مراجعات كتب

ترجمة جديدة لكتاب ‘الاستشراق’ تعيدنا إلى جدل الشرق والغرب/ علي حسن الفواز

 

وضعت الترجمات المتعددة لكتاب “الاستشراق” للمفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد القارئ أمام قدرة سعيد على قراءة “العقل الاستشراقي” بوصفه عقلا استعماريا، وبوصفه كذلك عقلا حضاريا، فالناقد كمال بوديب، الذي ترجم الكتاب عام 1981 بعنوان “الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء” فتح أفقا واسعا لمعرفة هذه المقولات، ولحمولاتها العميقة في فهم خطورة الاستشراق، ووظيفته كخطاب -على طريقة ميشيل فوكو- في قراءة وفحص المعرفة التي يحوزها الغرب بوصفها سلطة، وبوصف الشرق “خرافة” ظلت عالقة بالفهم الغربي للشرق، وبطبائع الأدلجات السائدة.

من جهته وضع محمد عناني ترجمة للكتاب بعنوان” الاستشراق.. المفاهيم الأساسية للشرق” عام 2006، ينطلق من الفكرة التي أشار إليها المترجم بأنه “يؤمن بأن المترجم يحوّل الفكرة إلى لغة العصر وأن من حق القارئ العربي أن يطلع على آخر صور كتاب ‘الاستشراق’ لسعيد الذي اعتبره عبقريا يختلف في فهم نصوصه المترجمون”.

وفي هذا السياق، صدرت أواخر العام الماضي 2016، ترجمة جديدة لكتاب “الاستشراق” تعكس هذا الاهتمام، فالكتاب ينطلق من مسؤولية البحث عن إضافات جديدة في الكتاب، وهو ما عمد إليه المترجم نذير جزماتي، من خلال ترجمة المقدمة الجديدة والمهمة للكتاب بتوقيع إدوارد سعيد عام 2003، أي بعد خمس وعشرين سنة على صدور الطبعة الإنكليزية الأولى للكتاب، والتي حاول فيها سعيد وضع تصوراته عن عملية غزو العراق من قبل الامبريالية الأميركية والبريطانية بوصفها الوجه البشع للاستشراق الإمبريالي، فضلا عن ترجمته لفصل جديد في الكتاب بعنوان “بعدئذٍ 1995”، وأفكار جديدة استغرقت الكاتب بعد أحداث حرب الخليج في التسعينات من القرن العشرين.

كتاب تناغم مع أطروحات إدوارد سعيد مع نزعات ثقافية تاريخية ونقدية تتماهى مع أطروحات النقد الثقافي

الاستشراق وفضاء الترجمة

يحاول المترجم نذير جزماتي في الطبعة الجديدة لكتاب “الاستشراق”، الصادر عن دار “نينوى للدراسات والنشر”، بدمشق، أن يجعل ترجمته قريبة من البساطة التي أرادها إدوارد سعيد، والتي اعترض فيها على ترجمة الناقد كمال أبوديب، واصفا إياها بالترجمة المُعقدة رغم القبول الكبير الذي حظيت به تلك الترجمة، والتي بدت وكأنها أشبه بالصدمة الثقافية التي تلقفها المثقفون العرب من النقاد والباحثين والأنثربولوجيين بنوع من الدهشة، إذ تناغمت أطروحات إدوارد سعيد مع نزعات ثقافية تاريخية ونقدية تتماهى مع أطروحات النقد الثقافي، مثلما أعطت للبعض منهم حيزا لإعادة قراءة “الفكر الامبريالي”، بوصفه فكرا استشراقيا، له شغفه بفكرة الشرق، وبطبائع التصورات التي وضعت هذا الشرق في المخيال الغربي، وفي سردياته، ونظرته للمقدس والسلطة.

تعيدنا هذه الترجمة إلى قراءات سعيد لمفهوم الشرق السياسي والشرق العنصري، اللذين اصطنع لهما الخطاب الغربي فضاء من التخيّلات التي تتعالق مع الهيمنة المعرفية والسياسية، حيث ينطلق الاستشراق من كونه مؤسسة امبريالية كما يسميها سعيد، تقف خلفها جماعات وتوجهات سياسية وتجارية تسعى إلى معرفة الشرق والسيطرة عليه.

تضم محاور الكتاب ثلاثة فصول، جاء الفصل الأول بعنوان “التعرف على الشرق، الجغرافيا الخيالية وتمثيلاتها/ شرقنة الشرق، والمشاريع والأزمات”، حيث حاول الكاتب من خلالها تقّصي كلّ الأفكار والموضوعات السياسية التي ترتبطت بنظرة الغرب للقضايا العربية، وللجغرافيا العربية وللدين الإسلامي، وهو ما يجعله يضع وعد بلفور في سياق السيطرة الاستعمارية أولا، وسياسة الإخضاع ثانيا، وتعبيرا عن النظرة إلى الشرق بوصفه تابعا وخاضعا وضمن جغرافيا متخلفة وفاقدة للأهلية ثالثا.

وفي الفصل الثاني “البنى الاستشراقية وإعادة خلق البنى”، ينطلق إدوارد سعيد من الرؤية الثقافية للشرق، تلك التي تبنّاها روائيون مثل فلوبير، ومفكرون عنصريون مثل آرنست رينان، فالأول يمثل أنموذجا للغربي الرومانسي، الذي لا يرى في الشرق إلّا مجالا روحيا وسحريا للجمال المُتخيل وللمحظيات، وأنّ هذا الغموض الساحر يستدعي الكشوفات الأوروبية، والأسفار والرحلات، وهي بالطبع محاولات لعقلنة الاستعمار، ولوضع الشرق في سياق عالم غرائبي، تضج فيه الحكايات والخرافات، وتمثلاتها عبر “الاهتمام بالحكايا القوطية والأشعار الرعوية”، كما يقول سعيد.

أما آرنست رينان فقد كان يعمد إلى توظيف القوة الثقافية من منطلقاتها اللغوية والأنثربولوجية والعنصرية، بوصفها سلطة، وهيمنة، ومن الصعب مساواة الشرق بالغرب، لأنه سيكون خاضعا للنظرة المسيحية، و”العلم العلماني” كما يسميه سعيد.

مفارقة توصيف الشرق

يضعنا إدوارد سعيد في مبحث “الإقامة في الشرق والبحث: متطلبات صناعة تأليف المعاجم والخيال” أمام مفارقة توصيف الشرق من قبل رينان، وكيفية إخضاعه للمقارنة، إذ ينطلق من أوهام فكرته المتعالية، تلك التي يرى من خلالها “أنَّ العِرق السامي يظهر لنا بأنه عرقٌ غير مكتمل، بفضل بساطته، وهذا العِرق إذا تجرأت على استخدام التناظر الوظيفي هو بالنسبة إلى العائلة الأوروبية مثل مسودة قلم الرصاص أمام لوحة فنية”.

وفي مبحث “الحج والحجاج، بريطانيين وفرنسيين” يفضح إدوارد سعيد نظرة الغرب للشرق، وأوهام مسيحيي الغرب لمسيحيي الشرق، لأنّ الشرق لا يملك في المخيال الغربي سوى أنه شرق جنسي، وسحري.

هذا التصور هو ما يجعل إدوارد سعيد أكثر ثقة بأدلجة نظرة الغرب للشرق، ومحاولته الدائمة لإخضاعه، وتهذيبه، وتكريسه كقيمة متحفية، أو مجالا وظيفيا لتتبع أثر التشكلات الأولى مثل الأديرة، والمظاهر الجنسية، والانثربولوجيا البنيوية عبر معرفة عادات الشرقيين في الغذاء والتدين واللغة، فضلا عما يعنيه من تمثلات للخطاب عند سعيد، وآلية نقده الحاد والصادم، بوصفه نقدا للعقل الامبريالي من جانب، ونقدا للعقل العيادي والعقابي الذي تمثله مؤسسة الاستشراق الغربي ثانيا.

ويثير إدوارد سعيد في الفصل الثالث “الاستشراق الآن” جدلا حول هوية الاستشراق المعاصر، والذي يمكن أن تمثله الشركات العابرة للقارات، أو الجامعات، أو الأجهزة المخابراتية، ومؤسسات الرحلات، والحملات العسكرية، إذ كلها تصنع نوعا من السياسات التي تؤكد فرضية السيطرة، وفرضية القوة، بعيدا عن أي توصيف للتحضّر والتمدّن، أو لعلاقة الشرق بتاريخ الحضارات والأديان، وهو ما دفع سعيد لوضع الخطاب الاستعماري في سياق فرضية “صنعة الشرق” كما يقول بنجامين دزرا ئيلي، لأن الاستعمار سيكون هنا هو التعبير عن “القوة التوسعية لدى شعب ما، هو قدرته على إعادة إنتاج نفسه”، وهو ما يقود إلى فضح الاستشراق من منطلق ما يثيره من اغترابات داخلية عند المستشرقين، والتي ستتبدى تجلياتها عبر صعود مظاهر الصراع والعنف، وبما يجعل الاغتراب العربي والإسلامي مدخلا لاحتضان الأصوليات الجهادية.

العرب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى