صفحات الثقافةفواز حداد

تحوّلات الفضيحة/ فوّاز حداد

 

 

اعتنت الصحافة في العالم بالفضيحة وأفردت للفساد مانشيتات رئيسة، فالفساد أم الفضيحة، أكثر ما يكون الاهتمام بها، عندما تتناول سياسيين معروفين، أو فنانين مشهورين، أو رجالاً ونساء لهم شأن في المجتمع، تتصل مثلاً بعمولة، أو افلاس واختلاس، والمستحسن موقف مشين، كالخيانة الزوجية، أو الشذوذ… شيء ما على علاقة بالجنس أو المال. هذا النهج ما زال سائداً ورائجاً في الغرب، تتعيش عليه صحف ذات تاريخ عريق في الصحافة الصفراء، فالفضيحة عريقة عراقة تاريخ عمل على التشهير بأباطرة وملوك وأمراء… في العصر الحديث، غالباً ما تكون تصفية حساب، وأحياناً اهتمام أناس فضوليين أو مهووسين بالفضيلة. الصحافة تتنافس على اقتناصها، وتعتبرها سبقاً صحفياً.

الصحافة العربية، لا تسمح بتداول أخبار فضائحية عن ذوي الشأن باعتبارهم ثروة قومية، سمعتهم من سمعة الدولة. أما المعارضون المغضوب عليهم، فالسجن مأواهم، الكلمة المكتوبة تغفل عنهم وتتجاهلهم، كأنهم لم يكونوا يوماً من البشر. منذ سنوات اصبحت الصحافة اكثر صراحة. وهذا دليل تقدم، بعد شيوع الفساد والاقبال على الفضائح، أصبحت تدر قراءً وأموالاً، وهي فضيحة بحد ذاتها.

تكمن جاذبية الفضيحة في انكشاف أناس مرموقين لأشخاص عاديين، لاسيما عندما تحمل قدراً من الاذلال الاجتماعي، فالناس يشفون غلّهم مما يرمز إليه سقوط طبقة أعلى مستوى ومغايرة في وحل الأقاويل، ولا عجب في أنها تخلف لدى الشامتين الشعور بتميزهم الاخلاقي، ولو كان فيها خراب بيوت وتدمير سمعة.

في العقد الثاني من القرن الماضي، اكتسى فعل الفضيحة في الأدب جانباً ايجابياً، مع سقوط الأسر الحاكمة في أوربا، وانتصار الشيوعية في روسيا. تزايد مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وازدهر طوال عقود الحرب الباردة. باتت الفضيحة مشمولة برعاية الدول الكبرى، بحيث أصبح مطلوباً من الكاتب أن يفضح في أدبه الطبيعة الجشعة للعالم الرأسمالي، وما يتميز به من انحدار أخلاقي وتهتك برجوازي، عدا عن استغلال العمال، وانتهازية اليمين، وعوالم رجال المال اللاأخلاقية…الخ. بينما الطرف الآخر، اعتنى بفضح ما يجري وراء الستار الحديدي من محاكمات صورية، واعدامات وكبت للحريات… يقاوم فيها البطل ذاك (الرجل الصغير) على كلا الجانبين عالماً بشعاً ويعمل على تغييره.

كان اليسار بطروحاته الجذرية الجذابة، وإن لم تكن مجدية في حقل الابداع، يقود الأدب في أزمنة الالتزام والنضال. في ذلك الوقت تتالت فضائح الامبريالية العالمية ناهبة الشعوب الفقيرة، مثلما لم تفتر فضائح الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، إلى أن انعقد النصر للإمبريالية العالمية، كان من نتائجه، تحلل الأنظمة الاشتراكية وتصدع الحركات اليسارية في العالم، وانفراط عقد التحالفات الأممية مع بلدان العالم الثالث.

أعقبها انهيار الكثير من المسلمات العقائدية، وتراجع الشعارات التقدمية، ومعها الأدب الملتزم، أحبطته الردة الهوجاء، فاعتصم بعض الأدباء بالصمت، وآخرون انتظروا يائسين عودة الأمور الى مجاريها السابقة، غير أن الفراغ أعقب العاصفة، وكان هائلاً بحيث أن الكثيرين ضاعوا في متاهاته بلا ايديولوجية هادية، وإن وجدوا ما يملأه بالارتداد على كل ما طمحوا إليه، فجرى الانتقال من القيم إلى وهم القيم، ومن الأخلاق إلى سذاجة الأخلاق، تمظهرت في الأدب، بدحض الحب والالتفات إلى العلاقات العابرة، وتبجيل نمط البطل الفحل والبطلة المتحللة، رافقه تسلل تيار لا يهتم بالتركيز على الحريات السياسية والاجتماعية، وإنما على الحرية الجنسية، فهي الأصل.

اعتقد الأدب في بلدان العالم الثالث أنه يجاري الغرب في تحرره، باعتماد التعويذة الغربية النابذة للحشمة القديمة، لكنه وصل متأخراً، كان الغرب قد ولج طور الاباحية، والاجتراء على الحرمات والمحرمات ، وهكذا مهما تقدم الأدب في هذه البلدان، فالغرب يسبقهم بأشواط، ما شجع الادباء على حرق المراحل، غير أن الربيع العربي حلّ، بعد أن تأخر طويلاً، ليطرح سؤال الحريات، على أن كارهيها بأنواعها كافة، حوّلوا الربيع إلى جحيم، فكان محرقة أحرقت أدباء كباراً، لم يخفوا عداءهم للشعوب، على أنها غوغاء، مثلما اصطلى بنارها آخرون شامتون بالمقاومة والممانعة، ومن نجا منها أصبح مطلوباً من أنظمة لا تتعامل بالفضيحة، إذ القتل أجدى وأمضى.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى