صفحات الرأيناصر الرباط

ترامب والهويات الجديدة التي تتشكل في الغرب/ ناصر الرباط

 

 

تصاعد حدة هجمة إدارة دونالد ترامب على مواطني سبع دول ذات غالبية مسلمة، وبالحقيقة على كل المسلمين كما وعد في حملته الانتخابية وكما تريد قاعدته الشعبية، يتجاهل، في ما يتجاهل، التطورات الهوياتية التي أصابت مواطني هذه الدول الذين قدموا إلى الولايات المتحدة في السنوات الثلاثين الماضية، وكل المهاجرين من كل أنحاء العالم غير الأبيض في حقيقة الأمر.

ففي حقبة ما بعد الحداثة كما كانت تسمى، وفي الفكر ما بعد الكولونيالي كما اصطلح على تسمية التيار النقدي الذي نشأ في جامعات الغرب في نهايات القرن العشرين، ظهرت تعريفات جديدة لتركيبات هوياتية عدة لا تنتمي إلى ما تعارف المنظرون السياسيون عليه من هويات وطنية أو عرقية أو دينية واضحة المعالم والحدود. هذه الهويات التي أصبحت اليوم حقيقة واقعة في الولايات المتحدة وفي غيرها من دول الهجرة في العالم هي هويات مركبة أو مولدة، تحمل في تضاعيفها بعضاً من جينات بلاد النشأة وبعضاً من جينات أميركا أو الغرب وتخلطهم بطرق متعددة لتنتج من خلال هذا المزيج هويات جديدة لا تنتمي بالكامل لأي من مركباتها ولا تنتمي أيضاً لهوية فوق-وطنية، كما أمل بعض المنظرين الطوباويين. هي هويات هجينة بالمعنى الشامل للكلمة.

هذه الهجانة هي ما يتجاهله ترامب في أوامره الرئاسية بمنع المهاجرين من بلاد إسلامية محددة وبطرد المهاجرين غير الشرعيين من أميركا الوسطى والجنوبية الذين يعدون بالملايين وببناء جدار عازل يمنعهم من العودة من المكسيك بعد ترحيلهم. وهي أيضاً ما تخشاه قاعدته الشعبية من البيض من متوسطي الدخل الذين فقدوا وظائفهم المريحة بعدما نقلها رأس المال إلى دول ذات عمالة رخيصة، والذين فقدوا أيضاً إحساسهم بتفوقهم الحضاري بعدما جاءهم إلى عقر دارهم من تحداهم وتفوق عليهم ثقافياً ومعرفياً وفنياً وبالمحصلة مادياً. وهم فوق هذا وذاك شعروا بأنهم فقدوا سيطرتهم السياسية بصعود ممثلي الأقليات العرقية (وفي شكل خاص السود الذين لا يزالون يعاملون بعنصرية مستترة ولكن واضحة) والنساء والمثليين وغيرهم ممن لم يتمتعوا بتمثيل سياسي صريح في الماضي. وهم كذلك شعروا بانزياح الإطار الأخلاقي والمعاملاتي التقليدي، ذي الجذور الدينية البروتستانتية الطهورية، عن سدته وصعود أخلاقيات جديدة، نسبية في أغلب الأحوال، لا تستند إلى المرجعيات نفسها وتطرح مقاربات لم يعهدوها من قبل تتحدى استكانتهم لما عرفوه وارتاحوا إليه من قواعد ومثل ومعتقدات. هذا التحدي أتى من المصدر نفسه الذي جاءت منه الهجانة. بل هو لبس لبوسها وأنتج قواعد تصرف وأخلاقيات هجينة ومركبة.

التحدي الذي تطرحه الهجانة ليس مقصوراً فقط على الثقافة البيضاء المسيحية في الولايات المتحدة. بل هو موجه أيضاً إلى الهويات التقليدية التي جاء منها المهاجرون بمن فيهم المسلمون الذين قدموا في السنوات الماضية. هذا ما خبره حراس الدين التقليدي في العالمين العربي والإسلامي مثلاً عندما تعاملوا أولاً مع الإسلام الأسود في الولايات المتحدة من خلال محمد علي كلاي و «أمة الإسلام»، في نهايات القرن العشرين لكي يكتشفوا في الإسلام الأسود هجيناً لم يعرفوه من قبل. والحال كذلك اليوم على رغم عالمية الدعوة الإسلامية المتشددة وسعيها الحثيث لضم المجتمعات الإسلامية الصاعدة في الغرب لفكرها المحافظ وقواعدها التقليدية.

فهناك العديد من الحركات الإسلامية البازغة في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها التي تتحدى الأسس التقليدية الصارمة النابعة من بلاد المنشأ. هناك مثلاً حركات إسلامية نسوية، بعضها ملتزم وجدي ويكافح من ضمن الشريعة الإسلامية لإقرار حقوق أكثر للمرأة، وبعضها أكثر جرأة وتطرفاً يسعى الى هجانة واضحة يمثل فيها الشرع الإسلامي طرفاً وليس الكل. وهناك حركات دينية إسلامية الجذور والانتماء ولكنها ذات أبعاد طهورية وخلاصية متأثرة في شكل واضح بمثيلاتها في المسيحية واليهودية ولها أتباع كثر وبعضها نافذ في مناطق معينة في الولايات المتحدة. وهناك حتى حركة إسلامية للمثليين الجنسيين مما لا بد أن يصيب حراس الدين التقليدي بالذعر ولكنه مقبول وقائم في الولايات المتحدة ومحمي بالدستور.

والحال نفسه في ما يخص الهوية العربية. فالكثير من المواطنين الأميركيين الذين جاء أجدادهم قبل ثلاثة أو أربعة أجيال من لبنان وسورية وفلسطين قرروا اعتماد الهوية المركبة عربي-أميركي للتعريف عن أنفسهم بعد النشاط السياسي الناجح الذي قاده السيناتور جيمس أبو رزق وغيره من زعماء الجالية في السبعينات والثمانينات لإقرار هوية خاصة بهذه الجاليات قليلة التمثيل في الهرم السياسي الأميركي. وجاء المهاجرون العرب الجدد، وهم بغالبيتهم من المسلمين على عكس سابقهيم ومن مختلف أنحاء العالم العربي، ورأى الكثير منهم في هذه الهوية المركبة خير تمثيل لما هم عليه. فهم عرب لغة وتاريخاً وثقافة، ولكنهم أميركيون أيضاً مقاماً وعملاً وتعاملاً وثقافة أيضاً. وكان في هذه الهوية المركبة أمل كبير بأن تجمع مهاجري الأمس المستقرين في المجتمع الأميركي مع المهاجرين الجدد الذين رفدوا القدامى بدم جديد وأعداد أكبر ولكنهم احتاجوا إلى أن يستوعبهم محيطهم الجديد من دون محو هويتهم الأصلية بالكامل. ومن هنا هجانة العربي-الأميركي التي كانت ستشكل مقدمة بناءة لانتمائه إلى بلده الجديد مع المحافظة على جذوره الهوياتية العربية.

هذا التطور الهوياتي الذي كان يبرعم في الفضاء الأميركي وفي الغرب عموماً بدأ يترنح عقائدياً تحت ضغط الدعوة الإسلامية المتشددة ذات التنظيم العالمي في العقود الثلاثة الأخيرة. ولكنه حافظ على تماسكه الاجتماعي، بل وبدأ يعطي بعض ثماره على الصعيد السياسي بصعود بعض ممثلي الهويات المركبة لمراكز سياسية تمثيلية على الصعيدين الولاياتي والفيديرالي. ولكن ضربة ترامب وقاعدته الشعبية الهوجاء ربما كانت أقوى مما يحتمله أي تركيب هجين هش يحاول فرض هويته في محيط مزدحم بهويات أكثر صقلاً وتجانساً. بل ربما كان لتوجه ترامب وإدارته نحو الاختزال والتبسيط في التعامل مع الهويات العربية والإسلامية والمهاجرة في شكل عام أثر عكسي سيؤدي إلى استقطاب أكثر حدية وعنفاً. فكما صرحت هنه أرنت، واحدة من أهم منظري العنف في عالمنا الحديث، عام ١٩٣٣ إبان صعود العنف النازي ضد يهود ألمانيا: «عندما يهاجم المرء كيهودي، فعليه الدفاع عن نفسه كيهودي، لا كألماني ولا كمواطن عالمي ولا كمدافع عن حقوق الإنسان». أي أنها رأت أن حشر الإنسان بهوية مغلقة ومهاجمته بسببها سيؤديان إلى رد يعتمد هذه الهوية حصراً بكل ما في ذلك من إهدار لما يجمع الناس ببعضهم بعضاً. لعل في هذه البديهية السيكولوجية والتاريخية درساً لترامب ولغيره من مؤججي النزعات الهوياتية العنفية بتصرفاتهم النزقة والجاهلة أو المخربة عن عمد.

* كاتب سوري وأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى