صفحات الثقافة

ترجمات: دينامية الإبداع الدائبة: حوار أدبي بين غاو شينغجيان ودينيس بورجوا

ترجمة وتقديم د. عبداللطيف الزكري: استطاع الكاتب الصيني غاو شينغجيان عند إقامته في فرنسا منذ العام1988لاجئا سياسيا أن يجذب إليه الاهتمام بأعماله الثصويرية كفنان تشكيلي وسينمائي، إضافة إلى أعماله المسرحية التي كتبها بالفرنسية، وهي اللغة التي نال فيها إجازة عام1962مما مكنه من ترجمة أعمال فرنسية شهيرة إلى الصينية، لكتاب مرموقين أمثال يونيسكو، وبريفير، وميشو.

ولد غاو شينغجيان في الصين عام1940في إقليم جاونكشي، نال جائزة نوبل عام2000وهو أول كاتب صيني يفوز بهذه الجائزة على رائعته الروائية الباذخة (جبل الروح). من أفلامه (بعد الطوفان) 2008 ومن مسرحياته (الضفة الأخرى) 1986 و(المسرنم) 1995 وقصص قصيرة بعنوان (قصبة صيد لجدي).

في هذا الحوار-الذي نقدمه لقارئ مجلة الدوحة- يتعمق الكاتبان المتحاوران في قضايا الفن والكتابة ومبررات الإبداع ذي الدينامية الدائبة.

متن الحوار:

دينيس بورجوا:- نظريتك الخاصة للفن، المنبثقة عن ممارستك الفنية، ألم تكتبها قط؟

غاو شينغجيان:- كتبت مقالات في شكل حر، متشظ، أشبه ما يكون بشذرات نيتشه. من جهة أخرى، فإن من يتعاطى للفن، فيما يبدو لي، لا يمكن أن يكون منظرا، بقامة المفكر. إني أميز ما بين النظرية والفكر. إني أعتبر الفكر، بعامة، أكثر غنى من النظرية. إن المنظر هو في بحث دائب عن بنية مكتملة، بينما المفكر يستطيع أبعد من ذلك، فتح آفاق جديدة. إن البنية النظرية لم تفد أبدا في شيء الإبداع الفني. النظرية، هي الخيلاء الإنساني. إننا نحاول أن نبدل التفسير الأبدي للكون بأقوال نظرية مكرورة، من أجل إغلاق هذه الثغرة الكبيرة السوداء التي هي العالم. إن المنظر يسعى إلى أن يقوم بهذه المهمة، إنه يريد أن يوضح كل شيء، أن يجد الشكل النهائي، إلخ.

د. ب:إذا كان التنظير للفن من جبلة الخيلاء، ما الذي نفعله الآن أمام هذا المانيتوفون؟إننا إذن في خيلاء مطلق؟

غ.ش: نعم، بالتأكيد، تماما مثلما عندما نكتب، إن الكتابة خيلاء. بالفعل، نحن لا نستطيع التخلص من خيلائنا، مثلما لا يستطيع المنظر فعل ذلك. ينبغي إيجاد مبرر ما لوجودنا الخاص.

د. ب:لا يمكن أن نجد إلا مبررات خاطئة، لأنه لا وجود لمبرر، ولربما في اللحظة التي نكتب، إذا كان هذا يتم من تلقاء ذاته، فإن ذلك يتم من دونما حاجة لمبرر.

غ. ش:إن كل المبررات ذاتية. لا يوجد مبرر نهائي، إذن لأقوي من عزيمتي، فإن المبرر الوحيد الذي أراه، هو أن أكون حيا، إنه المبرر الوحيد.

د. ب: مبرر ماذا؟

غ. ش: مبرر الكتابة.

د. ب: لكن في الآن نفسه لا يمكننا أن نحدده.

غ. ش:بل يمكننا أن نحدده، لكن بنوع من الليونة، وبشكل من اللعب، وذلك حتى نقوي من عزيمتنا. . . إنه لهذا السبب أقول إن الكينونة هي المبرر!إنها المبرر الوحيد لمبرر خاطئ’!

د. ب:كل الأوهام ضرورية إذا كانت تمكن من البقاء في الوجود.

غ. ش:-من أجل المباهاة، من أجل العيش ببذخ، من أجل إظهار أننا نوجد.

د. ب:هذا ممتع، ورائع… رائع أن نستمتع، أليس كذلك؟

غ. ش:إن الوعي بالخيلاء هو وعي نافذ متشائم جدا، لكنه مع ذلك وعي يمنح مسرة الحياة، والقيام بعمل. إننا سنموت. لماذا نتمرد؟إنه نضال ضد طغيان السياسة وضد الانتحار.

د. ب:إنك تقول إنه نضال ضد الطغيان السياسي، الخارجي أكثر منه الداخلي، لكن في العمق، لا توجد حاجة للكتابة لنتحصل على مسرة الحياة.

غ. ش: إذا أضحت الكتابة شغلا، فلا حاجة للاستمرار في الكتابة، إنني لا أقول هذا من منظور الأدب، إنني بالأحرى أقارن هذا بالبستنة، عندما نقوم بها لذاتها، فهي متعة. عندما تصبح الكتابة متعة، فهي تستحق جدارة القيمة.

د. ب: نعم، لكنك قلت لي مرة إن الفن هو الطريقة الأكثر قوة للحياة.

غ. ش:- نعم، لأن ذلك يستجيب للرغبة في معرفة كل ما لم تعشه في الحياة اليومية، إن هذا يمنحك سرورا، وإمكانات أخرى لتعيش الحياة بشكل مغاير.

د. ب:- إذا كان الأمر كذلك فلا حاجة للكتابة، يكفي فقط أن نتقفى خيالنا.

غ. ش:- نعم، علاوة على الكُتاب، هناك حالمون لا يصنعون شيئا، إنها أيضا طريقة في العيش.

د. ب: إنها لربما طريقة في العيش أفضل من الكتابة، لأنك غير معني البتة بكتابة ذاك العيش على الورق.

غ. ش: هناك خيلاء لدى الكاتب في الرغبة في الظهور.

د. ب: أتريد أن تقول بأن الكاتب حالم مزهو بنفسه.

غ. ش:- نعم، ذاك ما أريد قوله.

د. ب: هناك خصيصة أخرى، هي خصيصة المتعة، المتعة الفيزيقية للكتابة.

غ. ش: هذه المتعة الفيزيقية، أحسها فيما يخصني عندما أرسم أكثر مما عندما أكتب. إن الرسم هو أقرب ما يكون إلى العمل اليدوي.

د. ب:-إنه عمل يدوي.

غ. ش: إذا رسمت طوال أسبوع، فإني أصاب بالإنهاك، وأحس بألم في كل جسدي، خاصة في المفاصل. لكن مع الكتابة، يمكنني أن أستمر مدة أطول. هناك حدود، تضاف إلى عامل السن. من قبل، كنت أقوم بالكتابة لمدة ثلاث عشرة ساعة في اليوم من دونما أن ألحظ ذلك. أما الآن، فإني في حدود عشر ساعات أصاب بالإنهاك. إننا نستشعر التقدم في السن.

د. ب: إذا كنت تحس متعة في الرسم، لماذا أنت مستمر في الكتابة؟

غ. ش:-إنها عادة تلازمني منذ يفاعتي، وهي أيضا تسلية تتأتى لي إلى هذا الحد أو ذاك. إذا لم أستطع لمدة طويلة الجلوس إلى آلتي الكاتبة، فإن شيئا ما ينقصني. عندي أنشطة أخرى كثيرة، لكنني لا أستطيع القيام بها، إنها تنقصني. أحتاج إلى وقت لأتحدث إلى نفسي، لأتأمل، لأسبح في خيالي. إني عادة ما أعمل على إنهاء، بأسرع وقت ممكن، المقالات المطلوبة مني، لأستطيع العودة إلى مشاريعي الخاصة، ليس لدي الرغبة في النشر، إني أكتب من أجل متعتي الذاتية. إن ما أحب أن أصنعه الآن، هو أن أتفرغ لكتابة لا أسعى إلى نشرها.

د. ب: لا شيء يمنعك من صنع ذلك، إنك تعيش من رسوماتك، إنك تستطيع كتابة ما يبدو لك رائعا.

غ. ش: نعم، لكني مدفوع دوما إلى الكتابة ‘تحت الطلب’.

د. ب:- تستطيع رفض هذه الطلبات.

غ. ش: إن الطلب، هو دوما إمكانية واقعية، ملموسة. إنه أيضا سعادة كبيرة. سأتعاطى لكتابة خالصة المتعة عندما أصبح شيخا مسنا، عندما لن تكون لي أية رغبة في الحياة. وهو ما أفعله أحيانا عندما أكتب الشعر. إني لا أسعى ألبتة إلى نشر شعري. إني أكتب أحيانا قصائد مفعمة بغنائية سوداء، إنها أيضا متعة. لكنها ليست أبدا للنشر. بيد أنه إذا ما طلب مني شئ ما للنشر، ولم أجد غير هذه القصائد، فسأدفعها للنشر. ليس لي وقت مديد لأتفرغ لها. إني أكتب هذه القصائد، بالطريقة نفسها التي أرسم بها أحيانا لوحة ما، حيث أضعها جانبا، وأحتفظ بها لنفسي. عندما أكتب مقالات، فعلى العكس من ذلك، فإني أكتبها دائما لمهاجمة شئ ما، إنها الغريزة المتوحشة التي تقف دافعا للكتابة.

د. ب: بالنسبة إلي، ليست لدي الرغبة لكتابة هذا الشكل أو ذاك. لدي فقط الرغبة في الكتابة، من أجل البحث، عن شيء لا أعرف ما هو.

غ. ش: إنك عبرت بشكل جيد. لماذا نحدد أجناس الكتابة؟إن التحديد عبث. إني أقاسمك هذا الإحساس. أحيانا، أبذل مجهودا كبيرا، في كتابتي من أجل هدم الفروق بين الأجناس الأدبية. إنها تصبح غطاء جامدا. في[جبل الروح]، هناك كل شئ، نثر فني، لكن أيضا تقييدات، تقييدات حقيقية، شكل من أشكال المقابلات الصحافية، صحيح هو أيضا. بل إن هناك، بين قوسين، الملاحظات التي كنت أدونها في المقابلات الصحافية، لقد مزجت بين كل أجناس الكتابة، بل هناك أغان شعبية التقطتُها أثناء سفري. هناك أيضا فقرات فلسفية وأخرى أهاجم فيها النقد الأدبي. إنها محاولة لهدم الفروق بين الأجناس الأدبية. هناك أيضا حوليات تاريخية أستشهد بها، وأيضا هناك علم الجغرافيا، وبعض الباروديا لمقالات علم اللسانيات. إني أحلم أيضا بكتابة’قصيدة طويلة’أدرج فيها جميع أنواع الكتابة.

إن هذا مثل سؤال الأسلوب. لا يمكن أن نحتفظ طوال حياتنا بأسلوب واحد. ينبغي العثور على أساليب مختلفة. نستطيع القيام بإبدالات. ليس هناك من محدد نهائي. ليس الشكل في ذاته من ينطوي على معنى. ما يهم، هو الدينامية الدائبة في الإبداع.

المصدر المترجم منه:Gao Xingjian Denis Bourgeois’:Au Plus Pres Du Reel. editions de l aube. 1997 pp’:69/73.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى