القاعدة»، وذلك في سياق قبولها الاندراج ضمن «جيش الفتح» المرعي من قبل تركيا. ويبدو أن الضغوط أخذت أشكالاً مختلفة، لكن أبرزها كان عبر السعي لدمج الجماعة مع تنظيم «أحرار الشام». وكشف قيادي «جهادي» لـ «الحياة» اطلع على المفاوضات التي جرت بين الجماعتين للاندماج، عن أن «أحرار الشام» هم من بادر إلى التفاوض على الاندماج، لكنهم وضعوا شروطاً من الصعب على النصرة تلبيتها. وربط القيادي بين مبادرة «الأحرار» هذه وبين تولي قيادة جديدة لهذه الجماعة الإمرة بعد عملية الاغتيال الغامضة التي استهدفت كل قيادة الأحرار في إدلب قبل ما يقارب عام.

شروط «الأحرار» للاندماج تؤشر إلى نوع الصعوبات التي تواجهها الأطراف الاقليمية الراعية لـ «جيش الفتح» في عملية تسويق هذا «الجيش» بصفته نموذجاً مقبولاً على المستوى الدولي كواجهة للحرب على النظام في ســورية. فقد طلب «الأحرار» من «النصرة» أن تحدد حركتها بالحدود السورية وأن يجري ذلك ضمن مشــروع للبحث بمستقبل المقاتلين غير الســـوريين في صفوفها، وأن تقبل النصرة بالدعم المكشوف الذي تقدمه دول إقليمية مثل تركيا.

«النصرة» اعتبرت أن هذه الشروط غير ممكنة التحقق، ويجزم القيادي «السلفي الجهادي» الذي اطلع على مضمون النقاشات، واستشير بها، أن الانفصال عن «القاعدة» هو أهونها، بينما يبدو أن مسألة التخلي عن المقاتلين الأجانب هو أصعبها، إذ إنه يحرم «النصرة» من عنصر تفوقها الحاسم والمتمثل بخزان الانتحاريين الذي يشكله هؤلاء.

لكن الأهم في هذا المجال هو أن هذه المفاوضات لم تعن على الإطلاق أن قبول «النصرة» بشروط الأحرار كان سيعني رفعها عن لائحة الإرهاب الأميركية، ذاك أن أنقرة التي حركت عملية التفاوض هذه لم تنتزع من واشنطن موافقة على هذه الخطوة، لا بل أن استمرار استهداف طائرات التحالف بعض مواقع «النصرة» مثل جواباً واضحاً من واشنطن على هذه المساعي.

هذه المفاوضات جرت في شمال سورية وعلى مقربة من الحدود مع تركيا، في وقت يبدو أن الجنوب السوري في منأى عنها. فالرعاية التركية للوضع الميداني لهذه الجماعات لا يشمل الجنوب، والأخير يعيش على وقع حســـابات إقــــليمية أخرى، وهي حسابات أكثر تطابقاً مع اعتبارات واشنطن حيال الجماعات المقاتلة في ســـورية. فـ «النصرة» من الوجهة الأردنية ليــست على وشك التحول إلى جماعة مقبولة، وفصائل الجيش الحر في الجنوب أكثر قدرة منها على الإمساك بالأرض، ولا يبدو أن نموذج «جيش الفتح» قابل للتطبيق في الجنوب، ناهيك عن أن الحاجة إليه منتفية بفعل وجود «الجيش الحر». وهنا يرتسم محوران إقليميان قد يلتقيان عند الرغبة في إسقاط النظام في ســــورية، لكنهما متفاوتا الحـــماسة حياله، الأول تمثله تركيا وحلفاء خليجيون لها، وهو الأكثر حماسة ورغبة في إسقاط النظام، والثاني تمثله عمان ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية، وهذا المحور ما زال متمسكاً بضرورة البحث عن بديل للنظام قبل إطاحته. وتملي هذه الوجهة معطيات ميدانية حذرة في جنوب سورية.

وفي الجنوب أيضاً تبدو مخاوف «النصرة» أكبر، وتشعر هناك أنها محاصرة أولاً بإقفال الحدود بوجه «مجاهديها» غير السوريين، وثانياً بفصائل الجيش الحر الأكثر استقبالاً للسلاح وللدعم منها، وهم امتداد لجماعات قاتلتهم «النصرة في الشمال وطردتهم من ادلب وريفها. وهي إذا أرسلت أميرها الشرعي أبو ماريا القحطاني (ميسر الجبوري) إلى الجنوب بعد أن طرده «داعش» من دير الزور، ضاعفت بفعلتها هذه من مستوى التناقضات بين أمرائها المقيمين حول درعا. وتُطل هنا مجدداً مسألة أن «النصرة» ليست تنظيماً واحداً، وأن أبو محمد الجولاني هو على رأس تنظيم «كونفيدرالي» ضعيف التماسك.

ويبدو أن ثلاثة اتجاهات تتنازع الجبهة وتُمثل وجهات غير متقاربة المصالح والأهداف. ويُمثل الاتجاه الأول الخط القاعدي التقليدي وأبرز وجوهه سامي العريدي وهو أردني الجنسية وأردني آخر هو إياد الطوباسي (أبو جلبيب)، ومعظم مقاتلي هذا الاتجاه هم من غير السوريين. ويقيم العريدي في ريف دمشق فيما يتولى الثاني إمارة درعا. وهما ممن قدما من العراق وانشقا عن تنظيم «الدولة». ويبدو أن تأثير هذا الاتجاه طاغياً على الجماعة، وهو ما منع إعلان الانفصال عن «القاعدة». ثم إن تأثير الأمراء الأردنيين رتب تأثيراً موازياً لشيوخ «السلفية الجهادية» الأردنية من أمثال أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة. ويقدر عدد المقاتلين الأردنيين في صفوف «النصرة» بنحو 600 مقاتل فيما يبلغ عددهم في صفوف «داعش» نحو 1500 مقاتل.

الاتجاه الثاني يُمثله أبو ماريا القحطاني، وهو عراقي اسمه ميسر الجبوري جاء إلى سورية مع تنظيم الدولة وانشق عنها، واليوم يعتبر القحطاني من حمائم «النصرة» ومن أشد أعداء «داعش». وهو شديد الحماس لإعلان «النصرة» انفصالها عن «القاعدة». علماً أن القحطاني كان المسؤول الشرعي للنصرة وأمير منطقة دير الزور إلى أن هاجم «داعش» جماعته وحاول قتله، ففر إلى الجنوب مع نحو 250 مقاتلاً، وهو اليوم يقيم في منطقة درعا، ولم يعد مسؤولاً شرعياً للجماعة.

ويروي ضابط في الجيش الحر التقى القحطاني قبل أسابيع في درعا أن الأخير مجاهر في اختلافه مع قيادة «النصرة»، ويرى ضرورة اندماجها بفصائل «الجيش الحر» في الجنوب على نحو ما فعلت في إدلب عبر انخراطها في «جيش الفتح». ويشير إلى أن القحطاني وخلافاً لأمراء النصرة المنكفئين، شديد الحضور الاجتماعي والعام وكثير الحذر من «داعش» الذي يرى أنه عدوه الأول. لكن ضابط «الجيش الحر» حذر في تفسير أسباب خروج القحطاني عن خطاب «النصرة» ولا يستبعد أن يكون ذلك مجرد توزيع للأدوار.

الاتجاه الثالث يمثله أبو محمد الجولاني، وهو اتجاه يحاول الموازنة بين طرفي الاستقطاب هذين، وتشكل البراغماتية داخل التنظيم سمته الرئيسة فيما يبدو العنصر السوري أكثر طغياناً عليه. ولعل الشخصية الأكثر شرعية في هذا الاتجاه، الداعية السعودي عبدالله المحيسني. لكن يبدو أن هذا الاتجاه أقل تأثيراً في القرارات المتعلقة بمستقبل الجماعة وفي شروط وجودها في سورية. ثم إن متقصي شخصية الجولاني في البيئة «السلفية الجهادية» يشعر أن الرجل واجهة ليس أكثر، وأن النفوذ الفعلي في النصرة هو لأمراء غير سوريين في غالبيتهم. وحصيلة هذه الخريطة لأي مقترب منها تتمثل في أن مغادرة «النصرة» لـ «القاعدة» شرط لسورنتها، لكن ما أن تكف النصرة عن كونها «قاعدة» ستكف عن التأثير.

رحلة شاب أردني من «النصرة» الى «الدولة»

الجمعة، ٤ يوليو/ تموز ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

ولدت في عام 1982 في الكويت التي غادرها أهلي قبل حرب عام 1990 (الغزو العراقي). عدت مع عائلتي إلى مدينة الزرقاء الأردنية، المدينة التي كانوا نزحوا إليها في عام 1967 من الضفة الغربية.

والدي كان «مستشيخاً» ومؤيداً لجماعة الاخوان المسلمين، لكن تأثيره فينا أنا وأخوتي لم يكن كبيراً. والدتي هي من كان لها الأثر الأكبر في دفعي إلى الجهاد، فهي كانت تتابع ما يتعرض له المسلمون من ظلم في العراق وفي غيره من البلدان، وكانت تُحب أبو مصعب الزرقاوي، ولطالما أشعرتني بضرورة الألتحاق بـ»المجاهدين».

محاولتي الأولى كانت في عام 2006، وكانت الوجهة في حينها العراق. جرى ذلك في أعقاب مقتل الشيخ أبو مصعب الزرقاوي. في حينها التقينا نحن مجـــموعة من الشبان من مدينة الزرقاء، اتفقنا وقمنا بالاتصال بجـــماعة أردنية تـــقاتل في العراق رتبت لنا الخروج. وفي الليلة التي كان من المفترض أن نخرج فيها، جاء الأمن الأردني الذي كان يراقب هواتفنا وألقى القبض علينا جميعاً. لم أكن يوماً سلفياً في مظهري على رغم أنني محسوب في الزرقاء على «السلفية الجـــهادية». والدتي وشــقيقي أيضاً ليسا ســـلفيين في مظهرهما. والدتي منحازة للتيار عاطفياً، وشقيقي متأثر بها. وهذه العاطفة هي ما راحت تحرضني على الذهاب الى سورية عند بدء الثورة فيها.

وبعد أشهر من العمل في الإغاثة مع اللاجئين وفي تهريب المواد الغذائية الى درعا، علمنا من السلفيين في الأردن أن «القاعدة» أرسلت من العراق مجموعة من ناشطيها وأمرائها الأردنيين بهدف تنظيم التطوع فيها والعمل على استقدام أردنيين الى «الجهاد». كان معظم هؤلاء ممن كانوا يقاتلون الى جانب الزرقاوي في العراق واستمروا هناك بعد مقتله، وأبرزهم مصطفى صالح عبداللطيف (أبو أنس الصحابة) واياد الطوباسي (أبو جليبيب)، وهما ما زالا حتى اليوم أميري «النصرة» في الشام وفي درعا.

بدأنا بترتيب الخروج الى سورية عبر التواصل بين مجموعات «جهادية» في الزرقاء وبين «الأمراء» الأردنيين القادمين إلى درعا من العراق. كان أبو جليبيب هو صلة الوصل بين المجموعتين، وكان أيضاً أقرباء لأبو مصعب الزرقاوي يتولون المهمة في الزرقاء.

بدأ مهربون يعملون على نقل الشباب، وفي كل إسبوع تقريباً كانت تخرج مجموعة أو مجموعتين. في هذا الوقت شعرت بأنني مراقب، خصوصاً أنني كنت مستمراً في عملي الإغاثي الى جانب التواصل مع مجموعات الداخل والمساعدة في تهريب الشباب إلى درعا.

قررت أن أسارع في الخروج الى سورية استباقاً لاحتمال توقيفي من قبل الأمن.

التحقت بـ «جبهة النصرة» وفي حينها لم يكن الإنقسام قد حصل. كانت «النصرة» في سورية هي نفسها «الدولة» في العراق. وفي البداية تم عزلنا لفترة نحو اسبوع للتأكد من خلونا من المخبرين. جاءت تزكيتنا من الأمراء الأردنيين في «الجبهة»، وتم توزيعنا على المناطق بهدف تدريبنا. وكان المسؤول العسكري لـ «النصرة» في جنوب سورية هو الأردني أبو حارث الحياري الذي كان يرفض ارسال غير المتدربين الى الجبهات، وكان يعتبر أن هؤلاء سيشكلون عبئاً على المقاتلين في حال أرسلوا قبل أن يتدربوا. في أواخر عام 2012 لم يكن عدد الأردنيين في صفوف النصرة يتجاوز الـ500 مقاتل.

بدأنا التدرب على استعمال الأسلحة في مناطق مختلفة ومنها بصرى الحرير ودرعا، الى أن صار في إمكاننا القتال فوزعنا على الجبهات. وفي أحد أيام القتال حاصرنا الجيش النظامي السوري في منطقة قريبة من الحدود الأردنية، فما كان علينا إلا تسليم أنفسنا للجيش الأردني تجنباً لأسرنا من قبل الجيش السوري. وهذا ما حصل، حيث بقيت في السجن في الأردن مدة شهرين أخلي سبيلي بعدها.

اليوم لم أعد من مؤيدي «النصرة» على رغم قتالي في صفوفها. أرى أنهم شباب مجاهدون وهم على خير، لكنهم أخطأوا في عدم إطاعة الأمير، وهو هنا أبو بكر البغدادي. لا بل راحوا يشوهون وجه «الدولة» ويتحدثون عن أخطائها على نحو علني. وقد تناهى مؤخراً الى مسامعي أن عدداً كبيراً من مقاتلي «النصرة» ومن أمرائها هم بصدد إجراء مراجعة والعودة عن خطئهم ومبايعة أبو بكر.

معظم من أعرفهم من شباب التيار صاروا اليوم من مؤيدي «الدولة»، وكثيرون يتوجهون للإلتحاق بالقتال عبر تركيا بدلاً من الحدود الأردنية – السورية. وأنا من جهتي لن أتردد في الإلتحاق عندما يُتاح لي ذلك مجدداً، لكن هذه المرة بـ «الدولة» لا بـ «الجبهة».

«السلفية الجهادية» في الأردن في طريقها إلى «داعش» بعد سنوات أمضتها في «النصرة»

الجمعة، ٤ يوليو/ تموز ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

عندما قرر أبو عبدالرحمن، الأردني – الفلسطيني المقيم في مدينة الزرقاء، التوجه إلى سورية والالتحاق بـ «جبهة النصرة»، لم يكن الانشقاق بين «الدولة» و «الجبهة» قد وقع. في حينه أرسلت قيادة «الدولة» من العراق أردنييها إلى درعا لتحضير البيئة لاستقبال المهاجرين من الأردن القريب. وصل من العراق أياد الطوباسي (أبو جليبيب)، وأمراء آخرون، وباشروا الإعداد. أرسلهم في حينه أبو بكر البغدادي، وكانت الفكرة أن تكون «الدولة» واحدة في الشام وفي بغداد. عين لهم أميراً سورياً، وقال لهم بايعوه.

اليوم يعصر الألم قلب أبو عبدالرحمن بسبب الفِرقة التي وقعت في الجماعة، لا سيما أنها وقعت «في ظل التمكين»، وعلى أبواب إنجاز «الدولة» دولتها. وأبو عبدالرحمن المتنازع بين مشاعره حيال الأمراء الأردنيين الذين قاتل معهم في درعا، وهم اليوم أمراء «النصرة» في الشام وفي درعا، وبين «الدولة» التي يعتقد أن أميرها أبو بكر البغدادي هو صاحب البيعة و «أمير الدولة والأمة»، لا يحب أن نسمي «الدولة» (التنظيم) داعش، ففي هذا الاسم «رسالة سلبية»، ويقول إن «بي بي سي» وقناة الجزيرة كفّتا عن تسميته «داعش». ويقول أيضاً إن «الدولة» ليست عنفاً مجرداً، فللعنف وظيفة في عملها، ذاك أن صوره ممارساً من جانبها تصل إلى «الأعداء» قبل وصول مقاتليها، فينهزمون قبل الالتحام.

< ينتمي أبو عبدالرحمن إلى جيل من «السلفية الجهادية» الأردنية انحاز إلى «الدولة» في الانقسام. هم الجيل الجديد يضاف إليه الزرقاويون، من المناصرين السابقين لأبو مصعب الزرقاوي ممن يعتبرون أنه هو من أسس «الدولة» قبل أن تصل الإمارة إلى أبو بكر البغدادي.

تترواح أعداد «السلفيين الجهاديين» في الأردن بين 4 وخمسة آلاف ناشط، ويتركزون في مدينة الزرقاء في الدرجة الأولى، ثم في عمان والسلط وإربد ومعان، وبينما كانت الغلبة بينهم لـ «النصرة» عند بداية الانقسام، عاد «داعش» اليوم ليتصدرهم. هذا ما يقر به حتى المغالون في انحيازهم لـ «النصرة». ويبدو أن لـ «انتصارات» داعش في الموصل وفي غرب العراق دور حاسم في هذا التحول، على رغم أن شيوخ «السلفية الجهادية» في الأردن أقرب الى «النصرة»، وأمراء الجبهة في درعا وفي ريف دمشق معظمهم من الأردنيين.

لكن، ليست «انتصارات» الموصل وحدها ما أحدث التحول، فهناك سبب أردني سابق على ذلك، فخط الانقسام بين نموذجي «السلفية الجهادية» كان قد رسمه قبل سنوات طويلة الأردني أبو مصعب الزرقاوي قبل مقتله في العراق في عام 2006. فالأخير، وعلى رغم بيعته أسامة بن لادن، لم يلتزم بفتاوى شيوخ «القاعدة» في إدارته العنف في العراق. وهو كان قدم قتال الشيعة على قتال الأميركيين. ويقول الباحث الأردني حسن أبو هنية: «الخلاف الأصلي هو من أيام الزرقاوي الذي اختلف مع تنظيم «القاعدة»، فالأخير كان لديه مشروع جيوسياسي، بينما الزرقاوي أراد قتال المشروع الصفوي. و «داعش» قوي اليوم لأن البيئة هي بيئة صراعية طائفية». ويقول شيخ «سلفي جهادي» من مدينة السلط من مؤيدي «النصرة»، رفض الكشف عن اسمه: «هناك وقفة لعدم تكرار الأخطاء التي حصلت في العراق. أي إقصاء الفصائل الأخرى والسرعة بالتخوين والتكفير، وعدم الالتحام مع المجتمعات المحلية وخسارة الحاضنة الشعبية. وهذه نصائح سبق أن وجهها الشيخ أيمن الظواهري للشيخ أبو مصعب الزرقاوي». وهو يرفض القول إن الجماعة أجرت مراجعة للتجربة العراقية خلصت فيها إلى تبيان هذه الأخطاء، فكلمة مراجعة مرتبطة بحسبه بما أجرته الجماعات الجهادية المصرية (تنظيما الجهاد والجماعة الإسلامية) من مراجعات أفضت بهما إلى المشاركة في الانتخابات النيابية، وهو أمر ليست الجماعة الأردنية ولا «جبهة النصرة» بصدد الإتيان به اليوم.

من الواضح أن أبو بكر البغدادي هو وريث الزرقاوي في الأردن، وأن «غلبة» داعش في المدن الأردنية هي استمرار لما كان الزرقاوي يمثله في تلك البيئة. فالداعشيون في «السلفية الجهادية» هنا هم إضافة الى الزرقاويين، الجيل الجديد من «الجهاديين»، لا سيما أولئك الذين يخاطبهم الإنجاز والعمل الميداني والقوة والفعالية، وتأثير القادة الميدانيين في هؤلاء يفوق تأثير الشيوخ ومصدري الفتاوى.

ويمكن المرء في الأردن أن يُلاحظ تقدم «الجهادية» على «السلفية» في أمزجة مناصري «داعش»، فكثيرون ممن قدِموا إلى البيئة «القاعدية» في الأردن من أصول غير دينية، لا سيما من الجيل القديم، ممن مروا بتجارب في السرايا الإسلامية واليسارية لحركة فتح، وهؤلاء اليوم أقرب إلى «داعش»، فيما «السلفيون الجهاديون» من أبناء الجيل الأول، ممن قاتلوا في أفغانستان هم أقرب إلى «النصرة». وفي حين ينفي جميع المراقبين في عمان أن يكون لانقسام «المجاهدين» في الأردن صلة بالانقسام الفلسطيني الشرق أردني، لا بد للمرء من أن يُلاحظ صحة هذا النفي في أوساط الشيوخ، لكنه يضعف في أوساط الناشطين الجدد، فـ «داعش» كموديل وكحركة راديكالية لا بد من أن يُلامس خط الانقسام التقليدي في الأردن، لا سيما أنه في سورية استنفر حساسية سورية محلية في مواجهته، وفي العراق كان للعصب العراقي المتين فيها دور في استقطابه الكثير من أبناء العشائر والمدن هناك.

لكن، ليس اليوم هو موعد هذا التوقع، فـ «داعش» يخاطب اليوم في الأردن شباناً من خارج البيئة «السلفية الجهادية»، ذاك أن الانقسام المذهبي الذي يزنر المنطقة يحتاج في نشاطه إلى هذا النوع من العنف. ويبدو أن «الجهاديين» الأردنيين أنفسهم تفاجأوا بـ «مهاجرين» أردنيين ذهبوا إلى سورية وإلى العراق من خارج التيار، وظهروا فجأة في أشرطة فيديو لـ «داعش». أشار إلى ذلك كثيرون في مدينة السلط التي قُتل من أبنائها أخيراً 4 من هؤلاء، وظهر أخيراً فتى يدعى أشرف خريسات في شريط مصور في شمال سورية كان يُمزق جواز سفره إلى جانب مجموعة من الشبان المغاربيين، ولم يكن أحد يعلم بـ «سلفيته» وفق ما أكد شيخ من التيار في المدينة.

ويبدو أن للجغرافيا أيضاً دوراً في حسم شبان أردنيين خيارهم في الهجرة إلى «داعش» بدل «النصرة» في الأشهر الأخيرة. فجنوب سورية، حيث الحدود الأردنية، أحكمت الأجهزة الأمنية والجيش الأردني أخيراً إقفاله في وجه المتوجهين إلى القتال من الأردنيين هناك. وعلى الجبهة الجنوبية هذه تقيم «النصرة» ويتولى أمراء أردنيون القيادة فيها. الجيل الأول من المقاتلين في سورية قصد هذه الجبهة، والتحق بالـ «نصرة». اليوم، على الراغبين في القتال في سورية من الأردنيين الذهاب عبر تركيا، هناك حيث «داعش» ينتظرهم. وبما أن كثراً من «المهاجرين» عبر تركيا هم من «السلفيين الجدد» غير مراقبين وغير ملتحين، فإن سفرهم إلى تركيا عبر المطارات لن يكون محفوفاً باحتمالات الضبط الأمني. ويُلاحظ مراقب في عمان أن معظم «المهاجرين» الجدد من الأردنيين يلتحقون بـ «داعش» وليس بـ «النصرة»، وأن أعداد هؤلاء اليوم تفوق الـ1200 مقاتل أكثر من ثلثيهم في تنظيم «الدولة»، وقتل منهم حتى الآن حوالى 350 شخصاً.

«أبو مصعب»، شاب من الزرقاء كان توجه في نهاية عام 2012 إلى درعا والتحق بـ «النصرة» هناك، حيث استقبله في المدينة السورية أمير «الجبهة» في جنوب سورية الأردني أياد الطوباسي (أبو جليبيب) الذي أرسله من بغداد «أبو بكر البغدادي» لمساعدة «أبو محمد الجولاني». هذا كان قبل انشقاق الجماعتين. عاد «أبو مصعب» من سورية بعد أشهر من القتال هناك في صفوف «النصرة»، لكنه اليوم يقول إنه سيقاتل في صفوف «داعش» إذا رغب في الهجرة مجدداً، على رغم أن أمراءه الذين قاتل في صفوف كتائبهم ومنهم «أبو جليبيب»، ما زالوا في «النصرة»، لكنه يشير إلى أنهم مستمرون في القتال في صفوفها لأن «الدولة» لا وجود لها في جنوب سورية، وهو يتوقع تحولاً وشيكاً في خياراتهم.

شيخ «السلفية الجهادية» السلطي الذي رفض كشف اسمه، ينفي احتمالات تحول أمراء «النصرة» من الأردنيين إلى «داعش». يقول: «الجيل الجديد من الجهاديين في الأردن معظمهم في «داعش». الدولة الإسلامية جاذبة. الذي تستهويه القوة وأفلام الآكشن والمكاسب على الأرض يذهب إلى «داعش». ولكن الذين خالفوا الدولة فقد خالفوها لأخطاء ارتكبتها، ولا يمكن أن يناصروها إلا إذا عادت عنها». ويُعدد الشيخ من قتلهم «داعش» من شيوخ السلفية الجهادية وعلى رأسهم أبو خالد السوري وأبو محمد الفاتح وأبو ريان وأبو سعد الحضرمي، ومعظم هؤلاء هم ممن أرسلهم أيمن الظواهري إلى سورية لـ «الإشراف على الجهاد فيها». وفي إشارة الشيخ السلطي لهؤلاء تلميح بأن عودة «داعش» عن أخطائه أمر مرتبط بدماء هؤلاء أيضاً، ما يؤشر إلى صعوبة العودة وإلى طلاق شبه نهائي بين الجماعتين.

«داعش» اليوم مزاج أيضاً، وهو أمر سيسهل عليه التجنيد من خارج البيئة «السلفية الجهادية»، خصوصاً أنه متخفف من هذه البيئة ويقدم عليها المشاعر الطائفية الخالية من شروط السلفية الأخرى. وإذا كان هذا مأخذ «الجبهة» على «الدولة»، إلا أنه أحد مصادر قوة الأخيرة، فالعنف في ظل الأوضاع السائدة في الإقليم هو شرط الاستقطاب، وما أنجزه تنظيم «الدولة» في العراق راح يُغذي الكثير من الرغبات في الانتصار. يمكن المرء أن يتلمس ذلك في الأردن على نحو حثيث. فشروط القوة والعنف والسيطرة تتقدم على أي شرط آخر. لا شيء يوازي «الانتصار» في التأثير، والإعجاب بأبو بكر البغدادي لا يتصل بأي شرط «سلفي جهادي». إنه ذلك الرجل الذي انتصر على الجيش الشيعي في الموصل، وهو امتداد للزرقاوي الذي كان انتصر على الأميركيين في كل العراق.

يشعر المراقب في عمان بأن «السلفية الجهادية» التقليدية، بعدما أرست وجوهها، وكرست تقاليدها في الممارسة وفي تنظيم العنف وتصريفه، تواجه اليوم تحدياً من على يمينها يكاد يطيح أعمدة فيها. فأبو محمد المقدسي يسميه الداعشيون «ما يطلبه المستمعون» في إشارة إلى «تهاونه» في الفتاوى، ويستحضرون في كلامهم عنه خلافه مع تلميذه أبو مصعب الزرقاوي. كما أن «الداعشيين» لم يُبدوا حماسة تذكر لتبرئة القضاء الأردني أبو قتادة (عمر محمود عثمان) لا بل يشيرون إلى أن براءة الأخير ناجمة عن حاجة الدولة الأردنية له في مواجهتهم، لا سيما أنه انحاز في الانقسام إلى «النصرة» ضد «داعش». والرجلان، المقدسي وأبو قتادة، هم الوجهان الأبرزان لـ «الجهاد» القديم الذي يبدو أن «داعش» بصدد إطاحته.

وصحيح أن للانقسام بين «داعش» و «النصرة» ملامح جيلية في الأردن، لكن هناك تساؤلات فعلية عن صمود الجيل الأول من «المجاهدين» في مواقعهم في ظل الإغراء الذي صار يمثله «داعش»، خصوصاً أن شعوراً بأن «الدولة» بدأت تسحب المناصرين من حول شيوخ «الجهاد الأول»، وأن ولادة ثالثة لـ «التنظيم» بدأت على يد أبو بكر البغدادي.

إذاً، احتمال أن يستدرك شيوخ «الجهاد الأول» منزلقهم ما زال قائماً، فأبو محمد المقدسي قال إنه وبعد خروجه من السجن بدأ بمراجعة مواقفه التي ساند فيها «النصرة»، وهو بصدد «تبيان الحقائق»، لا سيما أن مواقفه انبنت على تقارير كانت تصله إلى السجن، وهو اليوم حر ويمكنه أن يتبين المشهد على نحو أجلى. ويبدو أن صدمة داعش «الميدانية» ستمتد لتشمل الجيل الذي سبقه إلى «الجهاد»، ذاك أن النفوذ الذي حققه شرع يتسلل إلى نفوس الشيوخ محاكياً رغبتهم في «الخلافة» التي، وإن كانوا لا يقرونها للبغدادي، لكنهم لا يستطيعون مقاومة الإغراء الذي تمثله.

لكن ما يستشعره المرء من تقدم لـ «داعش» في الأردن لا يبدو أنه متصل بنشاط التنظيم في المملكة نفسها، إنما في الساحات الخارجية، أي سورية والعراق وربما لبنان. ولا يبدو للمراقب العادي أن السلطات الأردنية مذعورة من «الإنجاز» الداعشي في شمال العراق وغربه، بالدرجة نفسها من ذُعر العالم على المملكة المحاصرة اليوم بحدود مع «داعش» تبلغ مساحتها حوالى 181 كيلومتراً هي حدوده مع العراق، وبحدود مع «النصرة» تبلغ حوالى 378 هي حدودها مع سورية. فمن الواضح أن السلطات الأردنية تمسك بالملف على نحو محكم، وهي غير مضطرة إلى إجراءات استثنائية. فها هي تفرج عن المقدسي وتبرئ أبو قتادة، وفي الوقت نفسه تضبط الحدود مع «النصرة» في الشمال، فيما الحدود في الشرق مع العراق تبدو أكثر تماسكاً، ذاك أن صحراء غير مأهولة تمتد حوالى 120 كيلومتراً تفصل بين المملكة وبين أقرب مدينة عراقية للأردن، وهي مدينة الرطبة، وهذا ما يُسهل عملية ضبط أي عملية تسلل. ثم إنه من الواضح أن للأجهزة الأمنية الأردنية اليد الطولى داخل تنظيمي «النصرة» و «داعش»، وكانت «النصرة» قبل أسابيع قليلة قد أعلنت أنها أعدمت خمسة من عناصرها الأردنيين بتهمة تعاملهم مع الاستخبارات الأردنية.

ويكشف هذا الخبر مستويات من العلاقات الأمنية المتداخلة، ويُفسر أيضاً خياراً لدى أجهزة الأمن الأردنية يتمثل في العمل مع هذا التيار على مستويين، أي الاختراق من جهة وضبط مستويات العنف في مواجهته من جهة أخرى. ويشير إسلامي أردني إلى أن الجماعات الجهادية في المنطقة مفتوحة على اختراقات واسعة، في أكثر من اتجاه. ويشير إلى تصريحات وزير العدل العراقي حسن الشمري التي قال فيها: «إن رؤوساً كبيرة في الدولة العراقية ســـهلت، بمـــشاركة القوات الأمنية المسؤولة عن حماية أمن سجني أبو غريب والتاجي في بغداد، هروب عناصر «القاعدة» وقادته لتعظيم دور التنظيم في ســورية وتخويف الولايات المتحدة»، بصفتها نموذجاً لتعامل الدول كافة مع هذا التنظيم.

البغدادي ورث الزرقاوي في تقديم قتال الشيعة على محاربة الأميركيين

الخميس، ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

شهدت البيئات «السلفية الجهادية» تجاذباً حاداً بعد إعلان أمير «داعش» أبو بكر البغدادي «الخلافة». واذا كان الداعية الأردني أبو محمد المقدسي، الذي أُفرج عنه من السجن قبل أسابيع، أعلن استمرار انحيازه إلى «جبهة النصرة» ورفضه «خلافة» البغدادي، إلا أن من الواضح أن «داعش» وبعد «إنجازاته» العراقية صار أكثر جاذبية لكثيرين من «الجهاديين» من حول العالم. انشقاقات كثيرة شهدتها «النصرة» أخيراً لمصلحة تنظيم «الدولة» في العراق، ويتوقع مراقبون مزيداً من الانشقاقات. (للمزيد)

وإذا كانت عراقية «داعش» مأخذاً على التنظيم في بيئة السلفيين، إلا أنها «باب الخلافة» بحسب مناصريه، وما إعلانها سوى «مقدمة لضم مزيد من المساحات في الإقليم». وعراقية «داعش» الواضحة في هوية أمرائه وفي غلبة المقاتلين العراقيين فيه، يبدو أنها بدأت تظهر في الفارق بين ممارسات التنظيم في سورية وممارساته في العراق. فهو في الأولى أشد بطشاً وأكثر تمسكاً بتطبيق «الحدود»، بينما يبدي في العراق مرونة في علاقاته مع الفصائل التي تقاتل الجيش العراقي، ومع العشائر والسكان.

وواضح أن قدرة التنظيم الكبيرة على التجنيد وعلى المشاركة في المعارك، مكّنته من شباب التيار «السلفي الجهادي»، فيما يبدو أن الجيل الأول والثاني من هؤلاء يميلان في الانقسام الى «جبهة النصرة»، بالتالي إلى تنظيم «القاعدة» الدولي. في الأردن يبدو هذا الأمر واضحاً، وفي العراق أيضاً. ويبدو كذلك أن البغدادي ورث «أبو مصعب الزرقاوي» في بيئة «السلفيين الجهاديين»، خصوصاً لجهة خلاف الأخير مع أيمن الظواهري ومع «أبو محمد المقدسي»، في تقديم قتال الشيعة على محاربة الأميركيين.

في العراق اليوم، هذا الشعار أكثر جاذبية من شعارات «القاعدة»، ويملك القدرة على جذب المقاتلين والأنصار من خارج بيئة «الجهاديين» ومن أبناء العشائر. ويبدو أن «داعش» «باشرت» بناء قوة تأتمر بها من المتطوعين هم من خارج بيئتها المباشرة، ويتولون القتال باسمها، على أن يتم دمج «من يصلح» منهم في جسم التنظيم لاحقاً.

«الحياة» أعدت تحقيقاً من حلقتين، يُنشر اليوم وغداً حول بنية «داعش» في العراق وعلاقاته مع العشائر والفارق بين ممارساته في العراق وممارساته في سورية، وعن تحول الشرائح الشابة من «السلفيين الجهاديين» في الأردن من تأييد «النصرة» وفق ما أفتى به شيوخهم، الى تأييد «داعش» بفعل «إنجازاتها» في العراق… علماً أن السلفيين الجهاديين الأردنيين هم من أكثر أقرانهم في الدول الأخرى مساهمة في القتال في سورية والعراق، إذ تُقدَّر أعدادهم هناك بحوالى 1200 مقاتل، بالإضافة إلى أن أكثر من 300 أردني قُتلوا في سورية.

«المباهلة»… والعنف المتبادل

الخميس، ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

يعتبر «أبو ماريا القحطاني» واسمه الحقيقي ميسرة الجبوري الشخصية الأكثر استفزازاً لـ «داعش» في «جبهة النصرة»، فهو المسؤول الشرعي العام لـ «الجبهة»، وهو المسؤول العسكري للمنطقة الشرقية، ويقيم اليوم في منطقة دير الزور. و «أبو ماريا» عراقي أيضاً، وهنا المفارقة، ذاك أن الخصومة بين التنظيمين الشقيقين تقوم في أحد وجوهها على عراقية «داعش»، وبهذا المعنى قد تُفسر عراقية الرجل أيضاً تصدره خصومة البغدادي، ذاك أن هذه العراقية مرفودة في حالة «أبو ماريا» بشرعية ممنوحة له من قبل التنظيم الدولي لـ «القاعدة».

ويبدو أن لـ «النصرة» أيضاً جناحاً داعشياً، لعل أبرز رموزه أمير يدعى يوسف المصري، وهو من أشد خصوم القحطاني داخل التنظيم. علماً أن القحطاني هو من يتولى اليوم التصدي الميداني والدعوي لـ «داعش» لا سيما أنه يقود «النصرة» في مناطق احتكاكها بـ «الدولة». ويستعين في تصديه لها بـ «شدته» العراقية. وهو على ما يبدو ما أوجد سمعة «داعشية» له في أوساط «داعش»، ذاك أن ناشطي «الدولة» يثيرون مسألة عنف «أبو ماريا» عندما تتهمهم الجبهة بالعنف.

لكن للسجــــال بيــن «الدولة» و «داعش» مسارح أخرى، فـ «المباهلة»، وهي تقنية سجال يقول السلفيون أنها جزء مــــن التـــراث الإسلامي، حصلت بين الجماعتين. وتقوم «المباهلة» على إقدام مفتيين أو داعيين من جماعتين مختلفتين حول شأن شرعي، بإحضار حجج يقارعان بعضهما بعضاً فيها، ولا تنتهي بأن يقنع واحدهما الآخر بما يعتقد، بل بأن يقوم كل واحدٍ منهما بالدعوة إلى هلاك جماعته وأن يُقتل أفرادها شر قتلة، وذهابها إلى جهنم في حال لم تكن على حق في ما تعتقد.

«المباهلة» بين «الجبهة» و «الدولة» وقعت بين أبو عبدالله الشامي من «النصرة» وبين أبو محمد العدناني من «داعش»، وتم ذلك عبر سكايب وتولى وسطاء ترتيبها. ويقول شيخ سلفي أرسلت إليه أشرطة سجل عليها مضمون «المباهلة»، أن العدناني كان يُردد خلالها عبارة «إما نبيد أو نُباد»، فيما الشامي أحضر معه شهادات لأبو فراس السوري ولعدد من قيادات «داعش» تُثبت عدم التزامها بالوعود.

لكن السجال بين الجماعتين والذي وصفه الداعية أبو محمد المقدسي في بيانه الأخير بأنه «وصل الى مستوى شوارعي في بعض الأحيان»، لم يبق سجالاً، ذاك أنه سجل مستويات من العنف لم تبلغه الجماعتان في استهدافهما خصومهما، وطبعاً مارس «داعش» ذروته. والعنف حين يسود المتشابهين يُصبح أكثر فتكاً. فـ «داعش» عندما أراد قتل أبو خالد السوري أرسل له ثلاثة انتحاريين، وتنفيذ حكم «الردة بحق عناصر «النصرة» في الرقة جاء أسرع من تنفيذه بحق عناصر من فصائل «جهادية» أخرى.

ولطالما شهد النزاع بين الجماعات «السلفية الجهادية» حين يشتعل هذه المستويات من العنف، وهو يأخذ أشكالاً من القتل المافيوي المتبادل. فالنزاع بين «الجماعة الإسلامية المقاتلة» في الجزائر (الجيا) وبين «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» أفضى إلى مقتل عشرات الأمراء على نحو مشابه، وشهد خيانات عنيفة وعمليات قتل ومباغتة تُذكر بأساليب عمل المافيات الحديثة.

أبو بكر البغدادي ستالين «القاعدة»… و «فقه التوحش» منيفستو التنظيم

الخميس، ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

تنظيم «داعش» في سورية غيره في العراق، والمقصود بهذا التمييز هو الممارسة. هذه الحقيقة يبني عليها كثر من «السلفيين الجهاديين» ومن المراقبين تفسيرهم لهوية التنظيم ولبنيته، وتُحدَّد على ضوئها توقعات لمستقبله.

في سورية هو قوة غريبة، وهو أكثر عنفاً، ولا ضابط لممارساته. الإمارة التي أقامها في مدينة الرقة شرق سورية، مارس فيها منتهى العنف. أقام الحد على العشرات من أبناء المدينة، وفرض البرقع على النساء ومنع التدخين حتى داخل المنازل. والقوة التي انتدبها لتنفيذ هذه المهمات هي من غير السوريين، أي «مهاجرين» عرباً وغير عربٍ لا يمتون للمجتمع المحلي بأي صلة. والأهم من هذا كله، أنه راح يكفر الفصائل المقاتلة من الجيش الحر ومن الفصائل الإسلامية، وبعضها يشبهه لجهة هويته الدينية ونموذجه السلفي.

أما في العراق، فالوضع حتى الآن مختلف تماماً، فقد قاتل «داعش» إلى جانب العشائر وحزب «البعث» والصوفيين، واندرج معهم في تشكيلات لإدارة المناطق التي تم انتزاعها من الجيش العراقي، لا بل إنه ترك لغيره من هذه الفصائل مهمة إدارة الموصل، على رغم أنه كان القوة الرئيسية التي دخلت المدينة بعد انهزام الجيش العراقي فيها. ولعل الفارق في نموذجي «داعش» في سورية وفي العراق يتكثف أكثر لجهة علاقة هذا التنظيم بالعشائر في كلا البلدين. ففي سورية زجر التنظيم العشائر وأجبرها على المبايعة ولم يُقم اعتباراً لبنيتها، في حين أقام مع العشائر العراقية علاقات تراعي الكثير من تقاليدها، وأوكل العلاقة بكل عشيرة إلى عناصر منه يعودون بأصولهم إلى العشيرة نفسها.

هذا الفارق مرتبط بهوية «داعش»، فالتنظيم عراقي قبل أن يكون «سلفياً جهادياً» دولياً. قيادته عراقية بالكامل، وكذلك أمراؤه المحليون، ومعظم مقاتليه. وإذا كانت «سورية» «جبهة النصرة» هي الموازي «الهوياتي» للتنظيم العراقي، فارتباط الأخيرة بتنظيم «القاعدة» الدولي تولى مهمة وصلها بـ «السلفية الجهادية» الدولية، وجنبها شُبهة الوطنية التي تعتبر نقيصة جوهرية في ثقافة هذا النوع من التنظيمات. فعراقية «داعش» هي مأخذ عليه، إذ يشير شيخ «النصرة» الأردني الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى أن «كل مجلس شورى الدولة من العراقيين، وقسم كبير منهم كان من ضباط الجيش العراقي… وهذا ليس مأخذاً على التنظيم، ولكنه يُنبىء بأشياء كثيرة، لعل أهمها الطريقة البوليسية في إدارة العلاقات داخل التنظيم».

أما الباحث حسن أبو هنية فيجزم بأن «النصرة تشومت» (من الشام) وأن «الدولة تعرقنت»، ويقول: «على خلاف الولادتين الأولى والثانية لتنظيم «القاعدة»، فإن الولادة الثالثة (داعش) تشهد تركيزاً مكانياً، وهو ما سيؤدي إلى تحولات جوهرية في هوية التنظيم». وبينما يُشكل «المهاجرون» عصب «داعش» في سورية، يُشكل العراقيون عصبها في العراق، وهو أمر يُفسر أيضاً التفاوت الكبير في مستوى العنف الممارس في حق المجتمعات المحلية، ذاك أن «المهاجرين» أشد بطشاً وأقل ميلاً للتسويات المحلية، وهم غرباء عن التقاليد وينزعون لتكفير أي طقس محلي، ولإحالته إلى «هرطقات العامة» وجهلها، فيما تُشكل العناصر المحلية لـ «داعش» في العراق قناة قبول وميل للتسوية. ويلاحظ الباحث في العشائر العراقية يحيى الكبيسي أن «داعش» أكثر مرونة من تنظيم «القاعدة» الذي كان سبقه في العراق، في العلاقة مع العشائر، ويؤكد أن «فيه عناصر من كل العشائر في شمال العراق وغربه وهؤلاء العناصر هم من يتولى الصلة بينه وبين هذه العشائر. العلاقة مع عشيرة الجبور يديرها عناصر من العشيرة، ومع شمر والدليم وغيرها».

«الخليفة»

أبو بكر البغدادي، وهو اليوم «الخليفة» بعد أن أعلن «داعش» خلافته، عراقي من مدينة سامراء ومن عشيرة البدري، واسمه الحقيقي إبراهيم عواد إبراهيم، وهو خريج كلية الشريعة في بغداد، ويقول أستاذ درس على يديه إن الشاب لم يكن سلفياً، وتخصص في التجويد، ولا علاقة له بغير التلاوة. وقادة «داعش» الآخرون في معظمهم ضباط سابقون في الجيش العراقي المنحل، ومن أبرزهم أحمد العلواني وأبو مهند سويداوي وأبو علي الأنباري. ويُقلل عراقيون كثر من أهمية «مبايعة» العشائر في غرب العراق وشماله للبغدادي، ذاك أن العشائر نفسها كانت تبايع نوري المالكي ومن قبله صدام حسين. فالأهم بالنسبة إلى هذه البنى الاجتماعية (العشائر) هو علاقتها مع السلطة مهما كانت هذه السلطة، وشيوخ العشائر، الجدد منهم وغير الجدد، يعرفون أن سلطاتهم مستمدة من علاقتهم بالسلطة، وهم سريعو التبدل ويجيدون الانقلاب على أي سلطة متداعية. وبهذا المعنى يقول الكبيسي إن الأصل هو سيطرة «داعش»، ومبايعة العشائر هي نتيجة لهذه السيطرة وليست سبباً لها.

يملك «داعش» في العراق اليوم كل مواصفات القوة المحلية. قيادة محلية وعلاقات مع فصائل محلية واستثمار في العشائر. لكنه استحضر أيضاً فقهاً سلفياً يُعزز من «شرعية» نزوعه المحلي، وهو ما يُسمى في أدبيات «السلفية الجهادية» البعد المكاني للخلافة. فـ «داعش» يقول بـ «الشوكة والغلبة»، أي أنه يطمح إلى السيطرة المكانية وإعلان الخلافة على المنطقة التي يتم انتزاعها من الكفار. في حين يعتمد «القاعدة» وفرعه السوري، أي «النصرة» على «التمكين» وعلى «الحكم السلطاني»، وهي سلطة مبنية على «التعاقد لأهل الحل والربط ومع أصحاب الشوكة» وليس الفرض بالقوة.

ويُفصل داعية «جهادي» قريب من «جبهة النصرة» الخلاف الفقهي بين الجماعتين على النحو الآتي: «الأصل الفقهي للخلاف هو مسألة تنصيب خليفة للمسلمين بعد قرن من غياب الخلافة. هم نصّبوا الأخ أبو بكر خليفة للمسلمين وطلبوا من الناس مبايعته، وكفروا من لم يبايعه. لذلك، حصل قتال مع الفصائل المجاهدة في دير الزور. نحن نرى أننا ما زلنا فصيلاً مجاهداً من أجل إسقاط النظام في سورية، وسنبقى كذلك إلى أن يصبح هناك شورى مع أصحاب الشوكة ليتفقوا بعد ذلك على من يحكم. ليس هاجسنا أن نحكم الناس بالسيف، إنما أن نحكمهم بالشرع». ويشير الداعية إلى خلاف آخر بين «النصرة» و «داعش»، فيقول: «الخلاف الفقهي الثاني يتمثل بوجوب التحاكم لدى محكمة شرعية عند النزاع، بخاصة في مسائل الدماء، ونحن نعتبر أن ترك هذا التحاكم كفر. وقد امتنعت الدولة عن التحاكم بحجة أنها دولة وأن على الناس أن يتحاكموا عندها، ومن أبرز ما أثار هذه المسألة كان مقتل أبو خالد السوري، الذي من المرجح أن تكون الدولة هي من قتله».

ويلاحظ الداعية «اختلاف سلوك الدولة في العراق عنه في سورية لجهة التلطف مع العشائر العراقية وعدم قتالها، بخلاف الفصائل في الشام»، لكنه يُرجح أن يكون ذلك مرحلياً بانتظار «التمكين»، وليس تراجعاً عن أخطاء ارتكبت في سورية.

عراقية «داعش»

كل المؤشرات تذهب باتجاه تقدم عراقية «داعش» على مضامين «السلفية الجهادية الأممية». ويُشبه «جهادي» أردني من أصول يسارية هذه المسألة بالخلاف بين ستالين وتروتسكي، فبينما كان يريد الأول تثبيت السلطة (الخلافة)، لنفسه، كان الثاني يُقدّم على مهمة بناء الدولة مسألة تصدير الثورة. هذا التشبيه وإن كان يحتاج إلى الكثير من التدقيق، إلا أنه قد يفيد في مسألة تفسير الطموح إلى بناء السلطة. فالبغدادي أعلن «الخلافة» وأوجد لها أرضاً (شمال سورية والعراق، وغرب الأولى وشرق الثانية)، وحدد لها عصباً عراقياً، وأوجد لها تحالفات محلية. ولعل اللحظة التي تُعلن فيها «ديكتاتورية البروليتاريا» في «موديلها» الستاليني تُذكر، وإن على نحو غير دقيق، بلحظة استحضار «فقه التوحش» في موديله الـ «داعشي»، ذاك أن «أبو بكر الناجي»، وهو صاحب هذا الفقه الذي يتبناه «داعش»، يشير إلى أن لحظة قيام الخلافة، هي اللحظة التي تخرج فيها العامة من ضوابط الدولة الحديثة الكافرة فـ «تتوحش»، وفي هذه اللحظة على القادة أن يتولوا إدارة هذا التوحش بهدف إقامة الخلافة.

ومسألة أن «داعش» في سورية هو غيره في العراق، أدت إلى مفارقتين، الأولى أن «النصرة» ومن ورائها «القاعدة العالمية» لا تعترض على «داعش» العراقي، لا بل تقول إن نموذجها هناك، هو نفسه نموذج «النصرة» في سورية، ومن مظاهره إقامة تحالفات محلية والابتعاد عن التكفير ومراعاة تقاليد العشائر والسكان المحليين. وحين يُردد شيوخ «النصرة» هذه الوقائع، لا يخلو تردادهم إياها من إعجاب بـ «الإنجاز»، وهو إعجاب ممتزج بمرارة الخصومة والدماء بين الجماعتين. فقد أقام البغدادي سلطته على مساحات واسعة من الأرض. هذه السلطة تخاطب خصومه «الجهاديين» الذين لطالما حُرموا منها.

أما المفارقة الثانية فهي أن رجال «القاعدة» من غير مناصري البغدادي يُدركون أن عراقية «خلافته» مسألة ستُقدم الهم العراقي على بقية هموم الخلافة وهو ما سيريحهم في نهاية المطاف. ذاك أن «داعش» سيغرق في الهم العراقي على نحو ما أصاب جماعات «جهادية» أخرى في العالم، كحركة «طالبان» التي أعلنت الملا عمر خليفة للمسلمين، إلا أن خلافته لم تتجاوز أفغانستان، وجماعة «الشباب المجاهد» في الصومال، والتي يغلب الهم الصومالي همومها «الجهادية»، وجماعة «لشكر طيبا» الباكستانية الغارقة في المسألة الكشميرية حتى أذنيها. وانجذاب أي جماعة جهادية إلى قضية محلية سيُفضي في نهاية المطاف إلى «خلافة» محلية، وسيُصدع خطابها الأممي.

منطق مختلف

فرع «داعش» السوري يعمل الآن وفق منطق مختلف. ثمة ما يُشبه الاحتلال، ذاك أن «الدولة» أقامت خلافتها في العراق، وما على سورية إلا أن تقبل وتنضم. وحدة قصرية لطالما شهد التاريخ الحديث لبلاد الشام نماذج منها، وكانت سورية فيها الدولة الأصغر التي من المفترض أن تقبل الوحدة. في عام 1958 مع مصر، وفي عامي 1963 و1964 مع العراق. وكان السوريون، حتى الوحدويون منهم، هم من يتولى لاحقاً إنجاز الانفصال.

يلمس من يلتقي دعاة «السلفية الجهادية» من غير مؤيدي «خلافة» البغدادي حنقاً «وطنياً» على «داعش» وعلى ادعائه الحق في إقامة «الخلافة» خارج العراق. ولعل اختراق البغدادي هذه البيئة بنموذجه، يستمد قوته من جاذبية السلطة والحاجة إلى الاندراج في قنواتها، وأيضاً في كون البغدادي امتداداً لمسار في «القاعدة»، أو لخروج عنه كان قام به أبو مصعب الزرقاوي عندما قدم قتال الشيعة على قتال الأميركيين في العراق.

ومسألة تقديم «قتال الشيعة» تردنا في حالة «داعش» أيضاً إلى المضامين العراقية للصراع، ذاك أن التشيع هناك هو هوية مناطقية وعراقية، والنزاع حوله نزاع سياسي وليس مذهبياً، على رغم الشحنات الطقسية التي تشوبه. والمضمون الطائفي للمعضلة العراقية مختلف عن المحتوى المذهبي للصراع في سورية، ومن الصعب دمج الصراعين، على رغم القرابة السياسية بين النظامين في كلا البلدين. ولعل ما كشفه الناطق باسم «داعش» أبو محمد العدناني في رده على تنظيم «القاعدة» لجهة طلب الأخير منه مهادنة إيران، وقصر القتال على الأميركيين ما يُظهر مشهد الانقسام بين الجماعتين على نحو أوضح.

العشائر و «داعش»

الخميس، ٣ يوليو/ تموز ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

خلافاً للشدة التي تعامل فيها تنظيم «القاعــــدة» مع العشائر العــــراقية بعد عام 2003 ووصولاً الى عام 2008، عبر فرض نموذجه على المـــدن والعشــــائر، وإقامة الحدود وقطع الرؤوس، وهــو ما أفضى الى انتفاضة «الصحوات» عليه وهـــزمه، يبدي تنظيم «داعش» مرونة واضحة في فرض سيطرته على مدن غرب العراق وشماله.

فـ «الدولة» تعتمد أساليب متفاوتة في علاقاتها المحلية تبعاً للطبيعة العشائرية لكل منطقة. وهو أمر يُثبت مرة أخرى تقدم «السياسة» على «الشرع» في نشاط التنظيم في العراق. ذاك أن تفاوت التعاطي المحلي بين منطقة وأخرى يكشف أن ليس للتنظيم معيار «شرعي» واحد في العلاقة مع الفصائل المقاتلة ومع العشائر. في مدينة الفلوجة مثلاً يقاتل الى جانب «داعش» الجيش النقشبندي وفصائل بعثية أخرى والمجلس العسكري للعشائر. لكن الدولة فرضت على هذه الفصائل رفع علم الخلافة على جميع مواقعها. الفلوجة إمارة «داعشية» بالكامل، يمسك «داعش» بنواتها في الداخل ويتولى توزيع الفصائل الأخرى على أطرافها.

الأمر مختلف في مدينة الرمادي حيث قبل «داعش» أن يقاتل الى جانب الفصائل الأخرى مكتفياً بأن يرفع مقاتلو «داعش» فقط علم «الخلافة»، وذلك على رغم تفوق «الدولة» على كل الفصائل الأخرى في المدينة لجهة القدرات القتالية والقدرة على التجنيد. هذا في المدن، أما في البادية والصحراء حيث مناطق الصفاء العشائري، فهناك يُمكن الدولة أن تُجري تسوية واحدة مع العشيرة الأكبر، أو العشيرة السائدة. تتمثل هذه المناطق في العرب والوسط بمدن حديثة وهيت والقائم، وتحولت في هذه المدن السلطة بمعناها السياسي والعسكري الى «داعش» فيما تولت العشائر الإدارة اليومية لحياة السكان.

ويقول شيخ عشيرة أنبارية: «هذه الاستجابة للحساسيات المحلية ما كنا نشهدها في أيام أبو مصعب الزرقاوي الذي حكمنا بحد السيف». ويشرح أن الانتماء لـ «داعش» يتم عبر مستويين، الأول يضم المقاتلين المحترفين الذين غالباً ما يتمركزون في وسط المدن، فيما يتم توزيع المتطوعين على أطراف المدينة وعلى الجبهات، والعلاقة بين المقاتلين المحترفين وبين المتطوعين منعدمة لما قد تشكله من خطورة أمنية ومن احتمالات اختراق.

و«داعش» لم يظهر عنفاً حيال ما كان يُسمى «صحوات» في غرب العراق، ذاك أن قادته يدركون إمكان استمالة الكثير من شيوخ العشائر ومن قادة الصحوات، خصوصاً أن البنية العشائرية تعرضت للكثير من التصدع. ويقول الباحث يحيى الكبيسي: «عشيرة الجغايفة مثلاً معظمها صحوات وشرطة محلية، وهي الآن متحالفة مع الأمن والجيش، لكن من الممكن أن تتوصل هذه العشيرة قريباً الى اتفاق عشائري مع داعش يعفيها من المواجهة، فهذا ما جرى تماماً مع عشيرة البو محل، فالأخيرة كانت قريبة جداً من الجيش، لكنها لم تقاتل داعش وتوصلت الى اتفاق معه وسلمته مدينة القائم».

دموع «أبو قتادة» لم تُبعد أشباح «داعش» عن الأردن

الجمعة، ٢٧ يونيو/ حزيران ٢٠١٤

عمان – حازم الأمين

الدموع التي ذرفها الفلسطيني عمر محمود عثمان، لحظة نطق القاضي الحكم ببراءته من قضية «التآمر على أمن الدولة» في الأردن، ليست ما كان ينتظره مناصرون للرجل في الأردن ممن جعلهم تقدم «داعش» في العراق يتحولون من مناصرين لـ»جبهة النصرة» الى مناصرين لـ «الدولة» على ما يُطلقون على «داعش».

وصحيح أن الحكم ببراءته جاء موصولاً بتأجيل المحاكمة في قضية أخرى، وهو ما أبقاه في السجن حتى تاريخ 7 – 9 – 2014، لكن براءة أبا قتادة في القضية الأولى ترافقت في عمان مع ضجيج هائل في كل الأوساط حول ما «أنجزه» تنظيم «داعش» في العراق. والبراءة إذا ما أضيفت الى خطوة الإفراج عن القطب الآخر لـ»السلفية الجهادية»، أبو محمد المقدسي قبل أسابيع وإلى الوقائع الميدانية في العراق واقتراب «داعش» من الحدود الأردنية، لا سيما وأنها تسيطر على مدينة الرطبة أقرب المدن العراقية للأردن، فإن تحفظ داعشيين على دموع الرجل يأتي مدفوعاً بعزم «الإنجاز» العراقي، وما خلفه من ارتدادات صدعت «السلفية الجهادية» نفسها قبل أن تثير ذعراً في الدول المجاورة.

أبو قتادة الذي كان انحاز في الانقسام بين «داعش» و»النصرة» الى الأخيرة، قال لـ «الحياة» من خلف قضبان المحكمة أن تقدم «داعش» في العراق لن يؤثر في خياراته، واستبعد أن يكون لهذا التقدم دور في إقدام المحكمة على تبرئته.

كلام أبو قتادة جاء مناقضاً لتوقعات مناصري «داعش» من التيار السلفي الجهادي الأردني الذين قال بعضهم في لقاءآت مع «الحياة» أنهم يتوقعون تحولاً في موقف أبو قتادة وأبو محمد المقدسي، لا سيما وأن الأخير قال أنه بصدد مراجعة موقفه من الانقسام، بعدما كان انحاز الى «النصرة» والى تنظيم «القاعدة» الدولي في فتاوى أصدرها من سجنه.

البيئة «السلفية الجهادية» في الأردن تشهد في ظل هذه المتغيرات تجاذباً حاداً، ويبدو أن «الدولة»، أي «داعش»، هي من يُسجل نقاطاً هذه الأيام على حساب «النصرة». هناك أكثر من 1200 أردني يقاتلون في سورية في صفوف (النصرة وداعش)، وهناك نحو 300 قتيل سقطوا من بينهم.

صار للأردن اليوم حدوداً مع «داعش» وأخرى مع «النصرة»، فالحدود مع العراق والتي يبلغ طولها 181 كيلومتراً تشهد تبدلاً في هوية من يسيطر عليها، وهي الامتداد لمحافظة الأنبار التي تسيطر «داعش» على معظمها، والحدود مع سورية يبلغ طولها نحو 378 كيلومتراً تسيطر «النصرة» على الكثير من المناطق المطلة عليها. هذا الأمر يرتب بحسب ما قال وزير الأعلام الأردني محمد المومني لـ «الحياة» أعباء أمنية وعسكرية هائلة. لكن الدولة الأردنية «تجيد التحرك وسط هذا الموقع الدقيق للمملكة».

«داعش» تتقدم في البيئة «السلفية الجهادية» في الأردن، لا بل أنها تخاطب من هم أبعد منها. لـ «النصرة» الأجيال القديمة والمتوسطة من «المجاهدين»، ولـ»داعش» الأجيال الجديدة. والحدود الأردنية – السورية أقفلت في وجه المتوجهين الجدد الى «النصرة» في درعا، بينما الحدود التركية – السورية ما زالت تغذي «داعش» بالمهاجرين الأردنيين.

في عمان لا يبدو أن خبر تبرئة أبو قتادة منفصل عن أجواء «الإنجاز» الداعشي. الرجل أفتى ضد «داعش»، لكنه أبرز وجوه «السلفية الجهادية» في العالم، وحضر محاكمته ممثلون عن السفارة الأميركية في عمان وهيئآت حقوقية دولية. ولم يكن الحكم حدثاً أردنياً، فقد جاءت وسائل الإعلام العالمية ليس فقط لتشهد النطق بالحكم، انما أيضاً ظل «الدولة» كان حاضراً، والجميع كان يريد من الرجل أجوبة عن رأيه بـ «داعش».

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى