صفحات الثقافة

تحقيق: قلق الجملة الأولى .. كيف تبدأ الرواية؟/ حسين بن حمزة

 

 

 

لا بد أن يعثر الروائي على جملة أولى يبدأ بها. بدونها لن تبدأ الرواية. قد لا تكون تلك الجملة هي الأولى فعلاً، بل جملة أو جمل أخرى ستقود الكاتب إلى جملته الأولى التي سيقبل أن تظهر في روايته المنشورة. أما قبل ذلك فالأمر مرهون بتطورات الرواية نفسها. قلق البداية ربما يظل يتقدم مع تقدم الكاتب في الرواية، وربما حينها يتخلى عن صفحات كثيرة من أجل تلك “الجوهرة” التي يعثر عليها لاحقاً.كان ماركيز يقول إنه لا يحتاج إلا إلى تلك الجملة لكي ينساب كل شيء، بينما تحدث كتّاب آخرون عن عُسر البداية، وألم الولادة، وقلق الافتتاحيات. سؤال الجملة الأولى، ولنقل إشكاليتها، هو دعوة إلى الفناء الخلفي للكتابة، إلى الورشة السرية أو “الصندوق الأسود”، حيث يكون الكتّاب وحيدين مع موادهم الأولية، ومع أمزجتهم وأساليبهم ولغاتهم وعوالمهم. وهذا التحقيق ينطلق من هذه الإشكالية، ماذا تعني الجملة الأولى للروائي، كيف سيصطاد القارئ بها، وما هي علاقتها بجسم الرواية ككل، ومتى يعثر عليها .. أسئلة يجيب عليها ستة روائيين في شهادات قصيرة ومكثفة:

جبور الدويهي : بدايات مختلفة

فيما يخصني لا اعرف تماماً من أين تخرج الجملة الأولى في رواياتي، فلكل بداية حكاية إذا صحّ التعبير. ربما أسعى كما سائر الكتّاب لإحداث وقْع ما، للتلويح بوعد، او لمجرد استقبال لائق عند عتبة الباب. فأن أقول في مطلع رواية “حيّ الأميركان”: “خرج عبد الرحمن بكري من غرفة النوم حافياً…” يعني أني اصاحب عمداً في البداية شخصية ثانوية جداً ستُخلي النصّ سريعاً لأبطال أكثر حضوراً، وذلك إمعاناً باللعب، تمتعاً بفسحة الحرية المطلقة التي تسمح بها المطالع. سيبقى الشعور بالحرية موجوداً لكنه يصير مع التقدم بالكتابة أكثر ارتهاناً للعناصر النصية المتراكمة في مراعاة معروفة لمنطق السرد والتطور المقنع للشخصيات. على العكس، ابدأ روايتي الأخيرة “طُبع في بيروت” بما يشبه التجوال السينمائي (travelling) في مرافقة من خارج للشخصية الرئيسية للرواية: “في عزّ صيف لاهب استبدّ بمدينة بيروت في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نزل شاب مرفوع الحاجبَين المقوَّسين كأنه يومئ دائماً بقول لا، من باص للنقل المشترك..”. تعمدت هنا التعريف ايضاً بالمكان كما أضفت اليها لاحقاً تحديد حقبة تاريخية بعينها تسهيلاً للعبة الزمن المتداخلة في فصول الرواية اللاحقة. وتأتي الإشارة الى الحاجبين من باب التفاصيل المجانية التي توحي بأمر غير مؤكد وتعد باستكشاف لاحق لأطباع الشاب.

في “مطر حزيران” وطالما اخترت بداية الأحداث من قاعة الصفّ في المدرسة، (وأدرك هنا والآن أني أميل الى البدايات الطَرَفية أي الانتقال من خارج الحقل الدرامي الى داخله) انتابتني رغبة في أداء تحيّة الى “مدام بوفاري” فقلّدت مطلع رواية فلوبير الأشهر (التي تبدأ من مكان مماثل) بصورة شبه حرفيّة: “كانت الساعة تقترب من السابعة في قاعة الدروس عندما دخل علينا المدير يتبعه بوّاب المدرسة. من كانوا يغالبون النعاس منّا وهم كثر صبيحة يوم الاثنين هذا، رفعوا رؤوسهم”. لكني وفي مراجعة لتسلسل السرد أرجأت ما أردته مطلعاً الى بداية الفقرة الثانية.

أما ما نقرأه من مطالع معروفة فلا بدّ انها تشي، كما مطالعنا، بموقع الراوي، إن كان خارجياً او داخلياً، وامتيازاته، إن كان عليماً وحتى هويّته، وتعرّف بالمكان والزمان وحتى احياناً بطبيعة الموضوع. فبداية “مئة عام من العزلة: “بعد سنوات طويلة، في مواجهة فرقة الإعدام، تذكّر الكولونيل أوريليانو بونديا بعد ظهر ذلك اليوم الذي صحبه فيه والده ليعرّفه على الجليد”، تحضّرنا الى جولة واسعة في الزمن لأنها تفتح القوس من الطفولة الى الموت وتعد بالمغامرات والمآسي والغرابة من قبل راوٍ بعرف مكنونات شخصياته ولو أنه على الأرجح لا يشاركها أفعالها بل يكتفي بسردها. وافتتاحية بروست الشهيرة “طالما أخلدت الى النوم باكرا”، وهي ربما أقصر جملة في “البحث عن الزمن الضائع” المعروفة بجملها البالغة الطول، فتحيل الى راوٍ حاضر في الرواية يسرد حميمياته وهذا ما ستفي الرواية الطويلة الشهيرة به تماماً. و”اليوم توفيت أمي. او ربما البارحة لست أدري” أبلغ بداية على لسان بطل البير كامو، “الغريب” حتى عن مشاعر البنوّة.

في النهاية يمكن القول ان الجملة الأولى غالباً ما تكتب لاحقاً او يدخل عليها التعديل فهي تصاغ بما يتوافق مع الرواية كما انتهت اليه وليس كما بدأت به.

*روائي لبناني

أحمد سعداوي : قلق البدايات

لا أعتقد أن الروائي سيكون صادقاً تماماً إذا قال بأنه يتبع مع الجمل الافتتاحية والفقرة الاولى من رواياته النمط ذاته في كلّ مرّة.

لا أعتقد أن هناك نمطاً ثابتاً، لكن على الاغلب كل الروائيين ربما يرغبون أن يضعوا “كلّاباً” في الجملة الاولى والفقرة الاولى تسحب القارئ الى الرواية، حسب وصف جون برين للمفتتحات الناجحة.

بالنسبة لي غالباً ما ينضج مفتتح الرواية خلال تقدم العمل على الرواية، وفي روايتين من الأربع التي اصدرتها حتى الآن كان المفتتح شعرياً جداً. الفقرة الاولى في رواية “باب الطباشير” يمكن عدّها قصيدة. وفي رواية ” فرانكشتاين في بغداد” كان المفتتح درامياَ متصاعداَ من الجملة الاولى .

أعتقد أن كل رواية حسب موضوعها ومناخها هي التي تحدد طبيعة المفتتح والجملة الاولى. ومن الجيد أن يقلق الكاتب للجملة الاولى، ولكن ليس عليه أن يفرط بالقلق، لأن كل شيء يتطوّر وينمو خلال مسير العمل، ومن مسوّدة الى أخرى، والجملة الاولى التي نكتبها في الرواية أول مرّة لن تبقى على حالها. هذا طبعاً بالنسبة لمن ينظر الى كتابة الرواية كمشروع عمل يتطور وينضج، أما من يرى الرواية كالقصيدة تنزل بالوحي مثل كلام مقدّس يكتب لمرة واحدة ثم يذهب الى المطبعة، فبالتأكيد الكاتب الذي يتحرك تحت هذا التصور سيعاني كثيراً في كتابة “الكلام المقدس” الذي ينزل عليه. لانه يريد كل شيء كاملاً منذ البداية، لا أن يكتمل، كما هو التصرف الأكثر “روائية” من خلال الجهد والعمل والاستمرار بالكتابة والحذف والاضافة والشطب وما الى ذلك من إجراءات شغل معتادة.

روائي عراقي

منصورة عز الدين : أُحجية ومفتاح

“قالوا من يمت إثر طعنة قاتلة في الحلم يُقتل في اللحظة نفسها في الواقع. ومن يسقط في حلمه من مكان شاهق مرتطمًا بالأرض يتوقف قلبه على الفور. فلماذا بقيت مريم إذن على قيد الحياة؟”

هكذا بدأت روايتي الأولى “متاهة مريم”. رافقني (أو ربما أرّقني) هذا المفتتح طوال فترة كتابتي لها. كان تساؤلاً موجهاً لمخيلتي، لغزاً عليّ حله. كنت أتوقف عن الكتابة لشهور حائرة في الوصول إلى إجابة فنية مناسبة، وأكتب كالممسوسة في أحيان أخرى رغبةً في استجلاء عالم لم يكن قد بان لي منه بعد سوى لمحات خاطفة.

ككاتبة، أحتاج إلى مثل هذا الدافع لمواصلة كتابة عمل ما بحماس. أرى الكتابة، في جزء منها، كلعبة رموز وأحجيات. والجملة الافتتاحية الناجحة أحجية ومفتاح في آن. يحتاج الكاتب المفتتح القوي القادر على إثارة فضوله وخياله وفتح العمل أمامه بينما يكتب بنفس درجة احتياج القارئ له.

أثناء كتابة “وراء الفردوس” كان الأمر مختلفًا. لم أعثر على جملتي الافتتاحية سوى في منتصف عملية الكتابة. كتبت مشهداً يبدأ كالتالي: “كنمرة هائجة نزلت سلمى رشيد درجات سلالم بيتهم الثماني، يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبي الضخم الذي يحمله.” وفي الحال أدركت أن هذه هي جملتي الافتتاحية، وأعدت كتابة العمل مجددًا انطلاقًا منها. رأيتها تعبر عن شخصية البطلة ووضعها الاجتماعي وتوحي بمأزقها، كما أن المشهد الافتتاحي مكتملًا مثير للتساؤل والفضول، أو هذا ما تمنيته على الأقل.

في “جبل الزمرد” أردت أن يعرف القارئ منذ اللحظة الأولى أن “بستان” هي مركز العمل وأنها مسربلة بالغموض والغرابة والأسرار. وفي “أخيلة الظل” كان يهمني الإيحاء للقارئ بأنه أمام لعبة تخيلات وافتراضات وأنه شريك لي فيها. بشكل ما، أرى الجملة الافتتاحية كعقد مفترض مبرم بين الكاتب والقارئ.

كقارئة أيضًا أنتبه كثيراً للجمل الافتتاحية في الروايات التي أقرأها. بعضها له تأثير الصدمة؛ يشبه صفعة أو لكمة خاطفة مثلًا. بعضها الآخر يسحبني بنعومة إلى فضاءات العمل. قد تكون مغلفة بضبابية مقصودة ناتجة عن رغبة الكاتب في إثارة الفضول أو الحيرة أو التعجب. تتعدد نوعيات الجمل الافتتاحية وتختلف أسباب قوتها، المهم بالنسبة لي أن تمنحني لمحة من جوهر ما أنا مقبلة على قراءته، أن تدخلني بسرعة في عالمه ونبرته ومزاجه.

لكن تظل أفضل الجمل الافتتاحية من وجهة نظري تلك التي ما إن أنتهي من قراءة العمل حتى أعود لقراءتها بعين جديدة، إذ تكشف لي طبقات جديدة فيها وفي الرواية نفسها لم أكن منتبهة إليها في القراءة الأولى.

غني عن القول أن هناك جملًا افتتاحية جميلة في حد ذاتها، فكرةً وإيقاعاً وأسلوباً، لكنها غير ماهرة في تحقيق ما سبق وأشرت إليه. وهناك مفتتحات ناجحة ومكتملة في روايات متوسطة أو حتى عادية. كما أن هناك روايات مهمة مكمن ضعفها في مفتتحها، لكن ثمة روايات تنسجم كل عناصرها وتتكامل معًا.

* روائية مصرية

ليانة بدر : بنية الرواية هي الأهم

قرأنا كثيراً حول أهمية الجملة الأولى أو المقطع الأول في الرواية، وهو ما يتداوله الكتّاب كثيراً الا أنني أعتقد جازمة أن المشكلة في الرواية العربية أكثر تعقيداً . فلربما نقرأ روايات جذابة مشغول عليها في بدايتها إلا اننا سرعان ما نصدم بالبناء الهش والتراكيب المهلهلة في داخل النص . وعليه يبدو وكأننا نشاهد ما يبدو “من بره رخام ومن جوّا سخام ” على رأي المثل الشعبي عندنا، بينما تركت المقدمة لتجذب الأنظار وتشجع على قراءة البقية.

البنية بكاملها هي ما يهم ولا يغيب عنا الأثر الفعّال في اجتذاب القارىء في البداية ، وهو ما لا يشفع وحده في تقديم رواية جديدة بدا وكأن من يريد طرحها له غاية إثارة الإعجاب الاكيد .

لقد تحول نشر الروايات في العالم العربي الى صناعة استهلاكية يمكن لأي كان ان يشتريها بدفع سعر الورق والطباعة . ويمكننا أن نجد أولئك الذين يأملون بكسب منصب اجتماعي يسبقه لقب كاتب أو روائي وقد لجأوا الى ألاعيب من هذا القبيل . وما أجدر بِنَا أن ندقق فيما يتلو من ثرثرة فارغة او حشو سخيف في اي عمل ادبي .

كان هيمنغواي يقول ان فن الكتابة هو فن الحذف ، وما يمارس في الكثير من الروايات العربية إنما هو على العكس تماماً . إنشاء يتلو انشاء وثرثرة تتلو الاخرى ، وكأن الكاتب مفوض من طرف مكتب انتاج لتقديم سيناريو حلقات تلفزيونية يطمح في بيعها والتكسب منها .

وكم وكم قرأت روايات مرشحة لجوائز كبرى من هذا القبيل وكأن من كتبها كان متأكداً من ان القارئ سوف يكتفي بهذا القدر كي يصاب بإعجاب موصول.

فهل يدل هذا على تردّي مستويات النوع حالياً ؟

ربما !

* روائية فلسطينية

حبيب سروري : منبع السرد

تصميم الفقرة الأولى من الرواية، لا سيّما جملتها الأولى، لحظة تكوينية ذات أهمية فنيّة خاصة. هي المدخل، الفاتحة، المفتاح، ومنبع السرد الذي يسيل النص بعده حتى الجملة الأخيرة.

يلزم هذه الفقرة وضعَ أوّل طوبات النص وخطوطه التشكيلية من ناحية، والبحث عن جذب القارئ وتخديره وسحره وإسقاطه في مطبات الرواية من ناحية أخرى.

لكل ذلك، اختراعها لحظةٌ صوفية ذات أهمية استثنائية. ليس للرواية فحسب، لكن للسيمفونيات وللنصوص الهامّة الكبرى.

من ينسى افتتاحية السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، “الفصول الأربعة” لفيفالدي، فاتحة الإلياذة بغضب بطلِها أخيل، أو الآيات الأولى من التوراة والقرآن، بل أحيانا الآيات الأولى لبعض السورات (أعشق مثلا هذه البداية: “والعاديات ضبحا، والموريات قدحاً”)؟

من لا يتذكر العبارات الأولى لرواية “البحث عن الزمن الضائع” لبروست، “آنا كارينينا” لتولستوي، “بروكلين فوليس” لِبول أوستير، “العاشق” لمارجريت دوراس، “نساء” لِفيليب سولرس؟

فيما يتعلق بي، لحظةُ كتابة الفقرة الأولى، لا سيما جملتها الأولى، هي إحدى أصعب وأهم اللحظات الروائية قاطبة.

روح النص بأكملهِ يتكثف في طلعة هذه الفقرة غالبا، كما يلاحظ النقاد دوما.

أتذكّر ناقدا مغربيا، في يوم دراسي في 2006 عن أعمالي الروائية في الدار البيضاء، تطرّق إلى بعض جملي الأولى، مثل هذه في رواية “طائر الخراب” (الطبعة الثانية، رياض الريس 2011):

“إلهام تَسْبحُ قُربِي بأناقةٍ ومِهَنِيَّة. لا أحد حولنا، في هذا الضحى الربيعيِّ الدافئ، سوى أسراب النورسِ والفراشات المُلوَّنة.”.

ولهذه الجملة الأخيرة في الرواية نفسها: “…وأن أبْصُقَ عن قُرْب في وجهِ طائرِ الخراب”.

لاحظ الناقد تكرّر كلمة “القرب” في الجملتين، بما يعكس روح الرواية وبحثها الحميم عن الاندماج “بقرب” بأحشاء الحياة الجمعية اليمنية، والخوض في محرّماتها وممنوعاتها، والأسباب العميقة لآلامها الكبرى…

لن أتحدث في هذه الشهادة الصغيرة عن مختلف استراتيجيات اختراع الفقرة الأولى من الرواية وجملتها الأولى، لكن سأختار نموذجا واحدا فقط من تلك الاستراتيجيات، مارستُهُ في روايتين، بشكلين مختلفين: الانطلاق من حُلم لتكوين الفقرة الأولى في الرواية!

الجملة الأولى من أوّل رواياتي بالعربية، “دملان” (دار الآداب، 2009) تبدأ بتحديد موضع منزل الأستاذ ع.ش.ب “في العمارةِ الصغيرة التي تقع في ركن شارعنا، بين صيدلية سقراط ومكتبة المُعرّي.”…

سيبدو لاحقا أننا في بداية حلم، تنطلقُ منه، وتواصلهُ خلال أكثر من 400 صفحة، روايةٌ تدور في معمعان أديم الواقع!…

أما الفقرة الأولى لآخر رواية لي: “حفيد سندباد” (دار الساقي، 2016) فهي تنطلق من حلم صغير راود الراوي يوم 31 يوليو 2027 الذي تدور خلاله معظم الرواية.

يدور الحلم في الماضي، في منتصف السبعينات من القرن الماضي:

“عشيةُ ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة كنتُ أسير قلقٍ غامض. لاحظت ذلك معشوقة صباي، فِريال، عندما كنّا نختلي سرّاً في كثيبٍ رمليٍّ قصيٍّ في ضواحي عدَن، في تلك الليالي الفردوسية من منتصف السبعينات الجهنمية.”

سمح لي الانطلاق من الحلم، في الروايتين، بالدخول في صلب السرد كما أحب، بعد تأثيث الخطوط الأولى من لوحة المكان في “دملان”؛ وبعد نقش الخطوط الأولى من الأزمنة والأمكنة المتداخلة في “حفيد سندباد”.

روائي يمني*

عزت القمحاوي : رأس الرواية

في جلسة صلح عرفية حضرتها صغيراً، أخذ أحد المتخاصمين يحكي وقائع الخلاف مع خصمه، وتشعبت منه الحكاية، حتى هتف به أحد قضاة الجلسة بنفاد صبر: «فين الراس، امسك الراس»!

كاد الشاكي أن يخسر قضيته، لأنه لم يمسك برأس الحكاية. التعبير وافد من خبرة التوليد التي يتقنها كل الفلاحين، لتوليد حيواناتهم.

الجملة الأولى هي رأس الرواية، وكما يتخذ الجنين الطيب الوضع الصحيح في الرحم، وتطل رأسه بسهولة؛ تأتي الجملة الأولى بتلقائية،  وتنبيء عن ولادة سهلة. وعادة ما تكون هذه الجملة حاكمة للرواية كلها شكلاً وموضوعًا، وتقوم غالبًا على المباغتة. نجد مثال هذه البداية عند كاوباتا، في الجميلات النائمات: «وأرجو أن تتجنب المضايقات السمجة، لا تحاول أن تضع أصابعك في فم الصغيرة النائمة» وبشكل أوضح نجدها في مسخ كافكا: «استيقظ جريجور سامسا، ذات صباح، بعد أحلام مزعجة؛ فوجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة هائلة». نستطيع أن ندرك من جمل أولى كهذه، أننا بصدد حكاية لا تحتمل التطويل، وستمضي إلى هدفها كالوتر المشدود. ونستطيع أن نؤكد بثقة إن أحدًا من الكاتبين لم يبحث طويلاً قبل أن يخط كلماته الأولى هذه، وإنها لم تكن شيئًا آخر، كأنها كانت هناك منذ الأزل.

هذه المباغتات قليلة في الأدب، فالأكثرية للروايات التي يمكن أن نقول إن كاتبها تحير واجتهد كثيرًا كي يمسك بالرأس.

إحدى متعي كقارئ للروايات، هي محاولة فرز النوعين من البدايات، وتخمين قدر الجهد الذي بذله الكاتب في الإمساك بالرأس. وبوصفي كاتبًا، كنت محظوظًا بمولود ين لم أبذل مجهودًا لتعديل وضع الرأس، هما روايتي الأولى «مدينة اللذة» والأحدث «يكفي أننا معًا».

بقية الولادات شهدت أنواعًا من العسر أفضت بمشروعات الروايات إلى مصائر مختلفة. أجلس أمام الشاشة، أدون الجملة الأولى، وأنتظر أمامها: لا، ليست هذه.

أحيانًا ينحصر الشك في إطار الجملة نفسها،وبعد محاولتين أو ثلاث تلوح البداية الصحيحة، التي ستجر البقية وراءها، وأحيانًا أكتشف أنني فرحت بالسراب، الذي يبدز أحيانًا من الكسل. أتأمل الفقرة القصيرة مقارنة بالبياض اللانهائي بعدها على الشاشة؛ فأحس أنني نملة عليها أن تنقل هذا الجبل من البياض إلى الجهة الأخرى. وقتها أحتاج إلى مساحة صالحة للمشي حول موقع الكتابة، أعاود صنع قهوة جديدة، وفي النهاية، يكون السرير الملجأ الحزين، أتمدد لأفكر، ثم أقوم ثانية مشجعًا نفسي على إضافة سطر جديد، وقد ينتهي الإرهاق بالنعاس الرحيم، فتتأجل المهمة لجلسة آخرى، وهكذا، بألم وصلابة لا تلين!

بعد التقدم قليلاً، سأعرف ما إذا كانت هذه رواية أم لا. أعرف ذلك بانشراح الصدر وسهولة التقدم، وقد يستمر التعثر؛ فأفقد الثقة في المشروع كله، وأصرف نظري عنه. عندها لا يكون هناك سوى مواساة النفس بالخروج إلى الحياة، وفي الأثناء الانخراط في المتعة التي بلا ألم: القراءة، حتى يلوح حمل جديد.

* روائي مصري

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى