صفحات الثقافةعارف حمزة

ترجمة الكتّاب السورييّن للألمانيّة: سوق ومزاج وأرباح/ عارف حمزة

 

 

ربّما يظن بعضهم أنّ الأدب السوري حظي بحصّة الأسد من الترجمات التي تُنقل من العربيّة إلى الألمانيّة، وربّما يظنّ كثيرون العكس. لكن من الواضح أنّه حظي في الآونة الأخيرة باهتمام جيّد من المترجمين ودور النشر الألمانيّة الخاصّة، على عكس حركة الترجمة من الألمانيّة إلى العربيّة. فهل حركة الترجمة لكاتبات وكتاب سوريين إلى الألمانيّة هي حالة جديّة، قائمة على وسائل وخطط ومعايير واضحة ومحترفة، وتتعلق بالقارئ الألماني في الدرجة الأولى وتهدف إلى إطلاعه على أدب جديد يستحق القراءة، أم هي مجرّد فقاعة تخضع أكثر شيء للسوق والمزاج العام والأرباح ستنفجر وتنتهي في مدة زمنية قصيرة؟ كان هذا السؤال الرئيسي الذي طرحناه على المشاركين في هذا الملف حول ترجمة الأدب السوريّ إلى الألمانية التي تجري بشكل ملفت منذ سنوات قليلة.

هنا الحلقة الأولى:

ربّما يظن بعضهم أنّ الأدب السوري حظي بحصّة الأسد من الترجمات التي تُنقل من العربيّة إلى الألمانيّة، وربّما يظنّ كثيرون العكس. لكن من الواضح أنّه حظي في الآونة الأخيرة باهتمام جيّد من المترجمين ودور النشر الألمانيّة الخاصّة، على عكس حركة الترجمة من الألمانيّة إلى العربيّة، التي غامرت بها سابقًا مديريّات الثقافة في وزارات الثقافة العربيّة، مع وجود مغامرة محدودة من دور النشر العربيّة الخاصّة، والتي نقلت الإبداع الألمانيّ إلى العربيّة، ولكن في نفس الوقت جعلت ذلك الأدب يتوقف لدى القارئ والدارس العربيّ عند أسماء معيّنة ولكن قديمة في خريطة الأدب الألمانيّ؛ كتوقف المسرح عند برتولد بريشت، الذي تمّت ترجمته ليس من الألمانيّة مباشرة في كثير من الأحيان، وتوقف الشعر عند راينر ماريا ريلكه وهاينريش بُل، والرواية عند غونتر غراس وبيتر هاندكه وباتريك زوسكند، والفلسفة عند هايدغر وهوسرل. ومع عظمة ما قدمته هذه الأسماء إلا أن موجات كبيرة ظهرت بعد ذلك، لم تنل نصيبها من الترجمة، وباتت تلك الأسماء كلاسيكيّة في أكثرها. وهذا في الوقت الذي تابع الألمان تعريف قارئهم، ولو ببطء شديد، بما هو جديد وحديث في الأدب العربي.

سنسلّط الضوء على ما تمّ في هذا السياق الأخير من خلال الأدب السوري.

سوق ومزاج وأرباح

الألمان لديهم دور نشر كبيرة وصغيرة، ولديهم “سوق” ثقافيّة بكل معنى الكلمة. دور النشر هي شركات ربحيّة في نهاية الأمر، تهتم بالطباعة والإخراج ونوع الصفحات ونوع وعمر ومزاج القارئ، وقد تُصدر طبعتين من الكتاب، إحداهما طبعة كتاب الجيب الرخيصة، وقبل كلّ ذلك تهتم بتسويق الكتاب وتحقيق الأرباح من خلاله. وعلى الرغم من ذلك فإن ترجمة الأدب العربيّ إلى الألمانيّة بقيت محدودة وانتقائيّة أيضًا، ومع ذلك فهي أفضل من ترجمة الأدب الألمانيّ إلى العربيّة.

يقول المترجم والكاتب سليمان توفيق، وهو أحد الروّاد في ترجمة الأدب العربيّ إلى الألمانيّة، عن حالة النشر وشروطها في سوق النشر الألمانيّة:

“عملية النشر مسألة تجارية بحتة. فالناشر يختار النصوص التي يعتقد أنه يستطيع ترويجها، فيشتري حقوق النشر من الكاتب مباشرة أو من مندوبه. وهناك بعض دور النشر الصغيرة التي تقوم بالمجازفة في نشر نصوص لكتاب غير معروفين على أساس تسويقهم تجاريًا. وبعكس عملية النشر في البلدان العربية التي لا تخضع إلى قواعد، فكل إنسان يستطيع دفع تكاليف الطباعة سيجد ناشرًا لكتابه، سواء أكان هذا النص جيدًا أم لا، كما سيجد من يكتب عنه في الصفحات الثقافية!”.

في الوقت الذي تُرجم نجيب محفوظ إلى الألمانيّة بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1988، فإنه لحدّ الآن كاتب غير مقروء بشكل جيّد في ألمانيا. ولكن تمّت ترجمة إبداعات أخرى لكتّاب لديهم منجز أدبيّ في العالم العربي، مثل عبد الرحمن منيف ومحمود درويش، وكذلك أدونيس الذي يُعتبر الأكثر شهرة وقراءة كشاعر لدى الألمان، ومع ذلك لم تُطبع جميع كتبه كما حدث في فرنسا وإيطاليا، في الوقت الذي لم يُترجم محمد الماغوط ورياض الصالح الحسين وسليم بركات على سبيل المثال، رغم أنه، وهو رأي شخصيّ، قد يكون الماغوط أكثر قربًا لذائقة القارئ الألمانيّ من أدونيس، مثلما هو الأمر بالنظر إلى ظاهرة الروائي السوريّ رفيق شامي المقروء والمحبوب جدًا من القرّاء والكتّاب الألمان.

من جهة أخرى نجد أنّ المسرح السوريّ لم يحظَ بالترجمة، إذ لا يعثر القارئ الألمانيّ  سوى على مسرحيّة واحدة لسعد الله ونّوس على سبيل المثال، وأكثر الترجمات المسرحيّة على قلّتها كانت إذاعيّة وليست في كتب، بينما لا أعمال مترجمة لممدوح عدوان. كذلك هي الحال بالنسبة للروائيين حنا مينه ومحمد أبو معتوق في ترجمة عمل واحد، في الوقت الذي نجد أنّ حيدر حيدر وهاني الراهب وعبد السلام العجيلي وخيري الذهبيّ لم تُترجم أي رواية لهم إلى الألمانيّة.

الثورة السوريّة والمرأة الشرقيّة

لا يتوقف الأمر على تلك الأسماء التي تعتبر أسماء راسخة في الأدب العربيّ، والتي تُرجم أكثرها في أنطولوجيّات وليس في كتب خاصّة، بل نشطت حركة الترجمة من العربيّة إلى الألمانيّة لكتاب سورييّن يُعتبرون من الأجيال الشابة أو الجديدة. وكانت الأحداث الدموية في سوريّة سببًا مهمًا بل السبب الأهم برأي الكثيرين لترجمة روايات للكتّاب فواز حداد وممدوح عزّام وروزا ياسين حسن وسمر يزبك (نُشرت مجموعتها “تقاطع نيران” بالألمانيّة قبل صدورها بالعربيّة) وديمة ونوس ونهاد سيريس ونيروز مالك وآخرين. وفي القصّة ترجمت مجموعة قصصية لكل من ديمة ونوس ورشا عبّاس، وفي الشعر صدرت قبل أسابيع مجموعة بالعربيّة والألمانيّة لحمد عبود في النمسا، ولكل من عساف العسّاف وعبود سعيد نُشر كتاب من مدوّنتيهما على فيسبوك.

في هذا الملف يؤكد أحد المشتركين أنّه لولا الأحداث في سوريّة لما تُرجم معظم هؤلاء الكتاب إلى الألمانيّة، بغض النظر عن جودة تلك الروايات من عدمها. ومن جهة أخرى، يُكمل الكاتب والمترجم سليمان توفيق، فإنّ القارئ الألماني يُحب أن يقرأ ماذا تكتب “امرأة شرقيّة متحرّرة” عن ذلك الشرق الذي ما زال يسحر ويُثير القارئ الغربيّ بشكل عام.

في هذا الملف طرحنا أسئلة وأفكارًا مختلفة حول واقع الترجمة الحاليّة من العربيّة إلى الألمانيّة، التي انطلقت بقوّة منذ ست سنوات تقريبًا، مقارنة بواقعها القديم الهادئ والمبني على أسس وخطط قد تبدو مختلفة جذريًّا، وحول جودة النصوص والأعمال الجديدة لكاتبات وكتاب سوريين نزحوا من بلدهم الأم سوريّة واستقرّوا في ألمانيا، وحول ماهيّة هذه الترجمة واحترافيّتها وحول وجود خطة للترجمة من عدمها، وحول رأي النقاد بهذه الترجمات وبحركة الترجمة، وحول الظنّ بأنّ “العالميّة” ربّما تكون قد بدأت بالنسبة للبعض من خلال هذه الترجمات. وفوق كلّ ذلك يتناول الملف، من خلال مترجمين وكتّاب ونقاد سورييّن وألمان، رأي القارئ الألماني بهذه الترجمات إلى لغته الأم، ورأيه بجودة هذه النصوص وتأثيرها عليه. لكن قبل ذلك لنبدأ من “مزاج” البدايات.

هل توقف المزاج الألماني عند “ألف ليلة وليلة”؟

“لا يوجد أثر أدبيّ ينتمي إلى الشرق كان له التأثير الذي خلّفته حكايات ألف ليلة وليلة منذ ترجمتها في عام 1706 على الآداب الأوروبيّة بما فيها الأدب الألمانيّ”، تقول الدكتورة/ المستعربة ريجينا قرشولي، التي كانت أستاذة الأدب العربي في جامعة لايبزغ، وترجمت إلى الألمانيّة جميع روايات وقصص الطيب صالح، إضافة لترجمة أعمال للسورييّن حنا مينه وممدوح عزّام ونهاد سيريس. ثم تُكمل قرشولي في حوار سابق لها نُشر في “المجلة”: “ما زال الألمان ينظرون إلى الشرق، إلى حدّ بعيد، من خلال هذه الحكايات، ويتجاهلون كلّ ما يخترق هذا الإطار؛ من هنا فهم يبحثون في الأعمال الأدبيّة العربيّة عن هذه الصورة الماثلة في أذهانهم. لكنّني أعتقد أنّ هذا لا يكفي؛ لأنّ هذه الحكايات والحكايات المماثلة لا تُقدّم صورة حقيقيّة لما هو قائم الآن، بل وقد تُكرّس أحكامًا مُسبقة؛ إذ يتمّ الاعتقاد أنّ ما تصوّره هذه الحكايات يعكس صورة الحاضر أيضًا. لذلك أرى أنّ التوجّه إلى الأدب العربيّ المعاصر ضروريّ. فالأدب في اعتقادي أحد أفضل السبل للتقارب والتفاهم بين الشعوب”.

دور نشر صغيرة تُغامر

“حتى نهاية السبعينيات كان هناك عدد قليل من الكتب الأدبية العربيّة المترجمة الى الألمانية”- يقول المترجم والكاتب السوري المعروف سليمان توفيق. وبرأيه أكثرها كان عبارة عن أنطولوجيات تُرجمت عن الفرنسية والإنكليزية، وكذلك في ألمانيا الشرقية صدرت عدة أعمال مترجمة الى الألمانية.

“لكن في بداية الثمانينيات- يتابع توفيق- ظهرت دور نشر صغيرة أخذت على عاتقها ترجمة الأدب العربي الحديث، مثل دار أورينت ودار شيلر في برلين، ودار أونيوت في زيوريخ، ودار لينوس في بازل، وكذلك دار كينسل باخ في ماينس المتخصصة بترجمة الأدب المغاربي”.

ويؤكد أن “دور النشر الكبيرة المعروفة لم تهتم بهذا الأدب نهائيًا، ما عدا الأنطولوجيا التي حررتها أنا وترجمتها أيضًا، وقد صدرت في أكبر دار نشر لكتب الجيب بطبعات عالية وهي الدار الألمانية لكتب الجيب في ميونخ، وصدر عنها بعد ذلك كتاب غادة السمان “بيروت 75″ وقصص قصيرة لأليفة رفعت المصرية من ترجمتي”.

عالم ثالث وسياسة

وعن سبب عدم اهتمام دور النشر الألمانيّة بالأدب العربي عامة وبالشعر خاصّة، يقول توفيق:

“في البداية تم التعاطي مع الأدب العربي الحديث على أساس أنه جزء من العالم الثالث. أي أن أهميته تعود للمواضيع التي يطرحها، وليس لقيمته الفنية والجمالية. واعتبر هذا الأدب منذ البداية أدبًا سياسيًا هادفًا، خاصة من خلال الترجمات التي تمّت في ألمانيا الشرقية. كان الأدب العربي الحديث غير معروف في فترة السبعينيات، وعندما كنا نعرض على الناشرين بعضًا من النصوص العربية كنا نلاحظ أنهم لا يهتمون بها. وقبل أن يحصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل لم يكن أحد يعرفه، وبعد منحه نوبل بدأ الإقبال من قبل القراء الألمان على الأدب العربي الحديث بشكل ملحوظ، وازدادت مبيعات الكتب، بعد أن كان هذا القارئ لا يعرف سوى حكايات ألف ليلة وليلة”.

سؤال: هل يعني هذا أنّ ما نشاهده اليوم يُعتبر أمرًا مختلفًا؟

توفيق: “ما نشاهده اليوم أنّ هناك الآن اهتمامًا بالأدب السوري لم يكن موجودًا أبدًا من قبل. هذا الاهتمام بدأ مع الحرب في سوريّة، وهذا ما كان قد حصل مع الأدب العراقي بعد اندلاع الحرب هناك. الآن لا أحد يهتم به ولا بالكتاب العراقيين الذين لجأوا إلى هنا . لكن الوضع يختلف بالطبع عن الأدب الفرنكفوني المغاربي واللبناني.

“في ألمانيا يظهر سنويًا أكثر من مئة ألف كتاب جديد، وتوجد هنا آلاف دور النشر. وعلى الرغم من ذلك فالكتب العربية الحديثة المترجمة عددها ضئيل جدًا، بالمقارنة مع ما يٌترجم عن اللغات الأخرى مثل الإسبانية والبرتغالية والروسية وحتى الهولندية والبولونية والتركية. إضافة إلى أن أكثرية الترجمات من العربيّة ظهرت في دور نشر صغيرة ومتوسطة. يجب ألا ننسى أن دور النشر الألمانية الكبيرة والمعروفة ما زالت تغلق أبوابها أمام الأدب العربي الحديث، وخاصة الشعر. فالشعر العربي في ألمانيا غير معروف بشكل جيد. وقد ظهرت إلى الآن ثلاثة أنطولوجيات للشعر العربي الحديث، ودواوين لبعض الشعراء مثل أدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج وعبد الوهاب البياتي وفؤاد رفقة وسركون بولص وبدر شاكر السياب وأمل الجبوري وخالد المعالي وفاضل العزاوي وسعدي يوسف وجمانة حداد وعباس بيضون. وصدرت هذه الترجمات عن دور نشر صغيرة”.

هارتموت فندريش: المعروض هزيل مقارنة بما هو موجود

شيخ المترجمين من العربيّة إلى الألمانيّة الدكتور هارتموت فندريش ما زال فاقداً الأمل من اهتمام سوق الكتب الألمانيّة بالأدب العربيّ ككل، وليس فقط بالأدب السوري. وفندريش، الذي ترجم ستين كتابًا، يقول في حوار مع روت رنيه رايف: “مبدئيًّا هناك ما يُسمى “المستشار الأدبيّ” الذي يقترح على دور النشر أعمالًا للترجمة، أعرف من مترجمين من اللغات الإسكندنافيّة أنّ هناك طلبًا كبيرًا عليهم كمستشارين، أما في ما يتعلّق بالأدب العربيّ فتُفضّل معظم دور النشر أن تحصل على المعلومات اللازمة من شبكة الإنترنت، وهو موقف يُصيبني شخصيًّا بالإحباط، لأنّه يعني أنها لا تترجم سوى العناوين المُترجمة بالفعل إلى الإنكليزيّة أو الفرنسيّة. لقد أدرجتُ على صفحتي الإلكترونيّة عددًا من الأعمال الجديرة بالترجمة، غير أنّني لا أجد ناشرًا لها. في المقابل تُترجم أعمال لا تستحق الترجمة، غير أنّ دور النشر تتوسّم فيها كسرًا للتابو أو إثارة لفضيحة. لمثل هذه الترجمات أسباب تجاريّة بالطبع، ولكن يبقى السؤال فيما إذا كانت هذه الأعمال تُمثّل إثراء لعلاقتنا بالعالم العربيّ”.

الثورات … والإثارة

ردًا على سؤال فيما إذا لفتت القلاقل والحروب الأهليّة الاهتمام إلى العالم العربيّ، وهل تؤثّر هذه الأحداث على استقبال الأدب العربيّ في المنطقة الألمانيّة؟ أو تُثير الفضول للتعرف على وجه آخر للعالم العربيّ؟ أجاب الدكتور فندريش: “لا ألحظ شيئًا مما قلته. ما زال الأدب العربي يحيا حياة هامشيّة في سوق الكتاب في المنطقة الألمانيّة. المعروض هزيل مقارنة بما هو موجود. نحن نتحدّث عن عشرين دولة عربيّة، وكل دولة لها نتاجها الأدبيّ الخاص. لقد كان للربيع العربيّ ردود فعل غريبة في هذا السياق. أتذكّرُ أنّ بعض الناشرين اتصلوا بي تلفونيًّا بعد مرور نحو شهرين على المظاهرات، وسألوني متى ستظهر إذن الرواية الأولى التي تتناول الربيع العربي؟!”.

لاريسا بندر: معاناة المترجمين وأدب غير مُعترف به

كان أول كتاب ترجمته المترجمة الألمانيّة لاريسا بندر هو “شرق المتوسّط” للروائي عبد الرحمن منيف، وذلك في عام 1995. وهي ترى أنّ المترجمين من العربيّة إلى الألمانيّة يُعانون بشدّة من عدم اهتمام دور النشر الألمانيّة بالأدب العربي. وتضيف: “الأدب العربيّ غير مُعترف به لحدّ الآن في ألمانيا، حتى بعد نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب. وبالتالي فإنّ الأدب السوريّ لاقى نفس التهميش”.  وتوضّح: “لقد قدّمت روايات عديدة لحنا مينه إلى دور النشر، ولكنّها لم تهتم بذلك. وكانوا يطلبون منّي أدبًا شابًا أو جديدًا، مع أنّهم يُريدون روايات، على سبيل المثال، عن اضطهاد المرأة الشرقيّة وعذاباتها، ويريدون أن يعرفوا سبب ذلك الاضطهاد وتلك المعاناة”.

“بعد مجيء جائزة البوكر العربيّة (أنشئت في أبوظبي عام 2007) تغيّر الأمر نوعًا ما”- تقول بندر.

وتتابع “كانت هناك وكالة إعلاميّة في ألمانيا تنقل أخبار القائمتين الطويلة والقصيرة للجائزة والفائز بها، وكانت تُحرّك فضول سوق النشر الألمانيّة، ويطلبون معلومات عن تلك الروايات والرواية الفائزة. ولكن مع توقف تلك الوكالة منذ سنتين عن نشر أخبار الجائزة فقدت السوق رغبتها في تلك الروايات! غير أنه قبل أيام اتصلت بي إحدى الوكالات بعد فوز الروائي السعودي محمد حسين علوان بجائزة البوكر لهذا العام، مستفسرة عن أجواء الرواية. في عام 2004 كان الأدب العربي ضيف شرف في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وتوقعنا أن يستمرّ الاحتفاء به فيما بعد، ولكن لا شيء حصل من هذا القبيل. ففي العام الماضي لم نجد سوى أنطولوجيا لكتاب لاجئين من سوريّة واليمن وإيران في معرض فرانكفورت!”.

اهتمام ألماني بالسوريين

* ما الذي تغيّر بالنسبة للأدب السوري؟

بندر: “حدث الاهتمام بسبب الضجّة التي أحدثها الكتّاب السوريّون في ألمانيا، من جراء تواجد الكثير منهم هنا، وبعضهم معروف جدًا. أصبح هناك اهتمام من الإذاعة بالمسرح السوري، كما أنّ المكتب النسائي هنا في ألمانيا يتبنى بعض التجارب لكاتبات سوريّات ويقوم بتقديمهنّ للجمهور الألماني”.

* وهل هذه الترجمات والحوارات لاقت صدى جيّدًا لدى دور النشر والقارئ والمستمع الألماني؟

بندر: “هناك كتب تلقى صدى جيدًا، ومنها ما لا يلقى. وهناك أيضًا مسألة الحظ والعلاقات الشخصيّة من خلال الكتابة عن الأعمال في الصحافة والترويج الإعلامي. هناك أيضًا مشكلة لدى الألمان الذين لا يُصدّق الكثير منهم أنّ ما يحدث في سوريّة حقيقي ويدور على أرض الواقع، وهذا ما لاحظناه في النقاشات التي كانت تُثار بعد القراءات، إذ ما زال الكثير منهم يظنّ بأنّ هناك تهويلًا وتضخيمًا للأمور! وللأسف لم تتوسّع دائرة الاهتمام بالأدب السوريّ”.

* هل هناك مشكلة في فهم الكتاب السوريين لسوق النشر الألمانيّة؟

بندر: “نعم. يجب على الكتاب السورييّن أن يفهموا آليات النشر وآليات سوق الكتب هنا، وأن هناك علاقات شخصيّة في الإعلام والصحافة قد تجعلهم مغمورين أو مشهورين. دور النشر الكبيرة لا تفتح أبوابها بسهولة. دار “هاينزه” مثلًا لا تنشر سوى للكاتب رفيق شامي، وهي تكتفي به ككاتب سوري وقد لا ترغب بكاتب سوريّ آخر. وعند سؤال القرّاء عن أفضل كاتب عربي يقولون لك رفيق شامي، برغم أنّ شامي لا يكتب باللغة العربيّة”.

———————-

هنا الحلقة الثانية

ترجمة جدّية أم فقاعات؟

بناء على ما تقدّم يُطرح السؤال: هل حركة الترجمة لكاتبات وكتاب سوريين إلى الألمانيّة هي حالة جديّة، قائمة على وسائل وخطط ومعايير واضحة ومحترفة، تتعلق بالقارئ الألماني في الدرجة الأولى وتهدف إلى إطلاعه على أدب جديد يستحق القراءة، أم أنها فقاعة ستنفجر وتنتهي في مدة زمنية قصيرة؟

طرحنا هذا السؤال على المشاركين في هذا الملف حول الترجمة التي تجري بشكل لافت منذ سنوات قليلة للأدب السوريّ.

الشاعر والناقد السوريّ خضر الآغا يعتقد أنّه “لا توجد حركة ترجمة جدية”. ويُعلّل كلامه هذا بأنّ: “هناك ترجمات متفرقة تجري هنا وهناك تتراوح بين ترجمة نصوص لقراءتها أو نشرها في إطار فعالية ما، وبنسبة أقل بكثير تجري ترجمة بعض الكتب. حتى الآن، يبدو أن هذه الترجمات ليست مبنية على معايير واضحة وجدية، كما أنها ليست احترافية. تبدو عملية الترجمة هذه خاضعة لمصادفات، ولحاجة الفعاليات الثقافية الألمانية الآنية وهذه خاضعة بدورها لرؤية الجهات المنظمة والداعمة والممولة وغير ذلك”.

ويضيف: “لست أميل لإطلاق تنبؤات من مثل أن ذلك يشكل فقاعة زائلة، أو أنه ليس كذلك. فضمن موجة الهجرة السورية إلى العالم، وإلى ألمانيا خاصة، يمكن ملاحظة أن الألمان عامة والقارئ الألماني خاصة يحب أن يعرف ويتعرف إلى السوري وثقافته، والعملية السائدة حتى الآن لتلك المعرفة ولذلك التعرف هو الترجمة. لذلك أظن أنه بعد فترة من الزمن يمكن أن تنشأ حركة ترجمة إلى الألمانية، أتمنى أن تكون منهجية واحترافية تمكّن القارئ الألماني من الاطلاع على ثقافة السوري الحقيقية العميقة وليست الإعلامية والفيسبوكية”.

تسوّل وسطحيّة وفئران تجارب

الشاعر والناقد السوري محمد المطرود يرى أنّه: “طالما أنّه ليست هناك مشاريع ترجمة حقيقية، ولا يوجد مترجمون مهنيون وموهوبون، فإن ما تمّ برأيي إلى الآن، لا يرقى إلى العمل المؤسسي، ولا يعدو كونه أكثر من حالة تسول ومحاولة استدرار عواطف في حالات كثيرة، يتحوّل فيها الكاتب إلى فأر تجارب، مستمرئًا هذه الحال، مُتتبعًا المترجم وما تريده “السوق” أكثر مما يريده هوَ. هنا الكاتب لا يُقدَم على أنّه كاتب، بقدر ما يُعامل كناقل أخبار ومعايش للحرب، ولهذا في كثير مما ساهمت فيهِ متحدثًا أو مستمعًا، كانت الأسئلة سطحية من القارئ الألماني ولا تذهب إلى روح الكتابة وتقاناتها عند آخر مختلف! وكما لم ينجح كُتّاب سبقوا موجة النزوح واستوطنوا في ألمانيا، وتحدثوا لغتها وكتبوا بها، إلا في مطارحات إثنوغرافية تتحدث عن العادات والطعام على سبيل المثال كمحاولة بائسة لإظهار المحلية، وهو بالضرورة تعامل خاطئ مع هذه الثيمة التي ظنوا بها سوءًا حين رأوها طريقًا إلى العالمية، فإننا والحال اليوم أيضًا سنكون أمام نصوص تجتّر نفسها، سيعتادُ المتلقي الألماني سماعها، وبالتالي ستصبح ممجوجة، خاصة في ظل فورة صبيان، يستطيعونَ الوصول إلى مترجمين هواة، وإلى منابر بنصوص قليلة الدسم والعمق، تناسب المعرفة الضئيلة لهؤلاء التلاميذ، وسيكون هناك، وفق هذا الاستسهال، غياب لكتابة حقيقية، تقترح على الدوام علاقات جديدة في اللغة والفكرة وتَصورات المتلقي بوصفها جزءًا من فعالية الكتابة بحسبِ النقاد الغربيين، من حيث احترامها والندية معها لكسب ذائقته، وليس من باب مسايرته بالأضعف والقابل للعلكِ بسهولة. منذ أيام حضرت أمسية كان فيها مشاركة لسوريين، وبعد نهاية الأمسية، تقدمت مِنّا مُنظمتها، واعتذرت عن المستوى العادي، مقارنة بأمسية سبقتها وحضرناها معًا. قد يكون هذا عاديًا أن يكون هناك غثٌ وسمين، غير أننا نتحدث عن فرص ليست كثيرة وبلغة أخرى ومتلق آخر، وطبع صورة مغايرة ليس بالأمر اليسير، وأخذ هذا الهامش لصالح الأقّل دهشة والأكثر هشاشة كفيلٌ بجعل هذه الظاهرة مكرّسة وفي الواجهة، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم قدرتها على الصمود، وستكون في المحصلة فقاعة لها عمر زمني قصير، لكنها ستترك ندبةً كبيرة على وجه المشهد، سيترتّب على أصحاب المشاريع الشجاعة امتلاك الجلد الكافي لمداواتها أو استئصالها، وأقصدُ الندبة التي لن ينفع معها الماكياج”.

ترجمة خجولة

تعتبر الروائيّة السوريّة روزا ياسين حسن من الأسماء التي حقّقت حضورًا مميّزًا في المشهد الروائي السوري، وحصلت على عدّة جوائز، كما حصلت على استقبال جيّد من القارئ الألماني بعد ترجمة روايتيها “أبنوس” و”حرّاس الهواء” إلى الألمانيّة، كما أنها باتت مدعوّة إلى حوارات وإلقاء محاضرات على طلاب يدرسون الأدب العربي في جامعة هامبورغ.

ترى روزا أنّ “ترجمة مجموعة من النصوص المتفرقة إلى الألمانية أو غيرها من اللغات لا تعني بحال حركة ترجمة قوية وممنهجة، فمشاريع الترجمة لم تتعدَّ عشرات النصوص بعد، وأقل منها بكثير في ما يتعلّق بالكتب! ما زالت حركة الترجمة خجولة بالنسبة للكتابة السورية، والشرق أوسطية العربية وغير العربية بالعموم، إلى اللغة الألمانية. أما النصوص التي تُرجمت فتتفاوت في أهميتها وكذلك في قدرتها على إعطاء القارئ الألماني صورة جيدة ووافية عن الأدب السوري: ثمة نصوص جديرة بالقراءة وثمة نصوص غير جديرة البتة، وكانت اختيارات الترجمة تقوم على مبادرات فردية في أحيان وفي أحيان أخرى لم تقم على مبادرات فردية بل من قبل لجان مختصّة بذلك. الأمر يعتمد على جدية الجهة المترجمة باعتقادي. لكن الإكثار من ترجمة نصوص من غير تقييم مسبق، ولمجرد العلاقات الشخصية مع كتابها أو للركوب على موجة اللاجئين ومسايرة تلك الموضة، سيساهم في تعتيم صورة الأدب السوري الحقيقي، أو سيساهم في إعطاء صورة مغلوطة ومشوّشة عن المشهد الإبداعي السوري، تمامًا كما عملت وتعمل الكثير من النواحي السلبية في مجتمعاتنا وتاريخنا على إيصال صورة قاتمة اليوم عن الشرق الأوسط.

“في النهاية المشهد المترجم، على صغره، شبيه بالمشهد الإبداعي السوري، متفاوت ومختلف المستويات والقيم، ولكني أعتقد بأن النصوص هي التي تفرض نفسها في النهاية، النص المترجم غير الجيد سيُرمى جانبًا والنص الجيد سيبقى، تمامًا كما هي الحال دومًا في المشاهد الإبداعية سواء في العالم العربي أو الأوروبي، والزمن والقراءة كفيلان بفرز الإبداعي عن اللاإبداعي”.

ثقافة بيضاء… ومُلوّنة

سألنا المشاركين: من خلال مشاركتكم في العديد من الفعاليات، ومن خلال حضور بعضها الآخر، أو قراءتها، هل ترون أن هذه الأعمال تضيف درجات إلى الأدب السوري لدى القارئ الألمانيّ؟

“بالتأكيد لا”- يجيب الشاعر والناقد خضر الآغا، ثم يُكمل: “ما يضيف تلك الدرجات هو الأثر الذي يخلفه الكاتب ضمن ثقافته المحلية، ثقافته الأم لو صح القول. فبقدر ما يكون الكاتب متجذرًا في ثقافته السورية، في مجتمعه السوري، بقدر ما يكون قادرًا هو ذاته على إضافة درجات إلى الثقافة الألمانية ذاتها. نحن نعرف أن ما يسمى بالتيار ما بعد الكولونيالي، في أميركا خاصة، الذي أسسه كتاب مهاجرون وفارون من بلدانهم الأصلية إلى المجتمع الأميركي أضفى على الثقافة الأميركية بعدًا جديدًا وحيويًا ما كانت الثقافة الأميركية البيضاء تتوقع أنه يمكن أن تتشارك معه، أو يمكن أن يكون موجودًا أصلًا، الأمر الذي جعل الثقافة الأميركية البيضاء ملونة، وجعلها لم تعد ترى نفسها إلا ملونة، أي غيّر الثقافة الأميركية برمتها، وصار جزءًا أصيلًا منها. مثلا، هل يمكن أن تفكر بالثقافة الأميركية دون توني موريسون؟”.

ترجمة لأسباب إنسانيّة!

سألنا الآغا فيما إذا تحدّث بعض أصدقائه الألمان عن هذه الترجمات ومستواها وعن رأيهم فيها؟، فأجاب:

“تجربتي في ذلك محبطة. إحدى المهتمات بالشأن السوري وبالثقافة السورية حصلت على كتابين مترجمين للألمانية لكاتبين سوريين. وبعد أن قرأتهما سألتني باستغراب حد الدهشة: هل هذه هي الثقافة السورية؟ هل هذا ما يشغل بال السوريين خلال ثورتهم؟ وعندما عرفت هذين الكتابين وعرفت أن الحديث حول نصوص مكتوبة على فيسبوك، راعت النشر على فيسبوك من حيث خفتها وعدم مبالاتها وطرافتها وسطحيتها، درت يمينًا وشمالًا لأقول لها: لا، هذه ليست الثقافة السورية، وأنهما تُرجما ليستطيع صاحباهما الحصول على فيزا تمكنهما من الدخول إلى هذا البلد. أي تُرجما لأسباب إنسانية وليست ثقافية!! وطرحت السيدة الألمانية أن نقوم بحملة دعائية مضادة لذلك النوع من الكتب ولذلك النوع من المترجمين حفاظًا على الثقافة السورية التي نريد للألمان أن يتعرفوا إليها”.

تفاوت الترجمات

أما روزا فإنها ترى، ردًا على السؤالين السابقين، أنّ “النصوص الجيدة ستعمل على بناء ذاكرة إيجابية لدى القارئ والناقد الألماني بخصوص الأدب السوري، خصوصًا أن الأدب السوري شبه مُغيّب عن الساحة الثقافية الألمانية، باستثناء كتّاب قلائل جدًا تمت ترجمة أعمالهم في العقود القليلة الماضية، ويكاد عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين. ولكن في النهاية اتساع المشهد الأدبي المترجم وتنوّعه هو حالة إيجابية على كل الأحوال. المشاهد الإبداعية المتّسعة تتيح رؤية عامة أكثر وضوحًا، وتتيح للقارئ والناقد الاطلاع بشكل أعمق على تنوعات المشهد السوري، وتحديد الفروقات القيمية بين النتاجات”.

وتضيف: “طبعًا، الشعب الألماني شعب قارئ بالعموم، ولو أن لوثة الكتابات السهلة والروايات السطحية مسّت جزءًا منه أيضًا. الترجمة هي كتابة أخرى للنص، أو كتابة ثانية بالأحرى، مما يجعلها بأهمية الكتابة تمامًا. وفي هذا المضمار ثمة تفاوتات أيضًا بين الترجمات، فهناك الترجمات السريعة غير المُعتنى بها، وهناك الترجمات الجيدة التي تقدّم للقارئ نصوصًا بلغة مُعتنى بها. الأهم أن ثمة تفاوتا كبيرا بين آداب منطقتنا العربية، بكل تنوعاتها الإيديولوجية والإثنية والدينية والطائفية والثقافية الاجتماعية، وبين الأدب الأوروبي أو الألماني، الأمر الذي يجعل القارئ الألماني يطّلع من خلال قراءة آداب منطقتنا على حيوات وعوالم أخرى لم يعرفها يومًا. على هذا فأنا أرى أن سعي بعض الكتّاب لأن تترجم نصوصهم وتصل للقارئ الألماني، عليه ألا ينسيهم الاشتغال على النص، وعدم التورّط في الكتابة للغرب، أي عدم كتابة نصوص موجّهة للغرب ومعلّبة على قياسه، لأن هذا سيخرّب العملية الإبداعية بل سيدمّرها. أن نكتب خصوصيتنا/ آدابنا وأن نشتغل عليها بهدوء وعمق، أن نكتب أدبًا حقيقيًا باختصار، هو الوصفة السحرية للعالمية، كما قال هنري جيمس يومًا”.

الإحاطة النقديّة

الناقد والشاعر محمد المطرود لا يترك الأمر برمّته للقارئ أو لدور النشر فحسب، بل للنقد والنقّاد. يقول المطرود: “شخصيًا تُرجم لي القليل، ولم يتصدّ لهذه النصوص إلا مترجمون عرب، باستثناء مترجمة جيدة ألمانية، ترجمت لي مقطوعاتٍ مختارة في فترة مبكرة من مجيئي إلى ألمانيا، ولاقت قبولا جيدًا، غير أني لم أكن راضيًا عنها، ومع هذا ارتأيت أن أقدم نفسي كما أنا، دون التنازل عن خياراتي في الكتابة، وأحسبُ أن ما أقوم به يحافظ عليه آخرون، ينظرونَ إلى أنفسهم كمعلمين وليسوا تلاميذ، وأعتقد أننا بهذا سنقدم أدبًا وإن تصالح مع الحرب من جواتها، إلّا أنّه لن يكونَ صورًا من المعركة”.

ويتابع: “أي ظاهرة سُتتبع بإحاطة نقدية بعد توضّح ملامحها، وهو ما يجعلني أطلق على ما كتبت هنا الانطباع أكثر مما هو نقد، ولا سيما أننا ما زلنا في ذلكَ المران والمراوحة بين البكائيات والهدوء الذي يفترضهُ الأدب كمفهوم وعلاقة مع الأشياء سواء الحرب أو الحياة الجديدة التي اقتضتها تلك الحرب، وأعتقد أن من المبكر الخوض في مسألة جوهرية نقدية: هل ما يكتبُ اليوم ويترجم يمثل حالة صحية أم سوى ذلك؟ عمومًا الآراء التي توصلت بها من مهتمين بسورية وما يحدث فيها وأخرى بأدب سوري يُراد التعرُّفُ إليه ليست سيئة، ويمكن للمتلقي الألماني أن يقوم بعملية الانتقاء والاصطفاء وفقًا لما يروم الوصول إليه، وهذه الآراء فيما لو تمَّ الاستماع إليها جديًّا، يمكن للمنتج الأدبي أن يحدد زاويتهُ من خلالها، لا أن يبرر هشاشة كتابته بأنها استجابة ضمنية لقدرات المترجمين وميول المتلقين، وهذا بالطبع سيكون رقابة أخرى لا تختلف عن الرقابة المخابراتية في بلداننا”.

التجربة الأمثل في ترجمة الشعر

طرق عديدة باتت متداولة في ترجمة النصوص، وربّما يُعتبر أصعبها تجربة ترجمة الشعر. لاريسا بندر ترى أن “أكبر مديح للمترجم هو عندما لا يلحظ القارئ أنّ الرواية مترجمة”.

لكن ربّما في الشعر قد يختلف الأمر، وهنا نقرأ شهادة الشاعر والصحافي السوري الفلسطيني رائد وحش حول تجربة مميّزة في ترجمة نصوص له إلى الألمانيّة:

“تجري العملية التقليدية للترجمة خلال اعتكاف المترجم على النص مدّة من الزمن، ثم يعود بعدها إلى المؤلف بجملة من الأسئلة والاستفسارات التي تخدم المعاني التي توصّل إليها، أو تطوّرها. وغالبًا ما يتم التواصل بين الكاتب والمترجم من خلال التلفون أو الإيميل، أو عبر لقاءات قصيرة، في أحسن الأحوال، إذا سمح الظرف بوجود كلٍّ منهما في المكان ذاته.

“لا أستطيع التقليل من هذه العملية، ذلك أن النتيجة النهائية فيها تتوقف على إمكانيات المترجم وثقافته وموهبته، لكنني أراها أكثر صلاحية وفعالية في ترجمة الأعمال السردية والدراسات، بينما تكتسي بكثير من الغموض في ترجمة الشعر.

“في تجربةٍ شخصية، شاركتُ في ورشة تقوم على اجتماع شاعر عربي مع آخر ألماني وبينهما مترجم يجيد اللغتين. كان شريكي الشاعر غيورغ ليسْ، تعرفنا على بعضنا بالإنكليزية، ثم بدأ العمل من خلال المترجم، الذي لعب إلى جانب الترجمة دور مدير الحوار.

“المترجم قام بنقل النصين نقلًا حرفيًا إلى كلّ من اللغتين، وكان على كل منا أن يقرأ نص الآخر، ويحاورها في كلّ تفاصيله ومغاليقه، وبما تحته وحوله، لنصل إلى صورة نهائية كاملة لكل تصوّرات النص، وبعد ذلك يقوم كلٌّ منا بصياغة شعرية للترجمة الأولية بناء على مخرجات ذلك الجدل.

“أظن أن هذه التجربة – وقد باتت شبه مُعمّمة في السنوات الأخيرة- هي الأمثل في ترجمة الشعر، لأنها مفتوحة على الحوار، وقائمة على التجوال في النص وصاحبه معًا، لنصل في النهاية إلى نص أجنبي مكتوب مرّة أخرى، باللغة الأخرى، وليس منقولًا إليها، وما يؤكد هذا أن النص يتخلّى عن حواشيه التي تشرح للثقافة المنقول إليها مثلًا شعبيًّا، أو حكاية خرافية، بحيث تصبح مضمّنة ضمن السياق الشعري الأصلي، دونما أية حاجة إلى شروحات.

“كما أن البلاغة اللغوية تستطيع أن تمارس دورها الطبيعي الذي تمارسه في اللغات الأصلية. فمثلًا كانت قصيدة غيورغ تتضمن مفردةً يصف فيها حيوانًا بأنه “ضعيف” أو “هزيل” أو “متعب”، كما هي المقترحات الحرفية التي قدّمتها مسوّدة الترجمة الأولى، ليتضح في سياق الحوار والعصف الذهني أن المقابل العربي الأنسب هو “ناحل”..”.

الترجمات ونظرات مختلفة ومتوافقة حول العالميّة

لا يخفى على أحد أنّ ترجمة النصوص أو القصائد أو الروايات لكاتب معروف في بلده إلى لغة أخرى لا تعني العالميّة بالضرورة، ولكن بالتأكيد لا ينطبق هذا الأمر على الجميع. كما أنّ للترجمة “المُبكرة” ضريبتها التي قد تدفع الكاتب للأسفل وليس للأعلى.

كان هذا هو محورنا الأخير في هذا الملف، حيث يرى الكاتب والمترجم سليمان توفيق أنّ “مجرّد ترجمة بعض النصوص لكاتب ما إلى الألمانية لا يعني أن يدّعي أنه أصبح كاتبًا عالميًا. إنها سخافة”.

روزا ياسين حسن توافق على ذلك أيضًا، حيث تقول: “ترجمة نصوص إلى الألمانية لا تعني العالمية بالتأكيد. هي خطوة لتقرأ شعوب أخرى بلغة أخرى ما نكتبه. العالمية لا تعني فقط أن تترجم نصوصك، بل تعني أن تصل أفكارك إلى الثقافات الأخرى وتؤثر عليها، وعلى هذا ما يهمّ في الطريق إلى العالمية هو ما تكتبه أولًا، تمامًا كما هي حركة الترجمة مهمة، بل إن ما تكتبه أهمّ بكثير في السعي للعالمية. المشكلة الأساسية هنا أن يظنّ بعضهم أنهم وصلوا إلى العالمية لمجرد أن تُترجم لهم بعض النصوص، لأن هذه القناعة ستعمل على إيقاف سعيّهم للتطور واشتغالهم على عمق نصوصهم وإبداعهم، وبالتالي ستكون وبالًا على أدبهم وتطوّر تقنياته ومضامينه”.

مراهقة المصطلح

من جهته يُقدّم الشاعر والناقد محمد المطرود فكرته عن هذه الترجمات ومفهوم العالميّة، حيث يرى أنّ “الكتّاب الذين ترجموا إلى لغتنا أو الذين ترجموا إلى لغات الآخرين من العرب، تناولوا محليتهم وطقوسهم وهوامشهم وتفاصيلهم، وابتدعوا طرائق وتقانات في الكتابة قائمة على اللغة والسحر الذي تشيعه، وهي تستلهم روح المكان والمنتج وقدرته المعرفية في الوصول إلى ذات الإنسان بوصفه إنسانًا، يتماثل مع الإنسان في أي مكان آخر، وما على الأذكياء إلّا اكتشاف تلك (النكشات) وتظهيرها. وأنا أجد مراهقة بعضهم في إطلاق صفة العالمية على نص أو رواية أو مقال مترجم ضربًا من السخف والمغالاة. العالمية تعني مشروعًا متكاملًا، سيّالًا، ويستوجب جَلَدًا ومساندةً من مؤسسات ثقافية، تنموية، من مصلحتها تقديم أنموذج ثقافي قائم على الحوار بدلًا من التصادم، وقد يستلزم هذا تدخل الدول نفسها، لإبدال شنِّ الحروب بهذه المشاريع التنموية في جوهرها. قد تبدو فكرتي طوباوية، لكن لا بدَّ من الأحلام..”.

وهم العالميّة

من وجهة نظر الشاعر والناقد خضر الآغا على الكاتب أن يكتب ما يُريد وليس ما يُريده الألمان، ويتحدث قبلها عن وهمٍ قد يستشري اسمه العالميّة. يقول الآغا: “غالبًا ما يظن الكتاب الجدد أنهم بترجمة نصوص لهم صاروا واقفين على بعد خطوة واحدة من العالمية. أما إن لم يكن جديدًا فثمة فراغ نفسي يريد أن يملأه بهذا الوهم. نحن نعرف أن الكاتب العالمي ليس هو الكاتب المترجم بالضرورة، بل هو الكاتب الذي أثر بثقافته المحلية، وبناء على ذلك تمت ترجمته، وصار بالإمكان القول إنه عالمي. من كان يعرف نجيب محفوظ قبل نوبل؟ وقد حصل عليها ليس لأنه كان مترجمًا، بل لأنه أثر في الثقافة العربية والثقافة المصرية، وأثره في ثقافته المحلية هو الذي أدى إلى ترجمته. ما ينبغي التأكيد عليه بلا تردد هو أن على الكتاب السوريين في ألمانيا (وغيرها) أن يقدموا ثقافتهم المحلية كما هي وليس كما يريدها الألمان، وعندما يحدث نوع من التضاد لا ينبغي مراعاة ذلك، بل ينبغي الإلحاح على تقديمه على أنه ثقافتنا. ما يحدث غالبًا من خلال متابعتي هو أن بعض الكتاب يفكرون بأننا يجب أن نكتب كذا ولا نكتب كذا لأن الألمان يحبون هذا ولا يحبون ذاك… في هذه الحالة نحن نكتب ثقافتهم وهم بغنى كبير عن ذلك. عمقيًا، هم يرغبون بالتعرف إلى ثقافتنا كما هي وليست الثقافة المُرتعشة أمامهم”.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى