صفحات الرأي

ترامب.. عندما يهزّ الذيلُ الكلبَ/ بتول خليل

 

 

في العام 1997 قدّم لاري ليفينسون في فيلمه الشهير Wag the Dog رؤيته عن علاقة الإعلام بالسياسة في الولايات المتحدة وعلاقة الرئيس بمستشاريه ومساعديه، مستهلاً بداية الفيلم بسؤال يختزل قصته وما يتمحور حولها: “لماذا يهزّ الكلب ذيله؟ لأن الكلب أذكى من ذيله! في حين لو كان الذيل أذكى لكان هو الذي هزّ الكلب”، معتبراً أن المستشارين والمساعدين المقربين من مراكز القرار في الولايات المتحدة يملكون القدرة البارعة على قلب الحقائق، والوسائل التي تجعلهم الذيل الذي يهزّ الكلب وليس العكس، كما تتجلى قدرتهم في اختلاق أحداث وتسويقها إعلامياً ومن ثم توظيفها ضمن استراتيجية يلجأ إليها صنّاع القرار في الولايات المتحدة، بهدف تسخيرها لتشتيت الانتباه لتبرير أمرٍ معين أو خطأ ما أو التعمية عنه.

السياسة الأميركية تملك تاريخاً حافلاً من الأحداث التي تنضوي ضمن هذه النظرية، فيما يبدو أن سياسة الرئيس الحديث العهد دونالد ترامب لم تكن بمنأى عنها، حيث ضجّت الصحافة مؤخراً باتهامات  لكيليان كونواي، المستشارة الاستراتيجية في البيت الأبيض، عن اختلاقها لمعلومات تفيد بحصول هجوم إرهابي في مدينة بولينغ غرين في ولاية كينتاكي الأميركية، بعد زعمها بحصوله العام 2011 وإلقائها اللوم على وسائل الإعلام، متهمة إياها بالتعتيم على ذلك الحدث كنتيجة لانحيازها للرئيس السابق باراك أوباما، الأمر الذي اعتبره الإعلام الأميركي أنه محاولة مكشوفة من إدارة ترامب لتشتيت الانتباه عن الأزمة التي خلفّتها قرارات الرئيس بشأن حظر المهاجرين، وما رافقها من ردود أفعال غاضبة واستنكار محلي ودولي واسع.

وفي حين تفترض نظرية “الذيل الذي يهزّ الكلب” أن القادة السياسيين يخترعون حروباً في الخارج لتحويل أنظار شعوبهم عن مشكلة داخلية ما، فإن ذلك لم يكن ليتحقق لولا تسخير وسائل الإعلام لقلب الحقائق وفبركتها واستغلالها بهدف الترويج لأكاذيب السلطة والتعمية عن أزمة داخلية، وهو ما شهدت عليه الولايات المتحدة في أكثر من عهد رئاسي، حيث بدت الأحداث تماهياً مع ما جاء في رواية “البطل الأميركي” الصادرة عام 1993، والتي تكّهن كاتبها، لاري بينهارت، أن الرئيس جورج بوش الأب شنّ حرب الخليج ضد العراق عام 1991 لإلهاء الأميركيين عن الركود الاقتصادي الذي أصاب البلاد في ذلك الحين.

وعلى المنوال عينه قامت الإدارة الأميركية في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، العام 1998، بحرف الأنظار عن فضيحة علاقته بمونيكا لوينسكي، المتدربة في البيت الأبيض آنذاك، والتي رافقت تغطيتها الإعلامية ضجة واسعة أحدثت هزة في المجتمع الأميركي، في حين كان كلينتون يتطلع نحو ولاية رئاسية ثانية، فلم يكن أمام مساعديه سوى هزّ الكلب والترويج بأن إدارته هي المحارب الأول للإرهاب وأنها سوف تقوم باستئصال تنظيم “القاعدة”، ما دفع بكلينتون بإصدار أوامره بقصف مصنع ومخزن للأسلحة الكيماوية يديره ويستخدمه تنظيم “القاعدة” في السودان، ليتبين لاحقاً أن هذا المصنع لم يكن سوى أكبر مصانع الأدوية في السودان وكان يلبي 90% من احتياجات البلد للأدوية، ولم تكن له أي صلة بالإرهابيين، وأدى تدميره إلى وفاة كل العاملين فيه، إضافة إلى عشرات الآلاف من المرضى الذين حرموا من العلاج نتيجة لافتقادهم للأدوية اللازمة لمكافحة إصابتهم بالملاريا والسل والأوبئة القاتلة.

وعلى الرغم من أن إدارة كلينتون عجزت عن تقديم براهين تؤكد صلة تنظيم القاعدة بالمصنع وتبرر الكارثة الانسانية الناتجة عن قصفها له، إلا أنها نجحت حينذاك في كسب تأييد الرأي العام إلى جانبها. فيما كان تقييم الصحافة والمراقبين أن أسامة بن لادن تضاعفت قوته وشبكته في ظل رئاسة بيل كلينتون، ولم تتداعَ كما كان يزعم.

لكن يبقى المثال الأكبر على تآمر وسائل الإعلام مع الإدارة الأميركية ما شهده عهد جورج بوش الإبن، حين شنّت إدارته حملة إعلامية ضخمة، سخّرت قدراتها لإقناع الرأي العام الأميركي والعالم أجمع، بضرورة خوض الحرب على العراق مهما كان الثمن، بذريعة أن نظام صدام حسين كان يصنّع ويمتلك أسلحة للدمار الشامل، حيث توّلت حكومة بوش ومساعديه واستخباراته تلفيق وتسريب المعلومات للصحف الكبرى التي كانت تقوم بدورها بنشرها على أنها مسربة من مصادر سرية، ليعود بوش وإدارته لتأكيد هذه المعلومات بعد صدورها في الصحافة واستثمار زرع الرعب في قلوب الأميركيين لأقصى مدى، إذ كان بوش يتطلع إلى إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، مستغلاً حملته العسكرية التي سمّاها بالحرب الصليبية الجديدة واعتبرها “ثأر الله” من المسؤولين عن أحداث 11 أيلول. تلك الحرب التي استنزفت قدرات الولايات المتحدة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، كشفت التحقيقات لاحقاً أنها لا تعدو عن كونها أكاذيب وأضاليل ومزاعم روّجت لها إدارة بوش والصحافة التي كانت تؤيده في ذلك الحين.

اليوم وفي بداية عهد ترامب لا يبدو أن السياسة الأميركية تنوي الخروج عن المسار الذي دأبت عليه، لكن المتغيّر الرئيسي في المعادلة هو علاقة ترامب الشخص- الرئيس بوسائل الإعلام والصحافة الأميركية. فالإعلام الأميركي الذي كان سابقاً وسيلة فعّالة يمكن استثمارها بعدة وسائل وسبل في هذا المضمار، يتموضع اليوم في الضفة المقابلة المعادية تماماً للرئيس، مكرساً جهده لتصيّد هفواته وزلاّت لسانه وأخطائه وتدويناته وتغريداته، حيث يقف له بالمرصاد. وهو الأمر الذي اضطر كيليان كونواي للاعتراف بخطأها ومحاولة تبريره بقولها إنها استخدمت كلمة “المذبحة” التي حصلت في منطقة بولينغ غرين بدل كلمة “الإرهاب” في بولينغ غرين. إلا أن صحيفة “واشنطن بوست” اعتبرت أن ما قامت به كونواي هو حملة تضليل فاشلة ولفت نظر عن تداعيات قرارت الحظر الأخيرة، بدليل أن السيناتور الجمهوري راند بول كان قد سبقها بسرد الرواية الكاذبة نفسها، وهو ما يؤشّر بقوة إلى أن الإعلام سيكون شوكة في حلق ترامب وعلى جهوزية دائمة لفضح أي روايات أو محاولات التضليل والاشارة إليها فور حصولها.

ومع استشعار ترامب وإدارته معاداة الصحافة الأميركية لهم، حاولوا إطلاق وتكريس ما أطلق عليه “الحقائق البديلة” باعتبارها وسيلة للرد على تغطية وسائل الإعلام “المعادية” التي تعتبر الإدارة أنها تقدّم أخباراً لا تروّج لما يخدم أجندتها، ما أطلق نقاشاً واسعاً في الوسط الإعلامي الأميركي عقب السجال حول عدد المشاركين في مراسم تنصيب ترامب، والذي قالت وسائل الإعلام إنّ الصور تؤكّد أنه أقل بكثير من عدد المشاركين في حفل تنصيب الرئيس السابق باراك أوباما العام 2009، ما استدعى رداً من المتحدث باسم البيت الأبيض شون سبايسر الذي اعتبر أن وسائل الاعلام كاذبة وأن حفل ترامب “شهد أكبر حضور على الاطلاق”، وبعد يوم من ذلك ظهرت كيليان كونواي لتقول إن ما جاء به سبايسر هي “الحقائق البديلة التي يحاول الإعلام تقويضها والتعتيم عليها”.

إلا أن الكاتبة الأميركية جيل أبرامسون، وفي مقال لها نشر في صحيفة “الغارديان”، اعتبرت أنه “ليس هناك من حقائق بديلة، بل مجرد أكاذيب”، لافتة إلى أن  ترامب وإدارته وبمحاولتهم تكريس مشروعية فكرة الحقائق البديلة لمواجهة الإعلام “الكاذب”، لا يسعون في الحقيقة سوى لتشتيت الانتباه عن أمور يريدون تمريرها دون ضجّة، تماماً كما حصل خلال الزوبعة التي أثارتها أرقام المشاركين في حفل التنصيب، حيث مرر ترامب قرارات هامة ومصيرية تتعلق بنظام الرعاية الصحية، في حين كانت الأنظار تتجه نحو السجال الكلامي بين البيت الابيض والصحافيين.

ورغم أن الإعلام سيكون بالمرصاد، لكن يبدو أن ترامب عديم الدراية السياسية والمبتدىء في تلمّس سبلها ومنعرجاتها سيكون، حسبما توقّع جوناثان برنستاين الكاتب والأستاذ الجامعي المحاضر في العلوم السياسية، مرغماً على الإنصات لمستشاريه ومساعديه في كثير من القرارات التي يبدو جلياً أنه لا يملك الكفاءة التي تخوّله التعامل معها أو البتّ فيها. وعليه لن يتوانى فريقه (الذيل) عن هزّ الكلب كلما اقتضت الضرورة للتعمية وللتغطية لأي كارثة أو فضيحة داخلية.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى