صفحات سوريةعمر قدور

ترامب الذي يشبهنا/ عمر قدور

 

 

لا تبدو شعبية الرئيس الأميركي متراجعة عربياً، في الوقت الذي تنحدر فيه داخلياً وعالمياً. آخر معارك ترامب الخارجية كانت مع المستشارة الألمانية التي التزمت الهدوء والدبلوماسية في ردها، فيما انبرى سياسيون ألمان آخرون للرد بقوة على تغريداته على تويتر. ومن ثم المشكلة التي حاول افتعالها مع عمدة لندن، على خلفية تعاطي الأخير مع الهجمات الإرهابية في مدينته، وفي ذلك خروج عن الأعراف المعتادة في أن يخاطب رئيس دولة عظمى شخصية أقل من نظيره في دولة أخرى. أما داخلياً فليس الأسوأ فتح تحقيق في نشاطات خيرية يديرها ابنه أريك ترامب، حيث تتوفر دلائل على عدم ذهاب التبرعات إلى مستحقيها، أو ذهابها لتصبّ في مصالح تجارية لآل ترامب.

صورة ترامب الذي لا يتوقف عن افتعال المشاكل الخارجية، فضلاً عن تفاقم فضائحه المتعلقة بالتواصل مع إدارة بوتين قبل توليه السلطة وغيرها مما قد يتكشف لاحقاً، تبدو كأنه تسير على عكس ما هو مأمول منه في المنطقة. أي أن ترامب العرب، وهذه ليست إحالة إلى شخصية لورانس العرب إلا للذين يرونه هكذا، يعِد بأملٍ ما بخلاف وجوهه الأخرى داخلياً وخارجياً. يجدر التذكير هنا بأن الناقمين عليه اليوم في المنطقة كانوا الأشد حماساً لفوزه في الانتخابات، على خلفية تقاربه المتوقع مع بوتين وتصريحاته الإيجابية إزاء نظام بشار أثناء الحملة الانتخابية. هذه النقمة، المبنية على خيبة الأمل، لا تعبر عن نقد جدي يخص ترامب تحديداً، بقدر ما تستلهم نقمتها المعتادة على السياسات الأميركية، تارة على سبيل الفولكلور اللفظي، وتارة بسبب التضرر منها.

صورة ترامب في المنطقة، لدى المرحبين بسياسته والناقمين عليها، تكاد تكون واحدة، فهي صورة الطائش المرجو منه الانقلاب على السياسة الأمريكية التقليدية، أو على السياسة الأمريكية التي بدأت مع نهاية عهد جورج بوش الابن. تحديداً، هذه الصفة التي تثير مخاوف أميركية داخلية ومخاوف عالمية، تبدو صفة مطلوبة في المنطقة لا لأنها تملك جاذبية إكزوتيكية، وإنما لأنها تداعب فكرة الانقلاب على المؤسسة لدى البعض، فيما يرى البعض الآخر أن التعامل مع شخص من هذا النوع هو أسهل بكثير من الدخول في متاهات التواصل مع المؤسسات الأميركية.

أيضاً، يظهر ترامب كأنه أميركي “يشبهنا”، تفاصيل من نوع اعتماده على أفراد أسرته أو شبهات الفساد المحيطة به تزيد من ظاهر الشبه. لكنه، قبل ذلك، رجل يكره الإستراتيجيا، رجل منحاز إلى مفهوم الصفقة المباشرة لا تلك الصفقات الكبرى المعدّة بعناية والمطبوخة بنفَس طويل في مراكز الاستشارات. هو صاحب شركة شخصية، بما درج عليه فهم هذه الكلمة لدينا، ويأنف الاعتماد على مجلس مدراء والفصل بين شخصه وشركته الاعتبارية. هذه سمة مشرقية في قلب العالم الرأسمالي، والأهم أنها تغري باستمالة مزاج صاحبها والتعويل عليه.

أن يهدد ترامب الصين ويتراجع عن تهديده، وأن يتراجع واقعياً عن بناء جدار عازل مع المكسيك، وأن يتراجع عن وعده بنقل السفارة الأميركية إلى القدس،… جميعها ليست خصائص شخصية تؤخذ في الحسبان، بل تعزز ذلك التصور عن غياب الانضباط الذي يميز العقل المؤسساتي. والخروج على المؤسسة بمعايير المنطقة مختلف جداً عن النقد الشعبوي الغربي لها، الموجة الشعبوية التي أتت بترامب إلى الحكم ضد المؤسسة الحاكمة كانت بسبب ما يُرى سيطرة نخبوية عليها، بينما في حالتنا نفتقر أساساً إلى مفهوم المؤسسة، وهناك نقمة دفينة تجاه المؤسسات الغربية مرتبطة بعداء لبعض السياسات الغربية، أو للغرب بمجمله.

بالطبع، قضايا مثل قرار ترامب الانسحاب من اتفاق باريس المناخي لا تثير أدنى اهتمام، إذ يبدو شأناً دولياً يُدار الظهر له، مثلما يُرى العالم وهو يدير ظهره لقضايا أكثر إلحاحاً في المنطقة. والغرب، كما نعلم، مُدان مرتين، حين يتدخل وحين لا يفعل. جزء أساسي من الآمال المعلقة على ترامب مبني على نواياه التدخلية في المنطقة، بخلاف سياسة سلفه أوباما. وفي هذا الجزء حنين إلى سلوك كان مُنتَقداً أيضاً في حينه، لكن هذا الحنين يبدو حنيناً بالتحديد إلى زمن مشابه هو زمن بوش الابن، حيث لم تُعرف عنه هو الآخر مناقب شخصية أثارت إعجاب العالم. ومن طبع هذا الحنين ألا يفسر التباين بين الزمن الحالي والسالف، فجورج بوش جمع بين الرعونة الشخصية والارتهان لطاقمه من المحافظين الجدد، بينما لا تسمح نرجسية ترامب له بإبداء الاحترام لطاقمه المقرّب، خاصة متى فشل الطاقم في التغطية على عثراته.

لم تقصّر وسائل الإعلام الأميركية، خلال فترة قصيرة من حكم ترامب، في إطلاق نعوت قلّ أن تطلق بهذه الكثافة على رئيس، من وصفه بالطفل المشاكس والطائش، إلى وصفه مداورة بالكاذب أو صراحة بالمعتاش على أوهامه الشخصية. أكثر من وسيلة إعلامية أفسحت المجال لنقاشات حول احتمالات عزله، وأقيمت ندوات غير رسمية في مراكز صحية مرموقة تناولت صحته العقلية، حتى طالب بعض المختصين بإلزامه بتعيين طبيب نفسي خاص. هذا بمجمله معروف لدى المتابع العربي، غير أنه لا يقلل من الآمال المعقودة على قدرة ترامب على القيام بعمل مرغوب فيه، الأهم أن مجمل هذه العيوب الخطيرة لمن يقود أقوى دولة في العالم لا تُعتبر عيوباً يُعتدّ بها بالمقارنة مع قوة موقعه الذي يُرى متماهياً بشخصه.

ليس مستبعداً عمل هذه الذهنية وفق النوايا فقط، فيصبح عجز ترامب إزاء المؤسسة نقيصة للأخيرة، لأن شخصية البطل هي دائماً على نقيض المؤسسة. هذه على سبيل المثال شخصية البطل المحبوب في هوليوود، وهي دائماً تستقطب التعاطف على حساب مؤسستي البوليس والقضاء، إلى درجة يصبح فيها اعتقال البطل نوعاً من التعدي على حريته وعلى فرادته. سيكون لحسن حظ الذهنية ذاتها وجود مؤسسات فاسدة حقاً، أو مؤسسات تعاني مأزق عدم التجدد ومواكبة متطلبات مجتمعها، ليصبح البطل خيراً، أو في حده الأدنى خيراً ممنوعاً.

مشكلة “ترامب العرب” أنه لن يساعد على تقارب أميركي-عربي، أو على تقوية المنطقة العربية في وجه التحديات التي تواجهها، لأنه أساساً بمثابة الطفرة في الحياة السياسية الأميركية، ولديه قائمة من الخصوم تبدأ بالذين يريدون التخلص من شخصه فقط وصولاً إلى من يريدون الإجهاز على توجهاته وما يمثله ضمن حزبه. الاحتفاء به لتراجعه عن انكفاء الأوبامية قد يصبح مثمراً متى توقفت المراهنة عليه شخصياً، ومتى توقف ذلك الانتظار الكسول لقدوم رئيس أميركي يشبهنا، ويملك في الوقت القدرات الخارقة لأبطال هوليوود.

المدن

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى