صفحات المستقبل

ترامب وكذبة نيسان السورية/ إبراهيم العلبي

 

 

ليس من السهل نفي الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة الأميركية -شكلياً على الأقل- للثورة السورية في بداياتها، كذلك من التسرع الجزم بأن حقيقة الموقف الأميركي من هذه الثورة تقع على النقيض تماماً من ظاهره، بيد أنه ليس من الصعب إثبات النفاق الذي مارسته إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تجاه الثورة ومحاباته للأسد.

نعم، ليس الدعم الأميركي للثورة السورية خرافة ولا واحدة من أساطير الأولين، فمجرد اتخاذ موقف رسمي من جرائم الأسد وشرعيته -مهما كان هذا الموقف خاوياً- من قبل دولة تتربع على عرش النظام الدولي كالولايات المتحدة يعد غنيمة للثورة السورية، وسلاحاً مسلطاً على عنق نظام الأسد، لكنه في نفس الوقت وكما تبين للشعب السوري وللعالم أجمع لاحقا، كان هذا الموقف “الرسمي” حاجة أميركية خاصة قبل أن يكون تضامناً فعلياً مع القضية السورية.

كان أسلوباً ذكياً للتملص من مقتضيات الموقف الأخلاقي من جهة، ومدخلاً ضرورياً للولوج في تفاصيل المشهد بما يمكن الأميركيين من التلاعب بموازين القوى واستثمار الصراع في اتجاهات أخرى.

ورغم اندلاع المظاهرات في شهر مارس/ آذار عام 2011 واستمرار جرائم النظام بحق المتظاهرين والمدنيين العزل على مدى ستة شهور، فإن الولايات المتحدة ظلت طيلة هذه الفترة تتعاطى مع المسألة بوصفها قضية انتهاكات تستوجب الإدانة الروتينية وتسجيل النقاط ضد النظام، بل وصل الحال إلى ابتزاز النظام ومساومته على بعض المواقف مقابل مساندة واشنطن له، وذلك في تصريح واضح من وزارة الدفاع الأميركية البنتاغون في الشهر الثاني من الثورة، وبعدما ثبت المتظاهرون أمام إطلاق النار الممنهج ضدهم والقتل اليومي وحصار المدن والقرى وأظهروا صموداً أسطورياً اضطرت الولايات المتحدة كما غيرها من الدول إلى ركوب الموجة والتعبير عن فقدان نظام الأسد للشرعية.

منذ ذلك الحين والصحافة ترصد كل محطات التغيير في الموقف الأميركي على أن كلاً منها يمثل انقلاباً، والحقيقة أن هذا التحليل مبني على افتراض خاطئ، ينظر إلى الموقف الأصلي بصفته مطابقاً للموقف الرسمي، والحال أن الموقف الرسمي كما قدمنا ليس سوى ركوب للموجة من ناحية، ومدخل للتمدد في تفاصيل القضية السورية ومن ثم توظيفها في قضايا أخرى عالقة بين الولايات المتحدة وخصومها التقليديين في المنطقة والعالم.

عندما شكلت فرنسا والولايات المتحدة ما عرف بمجموعة أصدقاء سورية المكونة من 11 دولة إقليمية وعالمية بدأت واشنطن رحلة دعمها المسموم للثورة السورية، فقد تأسست بناء على توافقات هذه المجموعة غرفتا عمليات استخباراتية دولية في كل من تركيا باسم الموم والأردن باسم الموك، واقتصرت مهمة هاتين الجهتين في البداية على تسجيل أسماء أفراد كتائب الجيش الحر التي قبلت الانضمام إلى الغرفتين على أمل تلقي الدعم والتسليح، ثم تقديم الرواتب وتدريب بعض الأفراد الذين يتم انتقاؤهم بعناية، وتطورت مهمة هاتين الغرفتين تدريجياً لتتحول إلى مكبح دولي فعال قادر على إعاقة هجمات الثوار وتعطيل معاركهم بما يضمن عدم السقوط السريع للأسد. وتم التظاهر بفشل ما عرف ببرنامج التدريب الأميركي لمقاتلي المعارضة وتسليحهم، بحجة أنهم لا يريدون التعهد بالتوقف عن قتال الأسد! هذا في ما يتعلق بالشأن الميداني.

أما المسار السياسي فلم يتخلف عن هذا السيناريو الرديء، إذ بدأت الولايات المتحدة بإعلانها فقدان الأسد للشرعية ومطالبته بالرحيل، لكنها سعت بكل قوتها لتعطيل أي جهد سياسي لمنع الثوار والمعارضين السوريين من تشكيل كيان أو مظلة تجمعهم وتخاطب العالم أجمع باسم الشعب السوري، ووصلت في نهاية المطاف إلى نزع الشرعية عن الثوار والمعارضة وتحويلهم إلى مجرد مفاوضين، فيما ردت إلى الأسد الجزء الأكبر والأهم من شرعيته من خلال التعاون العملي غير المعلن وغير المباشر معه فيما يتعلق بقتال داعش، وكذلك من خلال تحويله من جهة إجرامية تنتظر من المجتمع الدولي جلبها إلى العدالة والضغط عليها للرحيل وترك الشعب السوري يقرر مصيره إلى جهة حكومية تحظى بشرعية المجتمع الدولي وتفاوض على عملية سياسية انتقالية من هذا المنطلق، وبصورة موازية أيضاً، تم التراجع عن السقف الدولي والأميركي لشكل ومضمون ما يطلق عليه الحل السياسي في سورية، من انتقال كامل للسلطة إلى هيئة حكم كاملة الصلاحيات، إلى عملية دمج للمعارضة بحكومة الأسد من خلال التفاوض بينهما.

كان واضحاً التدرج المدروس الذي اتبعته إدارة أوباما في التملص من شكليات الموقف الرسمي مروراً بمحاولة تطبيع العلاقات مع الأسد في أكثر من مناسبة، أبرزها صفقة تسليم السلاح الكيميائي، وصولاً إلى تهميش القضية الأساسية في سورية وهي مشكلة الحكم والديمقراطية وحقوق الشعب المهدورة، ومنح الأولوية المطلقة لمعركة أخرى مصطنعة عنوانها داعش.

أما اليوم، فقد جاء الرئيس الأميركي الجديد إلى السلطة في واشنطن، بعدما وعد في حملته الانتخابية بالتعاون مع الأسد، وقطع “الدعم” عن المعارضة، وبعد شهرين ونيف على دراسة الخيارات الجديدة في سورية ها هو يعلنها برفقة أعضاء إدارته، بصراحة لا مراء فيها، أن الأسد أمر واقع لا يمكن تجاوزه، بل يجب التعاون معه، ليؤكد بذلك لنا، مع بداية شهر نيسان، أن “الدعم” الأميركي السابق للثورة السورية لم يكن يوماً خياراً استراتيجياً، والصحيح أنه كان من قبيل “كذبة نيسان” التي يمكن أن تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، بوصفها أطول كذبة من أكاذيب نيسان، حيث استمرت 6 أعوام، بدأت في نيسان 2011 وقرر صاحبها كشف حقيقتها في نيسان 2017.

جيل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى