صفحات الرأي

تحية إلى صادق جلال العظم.. قاتِل آباء السماء والأرض/ محمد حجيري

 

 

من بين المثقفين أو المفكرين العرب، يبقى المفكر السوري الدمشقي (الارستقراطي) صادق جلال العظم من الأسماء الأكثر سجالية، أو الأكثر شغفاً في صناعة السجالات ومواكبة الجدل الثقافي بنظريات وآراء مختلفة ونقدية وتنويرية. والسجال عنده لم يرتبط بقضية بذاتها، بل يمتد من ما بعد هزيمة 1967 الى “الربيع العربي”، مروراً بخرافة “الحب العذري” وميتولوجيا “ابليس” وقضية رواية “آيات شيطانية” بعد فتوى الخميني بإعدام الروائي سلمان رشدي، وصولاً إلى الاسلام السياسي والعولمة والماركسية واليسار العربي والعلمانية، وفي كل مرحلة كان للسجال وقعه وتأثيره، بين المؤيدين والخصوم.

أنا الآتي من منطقة نائية ولدي هوس الكتب، حين زرت شارع الحمرا (بيروت) للمرة الأولى، بحثاً عن كتب في مكتبات وبسطات المدينة، كان في ذهني كتاب “نقد الفكر الديني” لصادق جلال العظم (إلى جانب “أين الخطأ” للشيخ عبدالله العلايلي)، فالشيء “الممنوع” بالنسبة إليّ كان هدفاً محبذا بذاته، ربما لأني كنت في مرحلة الفضول الثقافي. قرأت نص العظم عن “مأساة ابليس” واعتبرته فتحاً. كانت المرة الأولى التي أقرأ فيها عن هكذا موضوع بطريقة مخلتفة مغايرة خارج منطق الترهيب والترغيب.

يحاول العظم اعادة بعض الاعتبار للشخصية (ابليس) الميثولوجية التي لحقتها أعتى التشويهات… هي نظرة فلسفية مغايرة لمسألة ابليس والسجود لآدم والأمر الإلهي. حماستي لهذا النص في جانب منها، كانت جزءاً من صراعي الذاتي بين الثقافة والدين في بدايات شبابي، كأني وجدت في “مأساة ابليس” النص الذي ينسف أساطير اعتدناها في يومياتنا واكتسبناها من “ثقافة الدين” والتربية بالفطرة. في الكتاب أيضا يؤكّد العظم على أهميّة النقد لكثير من جوانب الحياة العربية، لا سيما نقد الجانب الدينيّ. حيث يتحدث عن الصراع بين الدين والعلم، وكيف يكون هذا الصراع مخفيّاً في العالم العربي. ويتطرق الى محاولات مرجعيات اسلامية، الايحاء بوجود توافق بين الاسلام والعلم، ويعتبرها مُجاملات مُنمّقة لا أكثر ولا أقل. والنافل أن الكتاب وناشر الكتاب تعرضا إلى المحاكمة والملاحقات القانونية في بيروت، بحجة إثارة النعرات الطائفية، أو الحض على النزاع بين مختلف طوائف الأمة أو تحقير الأديان، رغم أن الكتاب، كما جاء في حيثيات الحكم الصادر بحق العظم، يضم مقالات ما هي سوى “أبحاث علمية فلسفية تتضمن نقداً علمياً فلسفياً”… وسبق المحاكمة ان كان للمشارك في اعداد الإعلان العالمي لحقوق الانسان، المفكر اللبناني شارل مالك، شأن في فصل صادق العظم من الجامعة الأميركية في بيروت، لأنه نشر مقالة في ملحق جريدة “النهار” (شباط 1967) بعنوان “الله والإسلام في الجامعة الأميركية”، انتقد فيها مؤتمراً عقده شارل مالك بعنوان: “الله والانسان في الفكر الإسلامي المعاصر” ووظفه في خدمة “الحلف الإسلامي” الذي كان معادياً آنذاك للرئيس عبد الناصر.

كان “نقد الفكر الديني” مقدمة للدخول في عوالم صادق العظم، فهو نشر كتاب “النقد الذاتي بعد الهزيمة” في العام (1968)، فتناول تحليلاً ونقداً بطريقة عقلانية لا عاطفية ايديولوجية عصبية، البنية التحتية المنتجة للبنية الفوقية، وهما، بطبيعة الحال، بنيتان تتقاسمان مسؤولية هزائمنا. ويرى العظم أن الشخصية العربية تميل إلى إزاحة المسؤولية عن النفس وإسقاطها على الغير، وقد تجلت هذه النزعة بكل وضوح – في نظره- بعد هزيمة حزيران، وتتمثل هذه النزعة في محاولة إرجاع الهزيمة العربية (يسمونها النكسة والنكبة) إلى عوامل خارجية.

ولم يكن العظم وحده من لجأ الى التفكير خارج أوهام الأنظمة العروبية والشعارات العريضة، فقد ولدت مجموعات يسارية كثيرة، خصوصاً بعد ثورة أيار الطالبية 1968، تحمل شعارات ثقافية كانت مؤسسة لأنماط تغييرية مختلفة، وكان الشاعر نزار قباني نشر “هوامش على دفتر النكسة” (1967) الذي مُنع أكثر من مرة، وبعده عرض سعد الله ونوس مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” (1969)…

ولم تقتصر كتابات العظم على القضايا السياسية الكبرى. فبالتزامن من “النقد الذاتي” أصدر “في الحب والحب والعذري” في العام 1968، لينزع عن هذا الحب صدقيته ويجرده من النزاهة والسمعة التي له في التاريخ وفي الوجدان على السواء، ويتعامل معه كظاهرة مرَضية وغريبة في الذات البشرية. يرى العظم أن “تحوُّل الحب العذري عن المحبوب بوصفه موضوع الحب الطبيعي إلى صورة خيالية تدغدغ مشاعر العاشق وتوترها وازدهاره على الوهم والخيال والغاية المؤجلة دومًا وأبدًا إلى المستقبل، هي كلها من أعراض النفوس التي تعاني حالة مرضية معينة”. عاش هذا الكتاب كأنه “أيقونة” ثقافية لا ترتبط بزمن، في مقابل أن بعض كتب العظم بقيت ابنة مرحلتها السياسية، ومنها “دراسات نقدية لفكر المقاومة الفلسطينية” (1977)، و”سياسة كارتر ومنظرو الحقبة السعودية” (1977)، و”زيارة السادات وبؤس السلام العادل” (1978).

في العام 1990، عاد صادق العظم الى الجدل مع انهيار المنظومة الشيوعية فأصدر كتاب “ثلاث محاورات فلسفية. دفاعًا عن المادية والتاريخ “، الذي يُذكِّر أكثر من غيره بـ”التكوين الفلسفي للمؤلف”، لكنه في الوقت نفسه كتاب منشغل بهم فكري وسياسي. الكتاب هو عبارة عن قراءة نقدية في تاريخ الفلسفة الحديثة والمعاصرة، يخصص للماركسية حيزًا كبيرًا، مؤكدًا قناعته بأن الماركسية ستبقى “فلسفة العصر النقدية بامتياز ما دامت التشكيلة الرأسمالية هي العصر بامتياز”.

وشغف العظم بالسجال سيعود بقوة في كتاب “ذهنية التحريم” ومتفرعاته. فهو، في جانب، يعري بعض المثقفين والكتّاب العرب الذي التحقوا بالخمينية في مرحلة من المراحل، ويشرّح العقل العربي المعاصر من خلال تركيزه على نسق المحرمات السائد، والذي يحدد سمات اتجاهات العرب المعاصرين ويؤثر في سلوكهم الاجتماعي. يفضح معظم الكتّاب العرب الذين كتبوا عن قضية رواية “آيات شيطانية” لسلمان رشدي، بعد صدور الفتوى الخميني بإعدامه، فأبرز الكتّاب لم يقرأوا الرواية، وبدا انهم أقرب الى المثقفين الدينيين. والأمر الآخر أن العظم كتب نقده استناداً الى مراجع تراثية، بعضها كان غير مألوف بالنسبة إلينا، خصوصا تلك التي تتعلق بالنص القرآني والاحاديث النبوية وسجع الكهان. لكن، مع الوقت، تبين أن “جهلنا المقدس”، يرتبط بقلة انتشار الكتب والمكتبات ووحش الرقابة بكل أشكاله، وما كتبه العظم عن تلك المواضيع كان ما قل ودل.

صادق جلال العظم الكوسموبوليتي الدمشقي الذي يقول لا “أحن إلى خبز أمي”… و”قتلت آباء السماء والأرض جميعا”، ميزته “تقريب الفلسفة من الشارع، وتخليصها من عزلة الأكاديميا” بحسب الشاعر دارا عبدالله. كان موقفه واضحاً لناحية معارضة نظام بشار الأسد في سوريا وتأييد الحراك الشعبي، فاتُّهم بأنه ينظّر للسنّة، ولفكر “الإسلام السياسي البزنسي”، وهو ازعج كثيرين لأنه شبّه “العلوية السياسية” في سوريا بـ”المارونية السياسية” في لبنان، على اعتبار ان السلوك والنتائج يختلفان.

صادق جلال العظم الذي يقال اليوم كلام كثير حول مرضه، تحية له…

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى