صفحات الناس

تراوما سورية/ زينة قنواتي

 

 

بحثتُ مُطوّلاً في اللغة العربية عن الرديف المناسب لكلمة تراوما، فلم أجد الوصف المناسب لها، ففي أحسن الأحوال تُترجم بما يعني الصدمة، والصدمة بطبيعة الحال مختلفةٌ عما يليها، فهي الحدث المُفاجئ والصاعق غالباً، والذي يتركنا في حالة من الاندهاش.

وأما ما يلي الصدمة من مشاعر مُتعثِرة، فيُسمّى بالتراوما.

فأن تخوض الصدمة بما فيها، من آثارٍ نفسية، وتُقنِع ذاتكَ بأنكَ بخير، هو بحد ذاته تراوما، ولا عجب مما ستُعانيه لاحقاً من آلام تبدأ بالجهاز الهضمي ولا تنتهي عند الجهاز العصبي.

وأن تُدرِك بأنكَ مررتَ بما يستدعي البكاء ولم تبكِ، وما يستدعي الرثاء والحزن دون أن ترثي، وأن تستبق الألم لتمضي، هو فعلٌ عاقلٌ، وقرارٌ ناضجٌ، لا يُفضي إلا إلى التراوما.

ففي فترة الحداد بعد الموت شفاءٌ لكل حيٍ، ومِنها يقولون عن أهل الميّتِ حزانى، ما يعني أنه يحق لهم أن يحزنوا بل أن يُغرِقوا في الألم، حتى يَشفى.

وأما عن الأم التي أنجبت حديثاً فيقولون نَفَسى، وهي التي تحتاج أن تُغرِق في ألمها حتى تنسى، وأن تدع لجسدها كل أسبابِ التعب، حتى يشَفى.

وإذا أصابَت والدك ذبحةٌ قلبيةٌ أمامك واضطُرِرتً أن تحمله في ليلةٍ ظلماء، لا يُسمع فيها إلا ضوضاء القصف، ولا يُسعفكَ إلى المشفى سوى رجلُ أمنٍ بسيارةٍ مُدججة، تمرُّ بين الحواجز التي تسألُ عن هوية الرجل الذي ينساب أمامها من الحياة، لتتأكد إن كان يستحق الموت، أو الإنقاذ، وأن تصل إلى المشفى ليطلبوا منك كل ما جنيتَ ووالديكَ في السنوات العجاف الماضية، وذلك شرط لإسعاف المُتهالكِ بينَ يديكَ، وأن تبقى صامداً واقفاً في المشفى أربعة أيامٍ على قدميك، أمام باب الإسعاف بانتظار خبرٍ يشي بخيرٍ، وأن تمر أمام عينيك كل الآلام السورية، والجروح المُتفتحة، والأمهات اللواتي احترقن وجعاً على من غادر من طفولة منزل ليس بآمن، وأن تعود يوماً إلى البيت دون أبٍ، خالياً من دفءٍ اعتدته وصوتٍ لطالما وبخك. فأنت تحتاج إلى نقاهة نفسية هادئة، تعتزل فيها برفقة ألمك، وتعود بالأحداث واحداً واحداً لتبكي عندما لم تبكِ، ولترتعش عندما صمدتَ، ولتترك لعضلات جسدك حق الارتجاف، وليأسك حق الاصطدام بواقع لن يؤول إلى الأفضل. وعندها فقط، ستتفادى الوقوع في أزمة تراومية حقيقية.

وعند التفكير بما يمر أمام السوريين من موت ويأس، وما يختبرونه هرباً من الكارثة، ولاحقاً عبثية الطرق المُفضية إلى بلاد اللجوء البعيدة والقريبة، فإن هذا يُسبب التراوما العنيفة، حيث يُضطر السوري إلى الصمود أمام كلِّ ما يمر به، فليس هناك مُتسع من الحياة لرثاء كل من مات، وللتعايش مع كل صور التعذيب والعنف اللفظي والجسدي، وللتواؤمِ مع صور الغرقى والجرحى، ولاحقاً للاصطدام بواقع مُختلف عن كلِّ ما مرَّ، والتعايش مع السلام والأمان الحقيقيين في مكان بعيدٍ، لا ينفي وجود حربٍ دامية هناك، ولا يمنع تدفق الحاجة إلى كل عون أو سند.

وفي التحدي الذي يواجه السوريين أيضاً، رغبتهم بتجاهل الصدمة ليُعامَلوا بإنصافٍ، وليس كحالاتٍ نفسيةٍ خاصة، ورغبتهم في تأسيس ما فُقِد بوقت قياسي، وما تحطم دون رجعة، بفعل إعجازي.

ويبدو لي هنا، أننا بحاجة للوقوف دقيقة ألمٍ يوميةٍ، تتسع لملء ثغرة تراومية عند كل سوري أينما كان، تشفي كل يوم نثرة من فيض الألم، وذلك ليس لتحسين الوضع النفسي السوري الحالي، فالوقت لا يتسع لذلك، ولكن من أجل الجيل الثاني الذي ينمو في ظل أزمةٍ، والذي يتجرع آثار التراوما الفعلية، ويرِثها دون أن يكون شاهداً على المأساة، ولكنه بالضرورة حامل لألمها.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى