صفحات الناسعزيز تبسي

تدابير عائلية/ عزيز تبسي

 

 

تزامن، إبلاغ أخته من مكان إقامتها في بلدتها الساحلية القريبة من طرطوس، بضرورة تسجيل ابنها في جامعة حلب، لأنه لم يحصل على معدل علامات كافية ليسجل في الجامعات الحكومية الأخرى، وهي عاجزة عن تأمين الإمكانيات المالية التي تتطلبها أقساط الجامعات الخاصة. تزامن بإبلاغ أخو زوجته من مكان إقامته في درعا، بضرورة تسجيله في الجامعة ذاتها وللأسباب ذاتها. باركا لهما ورحبا بهما لكونهما سيحلان ضيفين في بيتهما الصغير المتواضع، وذكّراهما بحجم المجازفة التي يتطلبها العيش في مدينة لم تستقر بها أوضاع الكهرباء والمياه اللتين تعتبران من مقومات الحياة اليومية، وعن اشتعال الجبهة الغربية للمدينة من حين لآخر، وتوالي القذائف على أحياء المدينة القريبة من مباني الجامعة، كما مخاطر الأمن، الذي يتعقب فيما يتعقب الشبان المتخلفين عن الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية، على شابين سيضطران للحركة اليومية في الشوارع، وهما ينقلان من موقع كليتهما الجامعية إلى البيت، فضلاً عن اضطرارهما للذهاب إلى الأسواق والبحث عن المكتبات لتأمين حاجاتهما اليومية التي تقتضيها الدراسة الجامعية، من قرطاسية وتصوير محاضرات، كما فضولهما للتعرّف على المدينة وأحيائها وحدائقها ومقاهيها، والطريق الصحراوي الطويل والمكلف مالياً الذي يفصل المدينة عن المدن الأخرى، والذي سيجبران على اجتيازه حينما تعصف الأشواق بالقلب لرؤية العائلة، وهو الذي لا يخلو عبوره من مجازفة تتربص بالمسافرين وتفاجئهم.

تحاورا قبل وفودهما، وسبرا قدرتهما على التواصل مع شابين لم يروهما منذ عشر سنوات على الأقل، ولا يمكن إدراج لقاءاتهما معهما قبل ذلك، إلا في نسق اللقاءات العابرة، للفروقات في العمر التي تفصلهما وقلة التواصل، فضلاً عن أثر السنوات الأخيرة عليهما وعلى الأسرة التي لم تبارح حلب في آن. ما رضخوا له جميعاً هو الحتمية التعليمية التي خضع لها الشابان، بعدما حالت مجموع علاماتهما في الشهادة الثانوية، دون تمكنهما من التسجيل في الفروع الجامعية التي يرغبانها، والحوافز التي تقدمها جامعة حلب بتخفيضها معدلات القبول، كخطة لتنشيط الإقبال عليها وإعادة الحياة للمدينة في آن. رغم ذلك لم يبق للشابين سوى التسجيل بنظام التعليم الموازي، الذي يتطلب مساهمة بقسط مالي، يسدد كل عام دراسي لصندوق الجامعة.

ويفصح عن حتمية أخرى يخضع لها الأهالي الذين لا يحوزون على أموال وامتيازات يستطيعون بها تعديل مسارات أبنائهم، وما زالوا يؤمنون بوهم القوة الخارقة للشهادة الجامعية، بوصفها وسيلة عبور سباق حواجز الحياة اليومية، للوصول إلى الاستقرار الاجتماعي، بالحصول على وظائف توفرها الحكومة، أو القطاعات الاستثمارية الأخرى.

تحدث الأول عن البحر والجبل، الزيادة الكبيرة في العمارات الجديدة التي ترتفع كل يوم لتؤجر أو تباع لعائلات النازحين الوافدين من المدن التي تشهد صراعات حربية، هجرة أقرباؤه الشبان فور الانتهاء من دراستهم الجامعية لتجنب الالتحاق بالخدمة العسكرية، وفقدان مدخرات أهلهم لإيصالهم إلى أمكنة آمنة استيقظوا ليجدوا أنفسهم بلا أبناء، المرابطون والمرابطات على جبهة “الواتس آب” يتلقفون آخر أنباء أولادهم، والبلاد الجديدة التي وصلوا إليها، الجمعيات السكنية للموتى كاسم بديل عن المقابر التي تتوسع كل يوم وتلتهم بساتين الزيتون.

تحدث الثاني عن درعا البلد ودرعا المحطة، وأنماط العيش المتاحة، والوسائل المتبقية لتأمين الأمان والمعيشة والتعليم، أخطار الحياة اليومية. تجنبنا السؤال عن والده الذي اعتقل لمدة محدودة في بداية “الأحداث”، وعمه الذي اختطف من الشارع واسترده أهله بعد أسابيع مهشماً، منزوع الأظافر، معتدىً عليه، مكسورة بطاقته الشخصية – نمط من أنماط عديدة متعارف عليه بين الحواجز الأمنية لفرض الإقامة الجبرية – عن الشوارع التي تترصدها نيران القناصة، عن حجم الخراب في المدينة وأريافها، وعن حجم التلف في القلوب والأكباد والكلى والأحابيل والرئات. عن حاجة أهل حوران إلى صوامع من الراحة والبسكويت لاستخراج الجفاف من الأفواه، المخلعة الأسنان.

إذاً لم نتحدث عن الخوف التي توطّن في العظام كروماتيزم، عن الناس الذين يمشون برؤوس تنحني على صدورهم….عن استبدال الكلام، بهز الرأس وترجيف الرمشين، وزم الشفتين.

تحدثنا: عن التين والزيتون ….والبلد الأمين.

يتساءل المرء في لحظات السكينة، عن القوة الجهنمية، التي راهنت ولا تزال على انتزاع الرحمة من الصدور، وتجفيف القلب بأملاح النذالة. استبدال بساتين الزيتون بحقول البطاطا، تفجير البهجة المتلقفة من غنائم المصادفة، بحقائب الانغماسيين وأحزمتهم، والقبض بأيد من فولاذ، على معاصم رهانات، لقتال وقتل لا نهاية لهما.

اقترنا بهذه البلاد الجميلة، وبددنا أعمارنا لا للتمتع بجمالها، بل لحراسته.

أكان من الواجب التأمين على بلادنا ضد مخاطر الحرائق والسرقة، كما يؤمن الأثرياء على قصورهم ومعاملهم وسياراتهم؟

غادرا البيت معاً، علق كل منهما حقيبته القماشية على كتفه، حملا أدوات الرسم الهندسي، وأوراق الوظائف الجامعية التي كلفا بها، نزلا درج العمارة وهما يتحدثان عن رغبتهما في العودة من الجامعة، في يوم مشمس، سيراً ليشاهدا بتمهل، لا تتيحه السرفيسات المسرعة، الشوارع والأحياء والعمارات، يصغيان إلى الناس وهما يتبادلون الكلام الرشيق بلهجتهم المحلية، ويتناوبون على قضم لفائف الزيت والزعتر، والتدرب على سرد وقائع سبع سنوات من الدم والدموع والخراب بنصف ساعة.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى