صفحات الثقافة

تذكُّر دمشق

غسان زقطان

لا يبدو اسم إبراهيم قاشوش، اسماً فنياً لمغنّ يرغب في نجومية ما، ما يشي به الاسم يبدو أكثر بساطة من ذلك بكثير، بصوت غير مصقول، صوت متحمس لا يخلو من رجفة بعيدة، وكلمات مرتجلة تتسلق على الإيقاع في رباعيات شعبية متداولة، وبهيئة متظاهر قادم من الحارات القديمة للمدينة، تلك التي لم تفقد ريفيتها بعد، بهذه الحمولة المرتجلة على نحو نزيه، غنى ابراهيم قاشوش أمام نصف مليون سوري في ساحة العاصي بمدينة حماة، بدون تجهيزات صوتية وبدون تقديم وعبر ميكروفونات تصلح لترديد الهتافات أكثر مما تصلح للغناء، ردد تلك اللازمة التي يرددها السوريون منذ أربعة أشهر: “سورية بدها حرية”.

كنت استمع الى الصوت وكانت تلك الحمولة واضحة تماماً، التعجل الواضح في إلقاء الكلمات وانتظار الترديد الجماعي ثم التكرار والاتكاء الثقيل على الياء المشددة قبل الانتقال الى المقطع الذي سيليه وهكذا في دائرة متصلة بين الهتاف والإنشاد بين الجواب والقرار بمعناهما البسيط جداً، وبتلك الدرجة الشعبية التي تسمح لأية حنجرة بالشراكة، بلا أضواء وبلا “تخت”، بهذا التقشف القادم من الفقر والحاجة كان بإمكان شاب من حماة في سورية صادف ان اسمه ابراهيم ان يضيف صوته الى آلاف الأصوات في عشرات الساحات والحارات الضيقة للقرى والأحياء الفقيرة في سورية.

في سورية الجميع يستطيع الغناء، حدث هذا منذ ما يقارب الشهور الأربعة، بدأ الأمر في حوران، وكان يمكن تتبع ذلك المزيج الخاص بين الأهزوجة الموقعة والهتاف، اللهجة التي قطعت طرقاً طويلة بين البادية وسهول القمح، ولكنها حافظت، بطريقة ما، على انحناءات تشي برحلتها، فيما بعد امتدت لتصل الى الوسط والشمال فيما يشبه بريدا عفوياً يتنقل بين القرى والأرياف البعيدة مشكلاً شبكة معقدة من الهتافات والأصوات واللهجات التي تشبه الناس والتي أخذت تتضح رويداً رويداً وهي تصعد من العتمة وتقترب من الضوء.

بالنسبة لي كان الأمر متشابهاً، كنت معنياً بالإصغاء، الغناء في الثورة حيوي لأنه بسيط، الثورات التي تغني هي ثورات قادمة من بيوت الناس ومن أحلامهم، وفي سورية ثورة مغنية، ثورة السوريين تمتلك حلمها ومثل شجرة عنيدة تواصل إضافة أغصان وأوراق وثمر الى جسدها المتعاظم.

لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يصر على سلمية حلمه منذ أكثر من مئة يوم وهو يواجه القتل، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يحمل وحدته مثل درع في مواجهة الطائفية والتفكك، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يرفض التدخل الأجنبي في وطنه وهو يواجه طلقة الأخ والشقيق المسلح، لا شجاعة تشبه شجاعة شعب يواصل دفن أولاده كل يوم منذ مئة يوم دون ان يشك في حلمه ودون أن تهتز يده التي تحمل أكفانهم، وكأنه في صبره وعناده ذاك يكثّر حلمه ويبنيه.

مغني حماة ومنشدها الذي كان اسمه ابراهيم، كان جزءاً من هذا الوصف، حيث لا ملامح ولا صور الا للقتلى، القتلى فقط يصبحون أكثر وضوحاً وتبدو ملامحهم أكثر حضوراً وأكثر إنسانية بمجرد موتهم، كان مجرد صوت يتحرك في رحلة المجاميع هذه، حتى طفا على ضفة العاصي ليصبح له اسم ووجه وشارب خفيف وسيدة تبكيه وهي تحاول إسناد رأسه وحنجرته المدماة.

كان هناك ما يشبه الرغبة في ان لا يكون كل هذا حقيقياً، رغبة في اننا لم نصل الى هذه النقطة التي يصعب العودة منها، ربما لهذا أيضاً ملت، وما زلت الى تصديق انه لم يحدث، ولكن الصور المؤلمة التي تواصل قدومها من هناك، القافلة المدماة للأطفال والشباب والأجساد المشوهة والمعذبة دون رأفة تشد رغبتي هذه الى الهلاك وتبددها تماماً، فلا يبقى في المشهد سواهم وهم يحملون أجسادهم الناقصة ويعبرون بها نحو حياتنا مثل قصاص على الصمت والخوف والنفاق، بينما صوت المنشد التي صادف ان اسمه ابراهيم يقودهم ليحيطوا بنوافذنا وكتبنا.

تَذكُّر دمشق

لا أستطيع أن أنجو من الشخصي في علاقتي بدمشق، أذهب، دائماً، إلى سنواتي هناك وبيوتي فيها، أصعد الأدراج إلى الشقة الصغيرة في “المزّة أوتستراد” لأن المصعد معطل، وأذهب مباشرةً إلى الطاولة البيضاء في المطبخ، هناك كتبت “بطولة الأشياء”، وعلى المقعد البلاستيكي المواجه، كان يجلس “غالب هلسا”، وكنت أقرأ له أحياناً، بينما هو مشغول بروايته “ثلاثة وجوه لبغداد”.

على الجانب الثاني من الطريق السريع منزل “ممدوح عدوان”، لم أكن زائراً مواظباً له على الرغم من أن بيته كان، دائماً، مشغولاً بالزوار والجدل والصخب الجميل الذي كان يرافق ممدوح.

أقف في “الزاروب” الضيق الفقير في “مساكن برزة” وأنتظر وجه “جميل حتمل” الذي سيظهر بعد قليل من فتحة في بيت الدرج ليلقي لي بالمفتاح، في الداخل سيقتلنا الحرّ ونحن نطفو فوق آلاف الكتب وأشرطة التسجيل وقصاصات الصحف، وسيغني “سميح شقير” في الليل “غرفة صغيرة” في آخر البروفات وسأبحث هناك، في تلك الغرفة الضيقة، الحارّة صيفاً والباردة شتاءً عن “صورة جيفارا” وحصان “يوسف عبدلكي”.

في الليل، أذهب إلى “القصور” إلى “الكاراج” الصغير الملحق ببناية في شارع مشجّر وجميل، تلك المساحة المعتمة والمزدحمة بالموسيقى والشعر وألوان الرسم، العتمة التي حوّلها حضور “نزيه أبو عفش” إلى جنّة من الصداقة، نزيه بصداعه الذي يتبعه مثل شبح يجلس على الصوفة الخشبية المتقشفة ووراء ظهره مباشرة لافتة معلقة على الحائط “غير الموضوع”.

في تلك الفجوة الصغيرة من دمشق وعلى مقعد متصلّب، سمعت نزيه يقرأ “النشيد المكّي” و”القلعة”، وما زلت أحدّق في صوته:

“ما جئت لكن جيء بي

ورميتُ بين يديْ أبي…”

بينما قريته “مرمريتا” تهبط من “وادي النصارى” وأمه المسيحية العربية النبيلة و”مار جرجس” الذي يحرس “مرمريتا”، جميعهم لينصتوا للشعر.

أفكّر في دمشق، وأتذكّر بينما تواصل الفضائيات سرد أعداد القتلى ويتصاعد الدخان والغبار من بيوت وأحلام وذكريات أصدقائي الذين تركتهم هناك، أو تركوني هنا.

الطرق على جدران الخزان السوري

يواصل السوريون الطرق على جدار الخزان، يطرقون بقوة وعناد ، كانوا يطرقون دائماً على ذلك الجدار ولم نكن قادرين على الإصغاء، او اننا لم نكن نرغب في ذلك، البعض وهم كثيرون، لأن ثمة مصالح كثيرة تربطهم بالنظام، مصالح كثيرة منها الإقامة والعيش والشعار والاسترزاق السياسي، وهي اسباب كافية في نظرهم لتجاهل الحقوق البسيطة للسوريين، حق العيش بكرامة والتعبير بحرية والشراكة في تقرير حاجات يومهم وغاياته، البعض الآخر كان معنياً بعدم اغضاب النظام والحفاظ على تلك الشعرة التي قبل القطيعة، فسورية في النهاية صاحبة شعار المقاومة واحتضان المقاومين وسيصعب فعلاً الوقوف في صف خصومها، البعض الأخير كان خائفاً فقط، او صامتاً لأنه ليس بحاجة للوقوف أمام هذه البلاغة السياسية المسلحة بكثير من الأبواق والصارخين ومؤدي الولاءات، وهنا بالضبط يقبع الكثير من المثقفين العرب بعد ان وفر لهم شعار الممانعة والقلعة والصمود… إلى آخر هذا القاموس الذريعة الوطنية المناسبة لتجاهل السوريين والاكتفاء بالنظام كبديل عن الشعب والبلد.

السؤال ليس هنا، ليس في هذا التصنيف وليس في هذه الاصطفافات، انه في مكان آخر تماماً وهو كيف يمكن ان ندعم سورية حرة وتعددية وديمقراطية ومقاومة في نفس الوقت، ليس لديّ اقتراحات او برامج لتحقيق ذلك، ولا أظن ان مثل هذه البرامج موجودة خارج سورية، السوريون فقط على اختلاف توجهاتهم هم القادرون على وضع مثل هذا البرنامج عبر حوار وطني مسؤول تنخرط فيه جميع القوى الفاعلة السياسية والأهلية، النظام بمكوناته والمعارضة بتلاوينها، وهو ما يبدو ان الأمور ذاهبة باتجاهه، وان بتردد وحذر وارتباك. لا خشية على دور سورية الوطني والقومي، فسورية قوية موحدة ديمقراطية وعصرية قادرة على خدمة مشروع المقاومة بطريقة اكثر جدوى من سورية معزولة ومهددة من الداخل والخارج. وليس من الحكمة او من الواقعية ربط فكرة المقاومة بمؤسسة النظام وتجاهل المصدر الحقيقي للمقاومة وهو الشعب السوري بمكوناته المتعددة، ووضع حقوق الشعب في تعارض مع الدور القومي كما يحاول بعض المسترزقين والمتضررين من التغيير ان يلوحوا به عبر تحريض النظام ودفعه وتوريطه في مواجهة هو بغنى عنها مع شعبه، كل هذا من خلال تشويه التحرك الشعبي وازجاء الولاء للشعارات التي لم تعد كافية او قادرة على اقناع سوى اصحابها.

التغيير سيحدث في سورية، الجميع يصدق ذلك الآن، النظام والمعارضة ومؤسسات المجتمع الأهلي والناس، والطرق على جدران الخزان سيتواصل وسيهدر في صحراء الصمت المحيطة بدمشق وشقيقاتها من درعا في الجنوب الى القامشلي والساحل ودير الزور وجبل العرب مرورا بحمص وحماة وريف دمشق، المهم كيف سينجز السوريون ذلك وأين هي اكثر الطرق سلامة، بعيدا عن كمائن الطائفية والكراهية والانتقام والثأر. لقد أثبتت تحركات الانتفاضة السورية مسؤولية ووعي الشعب السوري وحرصه على النسيج الاجتماعي ووحدته الوطنية، رغم الاستفزازات ومحاولات الزج بشعارات خارجة عن وحدة الصف وعدالة المطالب، وهو، الشعب السوري، يقدم في هذا نموذجا متقدما من الشجاعة والوعي الى جانب ما قدمته مصر وتونس ويضيف بعدا وعمقا جديدين للربيع العربي المتواصل.

الخروج من دمشق الشام

إلى “أين”

تركنا دمشقَ على حالِها

محصّنةً بالمجازِ ومشغولةً بالبرابرةِ القادمين

على خيلِهم مِن حصونِ الجنوب.

ثلاثٌ وخمسونَ بريّة في الشمالِ

مُوثّقةٌ في صكوكِ الجباةِ

ومحسوبةٌ حبةً حبةً في حسابِ المكوسْ.

ثلاثٌ وخمسونَ مقتلةً في السهولِ..

سيؤتى بها

كي تُسمّى برسمِ الأميرْ

ويرفعها شاعرٌ في كتابِ الزمانْ

ثلاثٌ وخمسونَ جارية

في الطريقِ إلى أصفهانْ!

تركنا دمشقَ التي أطعمتْ خيلَنا في الفتوحِ

محايدةً مثلَ جبٍّ قديم

“.. وقد نغتدي ..”

لا نطيع الكلامَ

ولا نُشترى بالبلاغةِ مثلَ الطواويس!

وكان لنا في مجالِسها أخوةٌ في اللِسان

عصاةٌ وتجّارُ إبلٍ

رواةٌ وقرّاءٌ.. أصحابُ قولٍ

وطرّاقُ معنى وسمّارُ حانْ

..عصبةٌ من سوادِ العراقِ وأحياءِ بغدادَ

يلقونَ حجَّتهم للكلامِ

كما يطلقُ القانصُ الصقرَ خلفَ الطرائدِ

بيضاً وسمراً

وفيهم من الكردِ والزنجِ والتركمانْ

على بابِها ودّعتنا الجيادُ

وودعنا الجندُّ

قال لنا القاطنونَ بها، أهلُها،

ما يقالُ على البابِ للذاهبينْ.

رددنا لها “قاسيونَ” بأوصافه

مثلما ينبغي للأماناتِ إذ تُستردُّ.

تركنا لها نهرها جارياً، وهو نهرٌ صغيرٌ،

وأسماءَ جاراتها

والبغالَ التي حملت صيفَها كاملاً للثغورْ.

تركنا لها “بابَ توما”

وقبرَ ابن أيوبَ

والشيخَ ..

والخانَ للقاصدينَ المعريّ..

كانت توابيتُ جيشِ الكنانةِ

تخرجُ من بابها في طريقِ الجنوبْ

وكان التقاةُ المملونَ في بهوِها يقرأونَ

وكان السكارى يعيدونَ رسمَ الحواشي ويبكونَ

تحتَ الحجارةِ حيثُ الكتاب..

كانَ الغلاةُ من الباطنيةِ يلقونَ أولادَهم من حوافِ الجبال

وكان الدعاة على عجل يعبرونَ المسالكَ

من سهلِ حوران..

كان الشمالُ بعيداً ومحتشداً بالرجال.

وكان الدهاةُ يشّدّونَ أروقةَ الحكمِ

بالحيلِ المنتقاةِ من الشعرِ والسُّنةِ الظاهرة..

تركنا النساءَ الغريباتِ في “باب توما”

وظلّت علينا عطورٌ

أضاءت لنا سبلاً للذهابْ.

تركنا الفتاةَ ممددّةً في سريرٍ عريضٍ

ووقتاً يفيضُ على الجانبينِ

وبابَ الزقاقِ

الذي دونَ بابْ.

تركنا دمشقَ على حالِها

مصطفاةً ومأهولةً

في التباسِ المجازْ.

على مهلها تجمعُ الجوزَ

من شجرٍ عارضٍ..

حيث ينتظرُ الذاهبونَ إلى “أين”

حافلةً في قطارِ الحجازْ!

بنت في “العباسيين”

مالذي حدث لتلك البنت في “العباسيين”

كانت خائفة من رجل المخابرات في الطابق الأول وجلوسه المتوعد على مدخل البناية

كانت خائفة من الولد في الطابق الثالث

 الذي كان يهديها زهورا من الحديقة العامة، أصبح “شبيحا” فيما بعد،

أفكر بحججها الصغيرة وخجلها وهي تصعد حافية، دون أن تضيء الدرج، الى السطح  لترى دمشق من غرفتي،

والضوء الذي كان ينبع من عينيها العربيتين واللكنة التي احتفظت بها من أمها اليونانية،

شقة العازبين الفلسطينيين اللذان وصلا من بيروت بأسماء مزيفة وكوابيس من حرب الصيف

الذي كان يحلق ذقنه على الشرفة والآخر الذي يسهر في الليل

والناس، الناس الذين كانوا يلوحون لها، كل ليلة، قبل أن يختفوا في الشقق الأخرى؟

لم أفكر بها منذ ثلاثين سنة

وهاهي الحرب تأتي بها من جديد، وها أنا احدق بخطوط ظهرها الرائعة فيما تتشبث بحافة النافذة لترى المدينة

مالذي ستفعله الآن

وليس لديها سوى أخ مجند وثلاثة أضرحة في مقبرة المسيحيين.

ثلاثة شعراء سوريين في المنفى

ثلاث قصائد قرئت تحت ضوء شمعة في تلك الليلة

كانت الوجوه والمرافق تتلامس وهي متحلقة حول الشمعة المدخنة

 الشاعر الذي جاء من الساحل السوري كان يحفظ قصيدته عن ظهر قلب

ولكنه واصل انحناءه حول الشمعة كما لو انها تضيء على ذكرياته

الآخر قرأ بصوت منخفض نصا عن الحب

والكردي قرأ بالكردية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى