صفحات مميزة

تخيّل ذهني مشروخ عن مدلول مضمحل/ محمد جمال باروت

 

 

كشفت عملية التحوّل الاجتماعية الكبرى الجارية في المجتمعات العربية، اليوم، وهي بالنسبة إلينا عملية التحول البنيوية الكبرى الثالثة، بعد التحول من العثمانية إلى النظم الانتدابية، أو الحمائية، أو شبه الاستعمارية، والتحول من الأخيرة إلى مرحلة الدولة المستقلة سياسياً، عن استدعاء مكثف لمفهوم العشيرة، أو القبيلة، كمفهوم تفسيري تحليلي في فهم التحولات الجارية. ما يلحظه الباحث الذي يدعي الاختصاص في هذه المرحلة الثالثة التي برزت، بشكل خاص، بعد حصار العراق واحتلاله (1991-2003)، مع ضرورة وعينا بأن كل تحقيب هو اصطلاحي بالضرورة، هو ارتفاع وتيرة استخدام مصطلح العشائر والقبائل في المعجم التداولي المهمين، ولا سيما على مقالات وتقارير وخطط السياسيين والصحافيين وكتّاب مقالات الرأي وواضعي الخطط والسياسات بشكل تلقائي. ونعني بالتلقائي، هنا، أنه ينطوي على التسليم بوجود بشري جماعاتي متجانس وواحد ملموس، وأكيد لعشائر أو قبائل، ينبعث من جديد، أو يعاد إنتاجه، بعد أن خيّل لكثيرين أن التحولات الاجتماعية التي قادتها الدولة العربية بعد الاستقلال، في مرحلة التغيّر الاجتماعي الكبرى الثانية، قد تخطت مرحلة العشيرة محوراً للانتماء إلى مرحلة الانتماء الوطني أو القومي.

هذا التسليم يهمل، بالضرورة، من الناحية المعرفية، مساءلة المفهوم نفسه عن حقيقته الاجتماعية، وبالتالي، عن العلاقة بين داله ومدلوله الجماعاتي الذي تغذيه ثقافة ومعارف سابقة؟ فهل ما نراه، اليوم، أو ما نسجله وما نرصده، اليوم، تحت اسم عشائر وقبائل ما تزال تحمل أسماء تاريخية ممتدة، هو عشائر وقبائل؟ تساعدنا النظريات الوضعية والتطورية والجزئية ـ الكلية الحديثة، كثيراً، على مقاربة ذلك. لكن، لا بدّ، هنا، من العودة إلى المقاربة الخلدونية للعلاقة بين “النسب” و”العصبية” التي تتأطر اجتماعياً في العشيرة أو القبيلة. فوحدة النسب تحقق وظيفة “الولاء والتلاحم”، وكأنها “صلة رحم” بلغة ابن خلدون، تبني تخيّلاً لهويتها يقوم على الأصل الدموي المشترك. ولقد علّمنا الأنتروبولوجي السوري المبكّر، أحمد وصفي زكريا، في بحوثه الميدانية ـ المبكّرة، كيف كانت تبنى عمليات توهّم النسب، وتفكك عشائر وقبائل بأكملها، ثم معادوة تجمعها تحت أسماء جديدة، منها ما هو متواصل مع قديمها، أو مع جديد تجذّره في قديم.

وفق نمط المعاش، تتحدد العشيرة بنمط الإنتاج البدوي المترحّل (النجعة الطويلة)، أو نمط الإنتاج الرعوي ـ الزراعي الذي يعتبر أرقى اجتماعياً من النمط الأول (المزاوجة بين النجعة القصيرة المدى والحياة القروية). وفي التاريخ، خلال عشرة قرون على الأقل، كان هناك تمييز مستمر بين المعمورة والبادية، وفيه تمييز لنمط انتقالي هو الحضر ـ البداة، وهو نمط الإنتاج الرعوي ـ الزراعي. وبالنسبة إلى الشام، كانت عشائرها وقبائلها العربية منذ ما قبل الفتح الإسلامي رعوية ـ زراعية، وكانت كبرى الهجرات القبلية من شبه الجزيرة قد حدثت عند حدود القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، إلى أن حصلت هجرة بالمعنى البدوي للرحّل الأقحاح على مشارف القرن الثامن عشر، مع وصول شمّر إلى الجزيرة السورية الحالية، وكذلك عنزة. لكن تحضّر عنزة، وحتى شمر السورية، أي بشكل أساسي شمر الخرصة، قطعت شوطاً كبيراً في التحضّر والانتقال إلى الحياة القروية، في مرحلة ما بين الحربين، ولا سيما بعد نشوء الدولة المستقلة. والخلاصة أن نمط المعاش العشائري، أو القبلي، تعرّض إلى تفككات وانحلالات بنيوية، ولا سيما في مرحلة عملية التغيّر الاجتماعي الثانية الكبرى بعد الاستقلال، بفعل برامج وسياسات التحديث والتوسّع الحضري والمديني، والتدخل الكثيف لدور الدولة في شتى زوايا الحياة الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ الثقافية، سواء كانت هذه الدولة “محافظة” أم “راديكالية”. فأين اليوم في جنوبي الأناضول الحالي، وسورية الحالية، ولا سيما الجزيرة السورية، الاتحاد الأكبر للعشائر الكردية، وهو عشائر المليّة؟ وماذا يعني أن تكون مليّاً سوى بشكل شبحي، ينتمي فعلياً إلى التذكر والتخيّل؟

كانت النتائج الموضوعية لعملية التنمية تفكك العشيرة، أو القبيلة، لكن متطلبات الضبط الاجتماعي ـ السياسي السلطوية والتسلطية التي تشكل الزبائنية إحدى أهم دينامياتها، كانت تعيد إنتاج دور جديد لما يسمى، اليوم، عشيرة أو قبيلة. وجوهر فكرتنا أنه يركّز على دال انفصل عن مدلوله، أو تشرخت علاقته معه بشكل بنيوي، وإن كان تقوّض البنى الثقافية والذهنية في التاريخ أبطأ من تفكك نمط معاشها. وهذه الأدوار لا تُفهم في سياق مفهوم العشيرة والقبيلة، بل في سياق بناء السياسات التسلطية لبنيات زبائنية، تستمد نسغها الثقافي من متخيّلات ذهنية وثقافية موروثة. إن ما يطلق عليه، اليوم، اسم العشيرة، أو القبيلة، يمكن أن يطلق على أية جماعة تدعي التلاحم والتماسك والتجانس. واليوم، كما يشير المولدي الأحمر، يستعمل بعض الباحثين لوصفها مفهوم القبيلة، بعدما أفقدوه، إلى حد كبير، صلته بفكرتي البساطة والبدائية ومتغيّرات القرابة والجيرة. بل أصبح مفهوم القبيلة، في بعض الدراسات، آلية من آليات التفكير في ما بعد الحداثة. وبالمناسبة، في التسعينيات، عادت كثرة كاثرة من الدنماركيين إلى ادعاء أصول عشائرية وجماعاتية متلاحمة ومتجانسة، فهل الدانماركيون عشائر وقبائل؟

أما أهل العرب، وغيرهم من واضعي السياسات تجاههم، فما زالوا يستخدمون حتى اليوم بشكل تلقائي دالاً تحت اسم العشيرة والقبيلة انفصمت علاقته مع مدلوله العياني المحقّق، وغدا مجرد دال ذهني “طليق” أو شبحي، بينما يتعاملون مع الدال على أنه يعكس حقيقة سوسيولوجية واقعة. والحال أن ما تسمى عشائر وقبائل اليوم هي إنشاءات ذهنية مشروخة عمّا يتوهّم أنه عشائر وقبائل، وليست أدواراً جديدة لكيانات اجتماعية راسخة، فحين يكون أكثر من ثلاثة أخماس بدو ليبيا قد غدوا في المدن، أو يكون أكثر من تسعة وتسعين بالمئة من عشائر الشام قد غدوا متحضرين ومدينيين، ما الذي يبقى من متخيّل العشائر سوى الدال المشروخ عن الواقع؟ هذه الموجودة، اليوم، ليست عشائر وقبائل، سوى على مستوى المتخيل أو الدال المشروخ. ولكي نعرفها يجب أن نفكر بمفاهيم جديدة مستمدة من تحولاتها نفسها التي اضمحلت فيها العشيرة أو القبيلة، بنمط معاشها، وإن كانت تخيلاتها الذهنية والثقافية المثابرة لدواع تسلطية، أو زبائنية، أو تجمعية اجتماعية جهوية، تزعم أنها “صلبة”، ودليل ذلك أنه ليس هناك من عشيرة واحدة منسجمة متلاحمة، وفق محور الانتماء العشائري المتخيّل، بل هناك قسم مقاول يحاول إعادة إنتاجها دواع تتصل بقضايا السلطة والتأثير، سواء كان ذلك من السلطات أو هؤلاء المقاولين. وقد نكون، حينئذٍ، إزاء هذا الانفصام بين الدال المتخيل والمدلول السوسيولوجي المتعيّن القابل للقياس، والمضمحل أو المتلاشي أمام تخيلاتٍ يُعاد إنشاؤها في سياق انتشار آليات الوعي الزائف، ومنه الوعي الطائفي والوعي العشائري أيضاً. ونحن، بالأحرى، في عملية التحول الاجتماعية الكبرى الثالثة الجارية، إزاء عملية تحول بنيوية كبرى، تنهار وتتفسخ فيها أشياء كثيرة، وتبدأ فيها عملية التكوّن من جديد. دعونا نُسائل الدال، هنا، عن رصيده في مدلوله. وليس المدلول هو يافطات عشائر المشاهدة أو البقارة أو المقداد.. إلخ، فهذه تنتمي برمتها إلى التخيل. وهذه المساءلة عملية معرفية تفكيكية، ستمكّننا من فهم ما نحن عليه بصورة واقعية أكبر، ومن فهم ممكنات تحدي التحكم السياساتي السلطوي والإقليمي والدولي بمصيرنا. وهنا دعوة ليحل بلغة إلياس مرقص فهم العلاقات بين الأشياء مكان تخيلات علاقات الرأس.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى