صفحات مميزة

“تركيا، الأكراد والوضع في الشمال السوري” مجموعة مقالات

 

دولة “الباب” السنّيّة/ عمر قدور

لم يكن مفاجئاً أن تسلّم الميليشيات الكردية شريطاً من القرى المتاخمة لمناطق قوات “درع الفرات” للنظام، وأن تتقاسم السيطرة على مدينة منبج مع النظام، وأن تعمد أيضاً إلى رفع العلم الروسي إضافة لرايتها، مع أنها تحظى بدعم أميركي لم يتوقف أسوة بالدعم المقدم لفصائل معارضة. التنسيق بين الميليشيات الكردية والنظام وحلفائه ليس جديداً، والانسحاب لصالح الأخير “أو بموجب تعليماته” ليس جديداً. الجديد هذه المرة هو اجتماع الدعم الأمريكي والروسي معاً لدعم الميليشيات ضد قوات “درع الفرات”، أو بالأحرى ضد النوايا التركية التي كانت معلنة في خصوص التقدم للسيطرة على مدينة منبج.

المسألة هي إذاً اجتماع كل الأطراف على تحجيم الدور التركي، وحصره في ما يشبه المثلث الحدودي الخاضع للنفوذ التركي المباشر، بعد أن أدت هذه المنطقة دورها المتفق عليه في منع الميليشيات من السيطرة على الشمال السوري كله. إرضاء تركيا يتوقف عند طمأنتها على هذا النحو، وهو ما تشترك فيه مع إيران التي لا تود رؤية تنامٍ للقوة الكردية يشجع أكراد إيران، ومع النظام الذي يخشى قليلاً من خروج الميليشيات الكردية عن دورها المرسوم، بخاصة مع غموض التوجهات الأميركية.

سلوك إدارة ترامب يستوجب التوقف، فدعم الميليشيات ضد أنقرة يخالف ما تعلنه الإدارة عن محاصرة النفوذ الإيراني، وهي تدرك بالتأكيد أن الميليشيات الكردية تأتمر أولاً بتعليمات “جميل بايق” قائد قوات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل العراقية، والمعروف بأنه رجل طهران والقائد الفعلي لقوات الحزب في تركيا وتوأمها السوري. كما أن سلوك إدارة ترامب في قضية منبج يؤشر على المنحى المرتقب الذي ستكون عليه معركة مدينة الرقة، عاصمة داعش، ولن يكون من المستغرب خوضها بتحالف يستبعد تركيا لصالح الميليشيات الكردية وقوات النظام، لتعود إلى سيطرة الأخير في النهاية. جدير بالذكر أن ممثل إدارة ترامب لعب دور المراقب فقط أثناء مؤتمر جنيف4، وغادر قبل انتهاء الجلسات، بما يناقض السلوك الحيوي على الأرض في قضية السيطرة على مدينة منبج تحديداً.

السيطرة التركية على مدينة الباب وجرابلس وبعض الريف الشمالي قد لا يكون السماح بها من أجل لجم التطلعات الكردية فحسب، موسكو تريد مقايضة هذه المساحة بدور تركي فاعل يشجع الفصائل الإسلامية والمعارضة على تسوية مع النظام تضمن بقاءه، وربما تريد إقامة قليل من التوازن بين الخصمين اللدودين، تركيا وإيران، بخاصة للتقليل من حجم نفوذ الأخيرة في سوريا. إدارة ترامب، التي لوّحت بمشروع إقامة مناطق آمنة، قد تجد ضالتها أيضاً في مناطق النفوذ التركي، فهذه المنطقة نموذجية من حيث الكلفة، لكونها محمية أصلاً بالتفاهم الروسي التركي الذي لن يجرؤ النظام على خرقه. تصور إدارة ترامب عن المناطق الآمنة يسمح بتحويل هذه المنطقة إلى ما يشبه قطاع غزة الفلسطيني، أي كمستودع بشري يعاني من الاكتظاظ باللاجئين.

وإذا استثنينا حساسية النظام تجاه تركيا، وأمله في استعادة السيطرة على كافة البلاد من باب تحقيق انتصار كلي على السوريين، لا يوجد في هذه المنطقة ما يثير شهيته، فهي خالية من الثروات الطبيعية كالنفط والغاز، وحتى زراعتها تعتمد على قناة جر مياه قادمة من الفرات ويمكن التحكم بها من هناك، بخلاف منطقة منبج التي تحتوي على سد تشرين الحيوي لجهة توليد الطاقة ومخزونه المائي. وإذا كان ملحوظاً إصرار النظام على ترحيل أهالي المناطق المحاصرة إلى محافظة إدلب، كحل داخلي لعمليات التغيير الديموغرافي، فقد تكون “الباب” ومحيطها الوجهة المقبلة لعمليات التهجير القسري، مع التنويه بأن معركة إدلب قادمة بموجب قرار استهداف جبهة النصرة، سواء من قبل موسكو أو التحالف الذي تقوده الإدارة الأميركية.

إثر تحرير جرابلس من داعش كانت تركيا قد أشرفت على إنشاء قوة شرطة لحفظ الأمن في مناطق سيطرة درع الفرات، والإيحاء الذي رُوّج منذ البداية أن تلك المناطق ستكون محكومة وفق نظام مفتقد في مناطق سيطرة الفصائل الأخرى. ذلك يعني في ما يعنيه إنشاء آليات حكم وإقامة كيان شبيه بالدولة، وفي غياب أفق للحل في سوريا سريعاً قد تستقر هذه الصيغة مطولاً، وبخلاف مناطق تتعرض للقصف المستمر من النظام وحلفائه قد ينعم هذا الكيان بالأمن والإدارة الذاتية المنضبطة معاً. لكن التجربة لن تُقدّم أمثولة عن المناطق المحررة، كما كان يؤمل من تجربة التحرير في بدايتها، بقدر ما تنذر باحتمالات تقسيم البلاد وفق مناطق نفوذ دولية، وربما الانطلاق إلى تقسيمها نهائياً على المدى البعيد.

قد يرى البعض في هذه المساحة الصغيرة تمدداً للنفوذ التركي، وفي حقيقة الأمر لقد فعلت واشنطن وموسكو كل ما في وسعهما لتحجيم الدور التركي في سوريا منذ انطلاق الثورة. جائزة الترضية التي تنتهي عند مدينة الباب ربما تحفظ ماء وجه أردوغان داخلياً، غير أنها لا تعادل انخراط تركيا في تفاصيل الصراع السوري، وتفقد أردوغان نفسه الزعامة الإقليمية التي طمح إليها من بوابة الصراع الشيعي السني في المنطقة. لعل أفضل ما يختصر التطورات والتقلبات على هذا الصعيد هو الانتقال من حديث قديم عن انكماش حاد لسيطرة النظام، وقرب اقتناعه مع الحليف الإيراني بإنشاء دولة علوية يمكن الدفاع عنها، إلى اقتصار المشروع المضاد على اقتطاع دولة “الباب” ككيان “عربي سني”، في حين لم تكن سوى جزء صغير من دولة “الخليفة البغدادي”.

المدن

 

 

 

 

 

منبج… المأزق التركي/ حسين عبد العزيز

الاتفاق الذي تم بين وحدات “حماية الشعب الكردي” من جهة والنظام السوري والأميركيين من جهة ثانية حول بلدة منبج خلط الأوراق في المنطقة الشمالية الشرقية من حلب، وأعاد رسم خطوط التماس ليس فقط العسكرية، بل أيضا خطوط التماس الإقليمية ـ الدولية.

وهكذا تحولت منبج إلى اختبار حقيقي للتحالفات التركية مع اللاعبين الكبيرين على الساحة السورية، وسيكشف التعاطي التركي مع المدينة حدود هذه التحالفات، وقدرة أنقرة على التوفيق بين مصالحها والتوازنات بين موسكو وواشنطن.

وعلى الرغم من أهمية التفاهمات الروسية ـ التركية وتداعياتها التي بدأت بإطلاق عملية درع الفرات لصالح تركيا، والتخلي عن حلب لصالح الروس، ومن ثم “إعلان موسكو” حول وقف إطلاق النار، فإن تقاطع المصالح بين الدولتين لا يزال ضعيفا، بسبب اختلاف الأهداف الكبيرة لكليهما في سورية، بحيث سرعان ما يتعرّض اتفاقهما أو تحالفهما الجزئي إلى هزة مع أي تطور طارئ.

ليست واشنطن راضيةً عن التفاهمات والاتفاقات الروسية ـ التركية، وليست روسيا في المقابل راضية عن الغزل الذي نشأ بين تركيا والولايات المتحدة، بعيد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وخصوصا في ما يتعلق بالمنطقة الآمنة. وقد أزعجت هذه المغازلة روسيا التي سرعان ما دفعت النظام إلى التحرك نحو شرق الباب وجنوبه الشرقي، عبر السيطرة على عدة قرى وبلدات، ليست ذات أهمية لتنظيم الدولة الإسلامية، في محاولة لرسم خطوط التماس المقبلة بين “درع الفرات” والجيش السوري، تاركة لتركيا وحلفائها المضي في تحرير الباب، ليس بسبب التفاهمات المشتركة بينهما فحسب، بل أيضا بسبب سياسة النظام السوري وروسيا التي تترك المعارك الكبيرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية إلى أطراف أخرى، خوفا من التكلفة البشرية التي قد تترتب على هذه المعارك.

موسكو وواشنطن، وكل لحساباته الخاصة لا تريدان وجوداً عسكرياً تركياً في منبج، أو بالأحرى وجودا عسكريا لها قرب نهر الفرات، باستثناء جرابلس، بسبب تماسها مع الحدود التركية. وجاءت التسوية الروسية بين النظام و”قوات سوريا الديمقراطية” حلا وسطا يرضي الأطراف جميعا، ويمنع من وقوع تصادم عسكري، قد يؤثر على العلاقة بين موسكو وأنقرة، ويطيح التفاهمات التي تمت بينهما، فبالنسبة لتركيا، تعني هذه التسوية إنهاء الوجود الكردي في هذه المنطقة المهمة، وهي تقبل بوجود الجيش السوري حلا معقولا، وبالنسبة للنظام، حققت هذه التسوية له الوصول إلى مناطق لم يكن يتوقع الوصول إليها. وبالنسبة للأكراد، أصبحت هذه المنطقة تحت سيطرة حليفهم، وبالتالي، لن يعيق حرية تنقلهم نحو الشرق أو الجنوب.

ومع ذلك، وجهت هذه التسوية التي تمت حول منبج ضربة قاسية للأتراك، لأنها وضعت حاجزا أمامها للتوجه نحو الرقة أولا، ولأنها أكّدت أن أي تحرك عسكري لـ “درع الفرات” في عموم الشمال يجب أن يتم بالتنسيق مع موسكو وواشنطن ثانيا، ولأنها كشفت أن تركيا بدت وحيدةً أمام القوى الأربع الأخرى (روسيا، واشنطن، النظام، الأكراد) ثالثا.

لكن، تبين أن التسوية الروسية انحصرت في المناطق الغربية من منبج، ولن تطاول المدينة نفسها، حيث بقيت تحت سيطرة مجلس منبج العسكري التابع لـ “قوات سوريا الديمقراطية”. ومن هنا، جاء تهديد وزير الخارجية التركي بضرب الوحدات الكردية في منبج، إذا لم يغادروها. من الصعب التنبؤ بطبيعة الرد التركي، في ظل انتشار قوات النظام غرب المدينة، وانتشار أميركي شمالها، وأمام تركيا أربعة خيارات:

ضرب الوحدات الكردية داخل المدينة من بعيد عبر المدفعية والطيران. الضغط لإكمال التسوية الروسية إلى منبج نفسها، في ضوء التصريحات التركية غير الممانعة لدخول قوات النظام إليها. وهنا، تلعب أنقرة على التباين الروسي ـ الأميركي، كون روسيا تفضل نقل الهيمنة على المدينة للجيش السوري، في حين تفضل الولايات المتحدة بقاء المدينة تحت قبضة الأكراد. توجه “درع الفرات” نحو الشمال الغربي لحلب، وتوسيع سيطرتها هناك في تل رفعت باتجاه كفر حمزة، مرورا بكفر باقد ودير جمال، وبالتالي، خلط الأوراق والتعويض عن خسارة منبج. المشاركة في معركة الرقة من بوابة تل أبيض، وهذا احتمال ضعيفٌ، لأنه يصطدم برفض كردي واضح، لما يعنيه ذلك من خسارة الأراضي الممتدة من تل أبيض شمالي محافظة الرقة إلى مدينة الرقة في جنوبي المحافظة. وبالتالي، تمكين الأتراك من وضع إسفين جغرافي بين مناطق شرق الفرات في الرقة ومناطق غرب الفرات في حلب، وهي مناطق خاضعة لسيطرة الأكراد.

العربي الجديد

 

 

 

 

«بشمركة روجافا»: وزاد في الطنبور نغماً/ بكر صدقي

في خريف العام 2012، استشارني مجموعة من الشبان الكرد، من نشطاء تنسيقيات عفرين، بخصوص عرض للتسليح قدمه لهم شخص ينتمي إلى أحد التيارات الانتهازية التي ظهرت على هوامش الثورة السورية منذ عامها الأول. قالوا إنه وعدهم بما يحتاجونه من مال وسلاح لتشكيل مجموعة عسكرية مناهضة لهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي المتنامية، في ذلك الوقت، في منطقة عفرين. حذرتهم، بصورة مبدئية، ضد موضوع التسلح، في وقت كنا بأمس الحاجة فيه للحفاظ على بقايا النشاط الثوري المدني.

لم يمض وقت طويل حتى تشكلت أولى الكتائب المسلحة الكردية من خارج مظلة حزب الاتحاد الديمقراطي، بل ضده، ودخلت في تحالفات مع كتائب أخرى عربية في الإطار العام لما كان يسمى بالجيش الحر. تمت هذه التطورات بتشجيع من بعض أحزاب «المجلس الوطني الكردي» من الخط المقرب من قيادة البارزاني، أهمها الحزب الديمقراطي الكردستاني.

وعموماً كانت العلاقة متوترة، طوال السنوات الماضية، بين الخطين الأوجلاني والبارزاني في الحركة السياسية الكردية في سوريا، على رغم محاولات متكررة لرأب الصدع ومنع نشوب اقتتال كردي ـ كردي، بادر إليها مسعود البارزاني وانتهت دائماً إلى الفشل. فشل يتحمل مسؤوليته حزب الاتحاد الديمقراطي، لأنه من ذلك النوع من الأحزاب الذي لا يحترم تعهداته، ويعتبر السياسة شطارة وخداعاً، ولا يتخلى عن أجندته المرسومة مهما تعهد بغير ذلك. إضافة إلى أنه لا يقبل أي شراكة في سلطته المطلقة الستالينية، ولا يتسامح مع أي صوت معارض أو مستقل.

وهكذا قام بحملات إرهاب وتأديب ضد الأحزاب الكردية الأخرى، متذرعاً بمختلف الذرائع الكاذبة للتغطية على نزوعه إلى الهيمنة والتفرد والاحتكام إلى السلاح الذي يحتكر امتلاكه. في حين انتهت المجموعات الكردية المسلحة القريبة من «المجلس الوطني» إلى التفكك أو الذوبان في تحالفات فصائل عربية أو المنفى الكردستاني حيث تشكلت «بشمركة روج آفا» تحت مظلة القيادة البارزانية، من نحو خمسة آلاف مقاتل معظمهم من الشبان الكرد الفارين من الخدمة العسكرية في جيش العائلة الأسدية.

هذه القوة العسكرية المعطلة، طوال السنوات السابقة، تنامت باطراد بانتظار اللحظة المناسبة للعودة إلى سوريا. يبدو أن تلك اللحظة قد حانت أخيراً واتخذ القرار بزج بيشمركة روج آفا في الصراعات المركبة الدائرة في الشمال السوري بين قوى إقليمية ودولية، بأدوات محلية، في بؤرة جغرافية محدودة شاءت لها الأقدار أن تتمتع بقيمة استراتيجية كبيرة جداً هي بلدة الباب والقرى المحيطة بها.

صحيح أن القوات التركية تمكنت، مع الفصائل السورية التابعة لها، من السيطرة على البلدة بعد قتال طويل، لكن القوى الأخرى لم تسلم لتركيا، بعد، بهذا الإنجاز. وكجرعة إحباط أولى للأتراك، سلمت «قوات سوريا الديمقراطية» عدداً من القرى قرب منبج، لقوات النظام الكيماوي، بعدما كانت حررتها من داعش بتضحيات كبيرة. وذلك لوضع خط أحمر روسي أمام تقدم قوات «درع الفرات» الموالية لتركيا باتجاه منبج، على ما كان أردوغان قد توعد قبل فترة قصيرة.

وجاءت الضربة الثانية للأحلام التركية من الإدارة الأمريكية الجديدة التي قررت، أخيراً، اختيار وحدات الحماية الكردية حليفاً ميدانياً في الحرب ضد دولة الخلافة، بدلاً من تركيا وفصائل درع الفرات. وهكذا لم يبق أمامها غير الاكتفاء بما حققته إلى الآن والتخلي عن مشاريعها بصدد الهجوم على منبج ومنها باتجاه الرقة.

بدأت أولى الصدامات بين قوات بشمركة روج آفا وحزب العمال الكردستاني في المنطقة الحدودية بين إقليم كردستان والشمال السوري، في أعقاب زيارة مسعود بارزاني إلى إسطنبول حيث التقى نظيره التركي أردوغان، وقالت التسريبات وقتها أن موضوع زج القوات الكردية السورية في الصراع ضد حزب الاتحاد الديمقراطي كان على رأس جدول الأعمال.

مرة أخرى يبدو أن الإشارات القادمة من واشنطن بصدد استراتيجيتها الجديدة في إقليمنا دفعت القوى الإقليمية للتحرك لملاقاة التوجهات الأمريكية المحتملة ولوضع صانع القرار الأمريكي أمام معطيات جديدة لا بد له من أخذها بنظر الاعتبار. من ذلك تحرك الدبلوماسية السعودية باتجاه بغداد، والتوتر بين أنقرة وطهران، وتسليم وحدات الحماية لبعض قرى منبج لنظام دمشق الكيماوي، وإعلان الرئيس التركي عن أن درع الفرات سيتابع التقدم باتجاه منبج لطرد القوات الكردية منها إلى شرق نهر الفرات..

من المحتمل أن الاجتماع الثلاثي لرؤساء الأركان التركي والروسي والأمريكي في أنطاليا، جاء لاحتواء أي احتكاك عسكري محتمل بين القوات التركية وميليشيات النظام في المنطقة الفاصلة بين الباب ومنبج، وكذلك لمنع الصدام بينها وبين «قوات سوريا الديمقراطية». وهو ما يعني تثبيت خطوط التماس القائمة الآن وعدم السماح بفتح جبهات قتال بين القوى المتصارعة في تلك المنطقة. وهو ما قد يستتبع لجماً أمريكياً لقوات بيشمركة روج آفا لمنعها من دخول الأراضي السورية وفتح حرب جديدة بينها وبين قوات الفرع السوري للعمال الكردستاني. ولكن من يدري؟ فلربما فضَّل الأمريكي اقتتالاً محدوداً بين الفصيلين الكرديين الحليفين له، لضبط إيقاع التوازن بينهما وضمان عدم شطط حزب الاتحاد الديمقراطي في تحالفه مع موسكو. فهذا مما يوسع مروحة الخيارات البديلة لدى واشنطن.

سبق لوفد من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ـ الجسم الرئيسي للمعارضة السياسية السورية ـ أن زار أربيل، في الربيع الماضي، وطلب من بارزاني زج القوات الكردية السورية في حرب ضد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي، ولم يلق هذا الطلب التجاوب من مسعود بارزاني. وعلى رغم خبث هذا الطلب الساعي وراء إشعال نار حرب جديدة إضافية تحصد مزيداً من الأرواح بلا جدوى، فقد جاء على الأقل من طرف سوري معني بالموضوع. أما أن يستجيب بارزاني لطلب مماثل من تركيا ـ إذا صح ما يشاع بهذا الخصوص ـ فهذا ما يتعارض مع كل مسلكه السياسي المعروف.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

تركيا أمام مسائل الإرهاب والأكراد والديموقراطية/ نزار آغري

عندما اغتال مولود ألتينتاش السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف، نهاية السنة الماضية، نفذ الطيران التركي غارات مكثفة على مواقع حزب العمال الكردستاني. وعندما اقتحم عبدالقادر ماشاروف ملهى رينا في إسطنبول في رأس السنة الجديدة وفتح النار على مرتاديه وقتل العشرات، أسرعت السلطات التركية إلى اعتقال أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي، الموالي للأكراد، بمن فيهم رئيسه صلاح الدين دميرتاش. والآن تبدي الحكومة التركية استعدادها لإرسال قواتها (و/ أو القوات المتحالفة معها من المعارضة المسلحة السورية) إلى الرقة لمحاربة «داعش» في مقابل تخلي الولايات المتحدة عن دعم الأكراد (قوات حماية الشعب التابعة للاتحاد الديموقراطي الكردي السوري).

هذه ليست مزحة. لكنها تشبه المزحة. غير أنها مزحة ثقيلة، بل قاتلة، أشبه بالدعابة التي تقول إن رجلين كانا على عتبة الإعدام فسألوهما عن أمنيتيهما الأخيرة قبل الموت. قال الأول إنه يريد أن يرى أمه. قال الثاني إنه يريد ألا يرى الأول أمه.

هذا هو، في الواقع وفي شكل يكاد يكون حــــرفياً، سلوك تركيا مع الأكراد. عند وقوع أي حــــادث، أو معضلة أو مشكلة، تترك الحكومة كــــل شيء وتتوجه إلى الأكراد فتضربهم. لا تــــرى في هذه الدنيا شيئاً يغيظها، أكثر منهم. ليس فقط أكرادها، بل الأكراد أينما كانوا.

هي لا ترحم الأكراد ولا تدع رحمة الله تنزل عليهم من أي طرف آخر. لا تمنحهم أبسط حق من حقوقهم، ليس بوصفهم شعباً يتجاوز عدده في تركيا وحدها عشرين مليون نسمة، بل لا تمنحهم أي حق بوصفهم مجموعة أفراد. تحرمهم من لغتهم وثقافتهم وتاريخهم وتراثهم وأدبهم وفنهم ومسرحهم، دع عنك حقهم في تقرير المصير، فإذا بادرت جهة إلى إرسال دعم لهم، ولو علبة بسكويت، فإنها تترك كل شيء وتسارع إلى تلك الجهة كي تقنعها بسحب ذلك الدعم. وهي مستعدة لأن تتنازل عن كل شيء بما في ذلك سيادتها، وكل خطوطها الحمر، كي تمنع الكردي «من رؤية أمه».

منذ أعلن «داعش» الحرب على الحكومة التركية، (أو هكذا زعمت)، عمدت أنقرة إلى اعتقال سبعة من أفراد «داعش»، باعتراف وزير العدل التركي. في ما بعد جرى إطلاق سراحهم. هناك الآن في المعتقل جزار ملهى رينا. وفي مقابل ذلك تم اعتقال ألف وخمسمئة وثلاثة وستين من أعضاء حزب الشعوب الديموقراطي الكردي، منهم ثمانية وسبعون من رؤساء البلديات في الولايات والنواحي والمدن الكردية الكبيرة منها والصغيرة. هذه الأرقام أوردتها منظمة أمنيستي أنترناشيونال. وجرى اعتقال مئة وواحد وخمسين صحافياً، بمن فيهم الكاتبة أصلي أردوغان. واعتقل صحافيون من ألمانيا وهولندا والدنمارك لأنهم كتبوا تقارير «عن»، وليس «لمصلحة»، الأكراد. كتبوا عن الوضع في المناطق الكردية جنوب شرقي تركيا ووصفوه بأنه «حرب إبادة صامتة ضد الأكراد». جريمة كل هؤلاء تعبيرهم عن آرائهم التي تنطوي، ويا للهول، على دعوة إلى إيجاد حل سلمي للقضية الكردية. وأغلقت صحف وإذاعات ومحطات تلفزيونية بالجريمة نفسها. والآن هناك العشرات من الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون التي تكشف عن تعاطفها، في شكل مباشر أو غير مباشر، مع «داعش»، أو على الأقل نهجها.

دخلت الحكومة التركية صف محاربي «داعش» كراهية وليس طوعاً. ومع هذا فإنها «تحاربـها»

لفظاً وعينها على الأكراد. والحال أن الدافع الأكبر خلف إعلانها الدخول في حلف المناهضين لـ «داعش» إنما كان إزاحة الأكراد عن المشهد. هي لا تريد أن يكون للأكراد أي دور على الإطلاق.

أكبر انتصار تحققه الديبلوماسية التركية، من وجهة نظر الساسة الأتراك، ليس دعم الجهد الدولي لمحاربة «داعش» ولا تقديم المساندة للشعب السوري، على ما وعدت، ولا محاربة الرئيس السوري بشار الأسد (وكانت وضعت الكثير من الخطوط الحمر التي تحذره من تجاوزها، وتم التراجع عنها كما سقطت الدعوة لإسقاطه)، ولا الدفع في اتجاه دخول النادي الأوروبي. أكبر الانتصارات إقناع حكومات العالم، الغرب والولايات المتحدة وروسيا، بالتوقف عن التنسيق مع الأكراد في محاربة «داعش».

سيقول أحدهم إنني أبالغ، وإن الحكومة التركية الحالية تختلف عن سابقاتها، وإنها قطعت مع ذلك الإرث الشوفيني الفظيع الذي كرســـته الكمالية حيال الأكراد. غير أن الوقائع تكاد تفقــأ الأعين في ما يخص المعاملة التركية العنصرية والرهيبة للأكراد. الوقائع تبين أن لا شيء تغير في السياسة التركية: ما زال شعارها هو: ما أسعد من يقول أنا تركي. وما زالت كلمات وزير العدل الكمالي، عام ١٩٣٣، تتردد بالملموس: الأتراك وحدهم سادة هذا البلد أما الآخرون (وكان يقصد الأكراد بعد القضاء على تمردهم) فعبيد لدينا.

لو سألت مسؤولاً تركياً عن السبب وراء هذا السلوك الغريب لأسرع مجيباً أن الأمر يتعلق بالإرهاب. أنهم لا يعادون الأكراد بل حزب الإتحاد الديموقراطي لأنه إرهابي. هذا غير صحيح.

كل نشاط يقوم به الأكراد هو في عين الحكومة التركية إرهاب: دخول البرلمان، الكتابة في الصحف، الغناء، الرقص، التمثيل على المسرح، وربما تناول الفطور. كل هذا إرهاب إذا مارسه الأكراد. ما عدا ذلك أشياء عادية يمكن التعامل معها بهدوء، من قتل السفير الروسي إلى مجزرة ملهى رينا إلى إحراق «داعش» الجنود الأتراك وهم أحياء.

حين سئل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رأيه بـ «جبهة النصرة»، قال إنهم ليسوا إرهابيين بل حركة تحرير. و «النصرة» هي التي أحرقت الأخضر واليابس في سورية وأعدمت مراهقين لأنهم، في رأيها، مارسوا الكفر.

بالنسبة الى الحكومة التركية، لا ينهض تعريف الإرهاب من الفعـــل بل من الفاعل. فالحـــزب الاتحــادي الكردي إرهابي على رغــــم أنه لــــم يطلق رصاصة واحدة في اتجـــاه تركيا. بالعكس هو ضحى بالمئات من مقاتليه في محاربة «داعش». إنه حزب إرهابي ليــس لأنه يمارس الإرهاب، بل لأنه حزب كردي، فيما النصرة غير إرهابية لأنها غير كردية.

وسبق أن رأى العالم هذا الانحياز في كوباني. كان «داعش» يرتكب الفظائع في المدينة ويفتك بالبشر والحجر، على مرأى ومسمع الجنود الأتراك (كوباني على الحدود). لم تفعل الحكومة التركية أي شيء للحيلولة دون قيام التنطيم الإرهابي بذبح الناس. بل منعت الآخرين من مساعدة الأهالي، الذين حين تمكن بعضهم من الهرب أغلقت الحدود في وجههم. وعندما تمكن مقاتلو الحزب الكردي، ومقاتلاته، وفي شكل بطولي، من دحر التنطيم وإخراجه من المدينة، استشاطت تركيا غضباً. وهي استنكرت توفير الغرب الدعم للمقاتلين الأكراد واعتبرت ذلك تدخلاً خارجياً ومؤامرة لتقسيم سورية (هكذا، وليس تركيا).

الآن لا تتردد أنقرة في الطلب من الغرب قبول مشاركتها في تحرير الرقة شرط إبعاد الأكراد. فالتدخل الغربي لم يعد مؤامرة لتقسيم سورية.

لقد كان تحرير كوباني عملاً مداناً ومؤامرة لأن سكان كوباني أكراد. أما تحرير منبج والباب والرقة فيعد عملاً إنسانياً ونبيلاً لأن سكانها عرب!

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

«العمال» و «الديموقراطي» الكردستانيان: ضريبة نزاعهما يدفعها أكراد سورية/ هوشنك أوسي

استيقظ المتبقّون من عناصر وقيادات «المجلس الوطني الكردي في سورية – ENKS» في المناطق الكرديّة السوريّة، صباح السبت 4/3/2017 على وجود رصاصة وقطعة صابون وخرقة بيضاء أمام أبواب بيوتهم. وهذا الأسلوب مارسه حزب «العمال الكردستاني» بحق الساسة والنشطاء والكتّاب والمثقفين الكرد السوريين المناصرين والمشاركين في التظاهرات السلميّة المناهضة لنظام الأسد في مطلع الثورة السوريّة، إلى جانب ممارسة الخطف والاعتقال والاغتيال…، بغية ثنيهم عن الانخراط في الثورة السوريّة.

هذا الأسلوب الترهيبي مارسته أذرع الدولة الخفيّة التركيّة، كاستخبارات الجندرمة التركيّة (JITEM) في حقبة التسعينات ضدّ مناصري ومؤيدي «العمال الكردستاني» في تركيا، وخطفت واغتالت هذه المنظمة السريّة ما يقارب 17 ألف شخص في الفترة 1991 -2000. وعليه، يبدو أن «الكردستاني» بات يقلّد ويمارس أساليب ترهيبيّة بحق معارضيه ومنتقديه، هي نفسها الأساليب التي مارستها الدولة الخفيّة التركيّة بحق أنصار «العمال الكردستاني».

حدث ذلك عقب الاشتباك المسلّح فجر 3/3/2017 في قرية «خان صور» على الحدود العراقيّة – السوريّة بين مقاتلي «وحدات حماية شنكال» التابعة لـ «العمال الكردستاني» و «بيشمركة روج» التابعين لوزارة البيشمركة في إقليم كردستان العراق. حيث أرادت قوات البيشمركة الانتشار هناك، فهاجمتها القوات التابعة لـ «العمال الكردستاني» وسقط قتلى وجرحى من الجانبين. وفي اليوم التالي، شهدت المدن الكرديّة السوريّة هجمات على مكاتب ومقار الأحزاب الكرديّة المنضويّة في «المجلس الوطني الكردي» وتم حرقها، إلى جانب اعتقال العشرات من أعضاء وكوادر هذه الأحزاب في مناطق الجزيرة، كوباني وعفرين، من قبل سلطة حزب «الاتحاد الديموقراطي». إضافة إلى تنظيم الحزب التظاهرات الـ «عفويّة» المناهضة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني وحزبه «الديموقراطي الكردستاني». كل ذلك، والآلة الإعلاميّة التابعة لـ «العمال الكردستاني» وفرعه السوري «الاتحاد الديموقراطي» تقوم بحملة تهييج وتجييش ضد بارزاني وحزبه، وأخفّ النعوت التي أطلقت عليهما: «خائن، عميل، مرتزقة أردوغان…».

صحيح أن الصراع في أصله هو بين إيران التي تدعم «العمال الكردستاني» وفرعه السوري، وتدعم «الاتحاد الوطني الكردستاني»، جناح (ملا بختيار – هيرو ابراهيم احمد) وبين «الديموقراطي الكردستاني المدعوم من تركيا، إلاّ أن من يدفع ضريبة هذا الصراع بالدرجة الأولى هم كرد سورية. الصحيح أيضاً أن «العمال الكردستاني» يمارس أقصى درجات الاستفزاز ويحاول جرّ «الديموقراطي الكردستاني» إلى حرب كردية – كردية، بأي شكل من الأشكال. إذ لم يتوقّف إعلام «العمال الكردستاني» عن تخوين وشيطنة مسعود بارزاني منذ 2011. كذلك إعلام «الديموقراطي الكردستاني» ردّ على تلك الحملات، ولكن ليس بمستوى الشيطنة والتخوين نفسيهما اللذين طفح بهما إعلام «العمال الكردستاني».

من جهة أخرى، يتعامل «العمال الكردستاني» بمنطق وضع اليد وفرض الأمر الواقع والاستفادة من الأزمات. ففي أزمة 1991، والهجرة المليونيّة التي شهدها إقليم كردستان العراق، وسّع «العمال الكردستاني» من منطقة انتشاره داخل كردستان العراق. كذلك استفاد من الاقتتال الذي حصل بين «الاتحاد الوطني الكردستاني» و «الديموقراطي الكردستاني» (1994- 1998). واستفاد من سقوط النظام العراقي السابق وانشغال الحزبين الكرديين العراقيين بأمور ترتيب الحكم والسلطة في بغداد. والاستفادة الكبرى كانت من هجوم تنظيم «داعش» الإرهابي على منطقة سنجار (شنكال) الإيزيديّة، وارتكاب الإبادة المعروفة للقاصي والداني، وانسحاب مقاتلي «الديموقراطي الكردستاني» في شكل مفاجئ وغريب. حيث استثمر «العمال الكردستاني» محنة الإيزيديين للحدود القصوى في حربه السياسيّة والأيديولوجيّة ضد مسعود بارزاني وحزبه، وزجّ الحزب الأوجلاني بمقاتليه في منطقة سنجار، بهدف تحرير المنطقة. وبعد إنجاز ذلك، رفض «العمال الكردستاني» الانسحاب، وتعامل مع المنطقة وفق مبدأ، «وضع اليد» و «فرض الأمر الواقع. وبل حاول «العمال الكردستاني» فصل منطقة سنجار عن إقليم كردستان وتشكيل «كانتون» خاص منفصل، تابع لقيادة الحزب في جبال قنديل. ولكن الحزب عدل عن ذلك، ولو شكليّاً، تحت الضغط وردود الفعل الكرديّة الناقدة والساخطة، من دون أن يسحب قواته من تلك المنطقة. وصارت هذه القوّات تنسّق مع «الحشد الشعبي» الشيعي المدعوم من طهران.

حاليّاً، يتواجد بين قرية «خان صور» التابعة لمنطقة «سنوني»، على الحدود السوريّة – العراقيّة ومنطقة شنكال – سنجار ما يقارب 2000 مقاتل تابع لـ «العمال الكردستاني» تحت مسمّى وهمي هو: «وحدات حماية شنكال» على شاكلة «وحدات الحماية الشعبية» التي شكلها «العمال الكردستاني» في المناطق الكردية السورية منذ مطلع الثورة السوريّة.

الحقّ أن «العمال الكردستاني» وبعد قتال ضد تركيا دام أكثر من ثلاثة عقود، لم يستطع تحرير قرية جبليّة واحدة، إلاّ أن الحزب يسيطر الآن على مناطق واسعة من كردستان العراق (قنديل، زاب، خواكورك، حفتانين، متينا، كاريه، مخمور وشنكال)، ومع سيطرته على كردستان سورية، صار الحزب الأوجلاني يحاصر كردستان العراق من الشمال والغرب والجنوب، بينما يتكفّل حليفه «الاتحاد الوطني الكردستاني» بالسيطرة على محافظة السليمانيّة. ضمن هذا الطوق، تلعب قرية «خان صور» مكان الاشتباك دوراً رئيساً ومهمّاً كمعبر لمقاتلي «العمال الكردستاني» محملين بالأسلحة والأموال من سورية إلى قنديل وبالعكس. كذلك تعتبر هذه المنطقة الثغرة الآمنة التي يعبر منها المقاتلون الشيعة العراقيون والإيرانيون لنصرة نظام الأسد في سورية. لذا، تفاجأ «العمال الكردستاني» بالحركة العسكريّة التي قام بها «الديموقراطي الكردستاني» في قرية «خان صور» إذ اعتبرها محاولة قطع الشريان الواصل بين جبال قنديل والمناطق الكردية السوريّة. إلى جانب ما يشكله هذا «الكوريدور» الواصل بين الحدود الإيرانية وسورية من فوائد لنظام الأسد.

وبالعودة إلى تاريخ العلاقة بين «الديموقراطي الكردستاني» و «العمال الكردستاني» نجد أن جريدة «سرخوبون – الاستقلال» الناطقة باسم «العمال الكردستاني» نشرت في العدد 20، الصفحة 16، آب (أغسطس) 1983، نصّ الاتفاق المبرم بين الحزبين، والذي وقّعه في دمشق كل من مسعود بارزاني بصفته رئيساً لـ «الديمقراطي الكردستاني» وعبدالله أوجلان، بصفته السكرتير العام لـ «العمال الكردستاني». وتألّف الاتفاق من 11 بنداً، أهمّ ما فيه، هي البنود الخمسة الأخيرة (من 7 حتى 11)، لأن البنود الأولى تركّز على تشكيل جبهة مقاومة مشتركة لمناهضة الامبرياليّة والاستعمار وتركيا وأميركا. وجاء فيه:

7 – «التحرر الوطني الكردستاني، يتم في كل جزء من كردستان على حدة، اعتماداً على القوى السياسيّة لذلك الجزء…». يعني، يمنع تدخّل حزب كردي في شؤون الجزء الآخر من كردستان الذي لا ينتمي إليه.

8 – «احترام خصوصية كل جزء من كردستان. وعدم تشكل أي حزب، لحزب آخر مرتبط به، خارج الجزء الكردستاني الذي ينتمي إليه». يعني رفض تشكل «الديموقراطي الكردستاني» حزباً مرتبطاً به في كردستان تركيا. وبالعكس، رفض تشكيل «العمال الكردستاني» حزباً مرتبطاً به في كردستان العراق.

9 – «النضال الأيديولوجي بين الأحزاب الكردستانيّة لا ينبغي أن ينعكس سلباً على العلاقات بين هذه الأحزاب. ورفض اللجوء إلى السلاح لحل أي خلاف قد يحصل بين الطرفين…».

10 – عدم تدخّل أي حزب في شؤون الحزب الآخر، واحترام الاستقلال الأيديولوجي والسياسي لكل حزب».

11 – في حال حدوث أي خرق أو انتهاك أثناء تطبيق هذا الاتفاق، ينبغي على مسؤولي الحزبين إبلاغ بعضهما بعضاً. وفي حال تجاهل أي طرف لهذا الإبلاغ والتنبيه، فسيكون الحزب الآخر في حِلّ من هذا الاتفاق، ويمارس نضاله في شكل مستقل».

كان ذلك عام 1983، لكن، حين اشتد عود «العمال الكردستاني» وقويت شكوته، اتخذ في مؤتمره الرابع المنعقد في كردستان العراق عام 1990، قرار تشكيل «حكومة حرب» في منطقتي «بهدينان (كردستان العراق)» و «بوطان (كردستان تركيا)». ومنطقة «بهدينان» تاريخيّاً هي منطقة نفوذ «الديموقراطي الكردستاني». وبالتالي، ناهيكم عن نقل «العمال الكردستاني» ساحة حربه ضد تركيا إلى كردستان العراق، قرر ضم منطقة واسعة من كردستان العراق إليه. وهذه كانت أولى خطوات انتهاك الحزب الأوجلاني الاتفاق الذي وقعه مع مسعود بارزاني.

عام 1991، وعقب الانتفاضة الكردية العراقية، وتشكيل منطقة الملاذ الآمن، قرر «العمال الكردستاني» تشكيل حزب مرتبط به، تحت اسم «حزب الحرية الكردستاني (PAK)»، صحيح أن أعضاؤه كانوا كرداً عراقيين، ولكن الإدارة كانت خاضعة لقيادة «العمال الكردستاني».

في خريف 1992 دخل «الاتحاد الوطني الكردستاني» و «الديموقراطي الكردستاني» في حرب ضروس إلى جانب الجيش التركي ضد «العمال الكردستاني». وفجأةً، انسحب «الاتحاد الوطني» تاركاً «الديموقراطي الكردستاني» وحده في تلك الحرب.

عام 1994 بدأ الاقتتال بين «الديموقراطي الكردستاني» و «الاتحاد الوطني الكردستاني». واستفاد «العمال الكردستاني» من انشغال الحزبين العراقيين ببعضهما بعضاً، ووسّع مناطق نفوذه في كردستان العراق. وعام 1995، وبالتنسيق مع «الاتحاد الوطني الكردستاني» هاجم «العمال الكردستاني» مناطق «الديموقراطي الكردستاني» من الخلف. فأصبح مصير حزب بارزاني على كف عفريت، حزب طالباني من الشرق وحزب أوجلان من الشمال، فلم يبقّ أمام بارزاني إلاّ الاستنجاد بجيش صدام حسين عام 1996، وكان له ذلك. وبعد أن استقرّ الوضع لبارزاني، التفت «الديموقراطي الكردستاني» إلى «العمال الكردستاني» بخاصة أن الأخير أعلن منطقة «زاب» منطقة خاضعة لنفوذه وأطلق عليها اسم «جمهورية زاب».

منذ عام 2000 ولغاية 2008، رفض «الديموقراطي الكردستاني» وزعيمه الضغوط التركيّة للدخول مجدداً في حرب مع «العمال الكردستاني» ورفض إطلاق وصف الإرهاب على حزب أوجلان، في حين وصف «الاتحاد الوطني» حزب أوجلان مراراً بالإرهاب، وشنّ هجوماً واسعاً على جبال قنديل عام 2000، محاولاً الاستفادة من البلبلة التي حصلت داخل حزب أوجلان بعد اعتقال الأخير وخطفه من نيروبي عام 1999. لكن هجوم حزب طالباني فشل، وخسر مناطق أخرى كانت خاضعة لنفوذ «الاتحاد الوطني». معطوفاً عليه، دعم وتمويل «الاتحاد الوطني» كل حالات الانشقاق التي حصلت في «العمال الكردستاني» وفرعه السوري عام 2004. في حين لم يفعل «الديموقراطي الكردستاني» ذلك.

ومن المفارقات الكرديّة حاليّاً أن حزب جميل بايك، (بعد ان فقد اوجلان السيطرة عليه)، و «الاتحاد الوطني الكردستاني» هما حلفاء يتبعان محور طهران – القرداحة. ولأن حزب طالباني صار ضعيفاً، بات يستخدم «العمال الكردستاني» كعصا ضاربة ضد حزب بارزاني.

قصارى القول: يتعرّض مسعود بارزاني لضغوط متعددة من تركيا، تهدف إلى الزجّ به في حرب ضد «العمال الكردستاني»، ويرفض بارزاني ذلك منذ 2008. ويتعرّض لضغوط من جانب إيران والحكومة العراقية، ولضغوط من جانب حلفاء إيران «الاتحاد الوطني الكردستاني» و «حركة كوران»، إلى جانب الانشغال بالأزمة المالية التي يعانيها الإقليم والحرب على تنظيم «داعش». ومن غير المعروف إلى متى يمكن لبارزاني ممارسة ضبط النفس، بخاصة حيال ضغوط «العمال الكردستاني» الذي بات يتعامل مع كردستان العراق، كتعامل الفصائل الفلسطينيّة مع الأردن عام 1970، وتعامل منظمة التحرير مع لبنان مطلع الثمانينات. إذ يريد «الكردستاني» تعويض فشله في كردستان تركيا، عبر تحقيق مكاسب في العراق وسورية، وحطبه في ذلك كرد سورية.

الحياة

 

 

 

 

سنجار في عين العاصفة/ شورش درويش

يحتفظ سجل كردستان العراق بذكرى الحرب الأهلية المؤلمة، التي قلّما يتذكرها الإعلام الكردستاني كذكرى مشؤومة. فيتم، عن عمد وعن ندم، تخبئة هذه الذكرى التي عصفت بكردستان خلال الأعوام 1994-1996 وما خلّفته من ذكريات يصعب تجاوزها، أفضت حينها إلى مقتل وإصابة الآلاف، ومسحت قوى عشائرية من خريطة التأثير داخل كردستان، وتراجعت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.

ولم تتوقف رشقات الحرب بين الحـــزبين حتى تمكنت الخارجية الأميركية ووزيرتها مادلين أولبرايت من تقـــريب الطــرفين المتنازعين عام 1998 ليـصـــار إلى تشكيل إدارة موحّدة، بعدما عانت كردستان، فوق حربها الأهلية، ضعفاً إدارياً وانقساماً ذاتياً. هكذا تراجعت قدرة بغداد وطهران على التدخل في الصراع الكردي المحلّي وتغذيته.

اليوم تطل مسألة تواجد قوات حماية سنجار (YPSH) التابعة لحزب العمال الكردستاني برأسها مجدداً. فهذه القوات ملأت، بعيد الإبادة التي تعرض لها الإيزيديون على يد «داعش»، الفراغ الناجم عن ترك قوات البيشمركة التابعة لأربيل مواقعها، ما أفسح المجال في شكلٍ درامي لعمليات قتل وخطف تعرّض لها السكان المحليون، لتقوم وحدات حماية سنجار ووحدات حماية الشعب في الضفة السورية بتأمين ممر ساهم في إنقاذ عشرات الآلاف من العالقين من سكان المنطقة. وهذه المسائل وسواها رفعت رصيد العمال الكردستاني الذي يجيد لعبة ملء الفراغ الكردي.

مع اندلاع المواجهات المسلحة الأخيرة، وقع المحظور والمتوقع: الصدام المباشر بين وحدات حماية سنجار وقوة تابعة للديموقراطي الكردستاني جلها من كرد سورية تسمى بقوات الشمس أو «بيشمركة روجآفا»، وهي تشكيل كردي سوري يبلغ بضعة آلاف ويحظى بدعم رئاسة الإقليم. ولا تخفي خطوة إشراكهم في هذه المعركة البعد الرمزي الذي يتكئ عليه الديموقراطي الكردستاني في أنه يمتلك تحريك العديد من أوراقه الراكدة. وعلى رغم التكتم على عدد القتلى والمصابين في الجانبين، تشير الأنباء إلى وقوع إصابات محققة وإلى إمكانية تجدد الاشتباكات والتجهيز لمعارك أشد ضراوة بين الطرفين.

على رغم الوعود التي قطعتها وحدات حماية سنجار والعمال الكردستاني من أن مهمتهم في سنجار محض قومية وإنسانية، فإنهم لم يقوموا بما تعهدوا به، ما دفع بارزاني وقواته إلى التحرك بغية إرغام تلك القوات على إفراغ المنطقة وإعادتها إلى سيطرة قوات البيشمركة. ولعل السؤال الأهم حول إصرار العمال الكردستاني على الاحتفاظ بمواقع سيطرته في سنجار يعكس إستراتيجية طامحة لدى الحزب بربط مناطقه شمال سورية التي يسيطر عليها بالمناطق الخاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني مروراً بمناطق تابعة لحكومة بغداد. ذلك أن المعبر الوحيد الذي يربط كردستان العراق بشمال سورية في شكل رسمي (معبر سيمالكا) بات يشكل مادة للتجاذب السياسي والضغط الاقتصادي بين الجانبين. وعليه فحل الممر الممتد بين مناطق الشمال السوري، مروراً بسنجار ومناطق تابعة لحكومة بغداد، إلى مناطق سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني قد يفضي إلى تطويق أربيل وإضعاف سيطرة بارزاني. لذلك فإن لعبة الحضور التي يخوضها الطرفان تأخذ أبعاد الصراع المباشر، لكن المتبرّم من الالتزامات القومية والمصالح الكردية العليا. ولعل المصالح الاقتصادية التي تقف خلف الرغبة في السيطرة على سنجار لن تكون سبباً هامشياً عند التفكير في سرِّ سنجار لما تمتلكه من موقع استراتيجي مؤثّر.

أما اعتبار تركيا وإيران المسعّرتين والمتحكمتين بتوقيت معارك سنجار، فمسألة تحوي الكثير من التلخيص والقفز على فكرة المصالح الحزبية، ذلك أن بنية الأحزاب الكردية الكبرى تقبل منطق الحرب الأهلية والاحتكام للسلاح سواء تمتعت بدعم إقليمي أم لا. فقد كانت الحرب التي خاضها حزبا الاتحاد الوطني والديموقراطي والتي تعرف في الأدبيات الكردية بـ «حرب الإخوة» منطلقة من نوازع حزبية صميمة ليأتي الدعم الإقليمي لاحقاً كأحد تداعيات الحرب وليس سبباً لها.

في 1994 شكل الأمين العام للاتحاد الإسلامي الكردستاني، صلاح الدين بهاء الدين، «لجنة السلام والتآخي» بغية التقريب بين الإخوة – الأعداء، فكان أن استثمر الاتحاد الإسلامي حينه في مسألة السلام. ولعل النجاح النسبي وقتها منح الحزب الشعبية والحضور داخل الساحة السياسية في كردستان العراق. أما الآن فالوضع يختلف، لا سيّما أن الاتحاد الوطني يبدو في وضع حرج، إذ تجمعه شراكة راسخة بالديموقراطي الكردستاني في مقابل علاقة إستراتيجية مع العمال الكردستاني.

ويبقى السؤال الكبير حول حضور أميركا التي تساند هاتين القوتين الكرديتين المتصارعتين. فذلك تم في ظل شراكة أميركية – كردية لعدم تبديد الجهود للقضاء على «داعش» في حروب ومعارك جانبية.

ويعرف الكرد جيداً أن في وسع أميركا وحدها وضع حد لما يحدث في سنجار، فهي – التي يعرفها الكرد – تملك مفاتيح الحل هناك إن لم نقل أنها تملك الأبواب أصلاً.

* كاتب كردي سوري

الحياة

 

 

 

إردوغان في زمن الرقة/ سميح صعب

يفرض التقدم السريع في معركة الموصل، تقدماً مماثلاً في الرقة لئلا يتاح لـ”داعش” أن يلتقط الأنفاس. لعل هذا هو الغرض من الاجتماع المفاجئ لرؤساء اركان الجيوش الاميركية والروسية والتركية في انطاليا. فواشنطن تريد تخطي الخلافات التركية – الكردية التي، إذا استعجلت، سوف تؤخر الحسم في الرقة. وفي سبيل ذلك بدت أميركا مستعدة لتحمل تقريع أنقرة لها على تفضيلها “قوات سوريا الديموقراطية” التي تتشكل في معظمها من مقاتلين أكراد لخوض المعركة، عوض الجيش التركي والفصائل السورية العاملة تحت لوائه.

إنحياز واشنطن الى الاكراد حمل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان مجدداً الى موسكو بعدما بدا في مرحلة من المراحل أن الرجل نام على حرير “المناطق الآمنة” التي قال الرئيس الاميركي دونالد ترامب إنه يريد اقامتها في سوريا، ليكتشف أن الجيش الاميركي ينشر طلائع قواته في منبج التي أرادها أردوغان هدفاً تالياً له بعد سيطرته على الباب على رغم ارادة موسكو. فهل وقع إردوغان ضحية لعبة أمم أميركية – روسية أكبر منه بكثير في سوريا؟

ومثلما لا تروق إردوغان رؤية القوات الاميركية في منبج فهو لا يستسيغ أيضاً رعاية موسكو اتفاقاً بين الحكومة السورية و”قوات سوريا الديموقراطية” التي يشكل المقاتلون الاكراد غالبية مقاتليها، تسلم بموجبه الجيش السوري عدداً من القرى المحيطة بمنبج.

هذا يحمل على الاعتقاد أن أنقرة باتت تفتش الآن عن دور في سوريا بعدما احتكرت مدة ستة أعوام من عمر الأزمة، الدور الرئيسي فيها وكانت اللاعب الاكبر من خلال استقدام المتشددين من انحاء العالم لينضموا الى “داعش” و”جبهة النصرة” بهدف التعجيل في اسقاط النظام في سوريا. اليوم تحارب تركيا في الجبهة ضد هؤلاء من غير أن تكون سائرة على قاعدة عدو عدوي صديقي.

مع العلم أن تركيا لم تنقلب على “داعش” و”النصرة” إلا تحت الضغط الروسي والاميركي في ما بعد، وبعدما بات الجهاديون يهددون بتحويل تركيا كما سوريا والعراق ساحة لعملياتهم.

وليس بالأمر الهين ان تتوسل انقرة دوراً في سوريا سواء من واشنطن أو من موسكو. ولكن يبدو ان مرحلة اللعب على التناقضات قد بلغت نهاياتها وصار الدور التركي على المحك في مفصل من المفاصل الاستراتيجية التي تمر بها المنطقة وخصوصاً مع التقهقر الواضح في قوة “داعش” وخسارة التنظيم أكثر من 65 في المئة من الاراضي التي كان يسيطر عليها عام 2014.

ومن الموصل الى الرقة باب التحولات الكبرى مفتوح على مصراعيه. ولدى إردوغان الكثير ليخشاه!

النهار

 

 

 

المتسابقون إلى الرقّة/ الياس حرفوش

تخالهم ذاهبين جميعاً لمحاربة «داعش» والقضاء على أبي بكر البغدادي في عقر داره الأخير. أميركيون وروس. إيرانيون وأتراك. عرب وكرد. سنّة وشيعة. ما بقي من جيش بشار الأسد وما بقي من فصائل المعارضة. غير أنه، وفيما البغدادي يحفر الخنادق حول الرقة ويزرع الألغام في الطرق المؤدية إليها، لا يبدو على هؤلاء المتقاتلين في ما بينهم على محاربته سوى أن همّهم الأول، وربما الأوحد، هو القضاء على بعضهم بعضاً قبل أن يصلوا إلى آخر «عواصم الخلافة»، هذا إذا لم ينجب البغدادي عاصمة جديدة قبل هزيمته المفترضة في الموصل ثم في الرقة. هل تكون دير الزور مثلاً هي هذا الوليد الجديد؟

في الطريق إلى الرقّة ظهرت فجأة كل النزاعات الإقليمية وصراعات المصالح على الطبق السوري. العداء التركي – الكردي يطفو على السطح، وأصبح يفوق العداء الذي صمّ آذاننا منذ بدايات الحرب السورية بين رجب طيب أردوغان وبشار الأسد. «الجيش السوري الحر»، الذي كان يفترض أن يكون عماد القوات المعارضة «المعتدلة»، صار الآن في الحضن التركي، فيما فصائل معارضة أخرى تطلق على نفسها «قوات سورية الديموقراطية» صارت أقرب إلى النظام مما هي إلى المعارضة. هذه القوات هي التي تتمتع الآن بالرعاية الروسية وبالعطف الأميركي، وهي التي يتم تحضيرها لمعركة الرقة، فيما تم استبعاد أردوغان والمتحالفين معه بحجة أنهم «قوات محتلة»، والمحتل لا يستطيع أن يحرر أرضاً من الاحتلال!

بلغت المأساة السورية حداً أصبحنا معه بحاجة إلى خريطة جديدة كل يوم لتوزيع القوى على الأرض، بين من يقف مع بشار الأسد ومن يعارضه. تركيا وروسيا متفقتان على محاربة «داعش» ومختلفتان على من يرث «داعش». دونالد ترامب وخامنئي متفقان على محاربة «داعش» ومختلفان على أي شيء آخر. ترامب وبوتين متفقان على أن الأولوية في سورية هي للقضاء على «داعش» ومختلفان، حتى الآن، على مصير الأسد. بقاء الرئيس السوري في الحكم لم يشكل في أي يوم مشكلة بالنسبة إلى الرئيس الروسي. أما ترامب، الذي يكره التعقيد ويفضل البساطة، فقد أمر وزارة الدفاع أن تجعل القضاء على «داعش» أولوية في خططها السورية. وفيما بقي سلفه باراك أوباما متردداً في إرسال قوات أميركية إلى الأرض السورية، ها هي طلائع الجنود الأميركيين تتوافد إلى بلاد الشام، بالمئات حالياً، وربما غداً بالآلاف، وكل ذلك من أجل ضمان منع الاقتتال بين «الحلفاء» المعارضين، من عرب وكرد، الذين قاتلوا يوماً ما في خندق واحد. هذا أولاً. وثانياً من أجل أن تشكل القوات الأميركية ظهراً لحماية القوات التي ستدخل إلى الرقة، والتي لن يكون مستبعداً أن تكون خليطاً من معارضين «ديموقراطيين» ومن قوات لنظام بشار الأسد. وكل هذا الخليط من أجل استعادة هذه المدينة من البغدادي.

وسط هذا الخليط المعقد من المتسابقين على استعادة الرقة، كدنا ننسى بنيامين نتانياهو. إسرائيل ليست على الأرض السورية (باستثناء الجولان المحتل). هذا ما نسمعه على الأقل. لكن إسرائيل قلقة هي أيضاً مما سيحصل بعد «داعش» والبغدادي. لهذا ترك نتانياهو الفضائح خلفه، وذهب إلى موسكو للقاء بوتين والشكوى من حلول قاسم سليماني مكان أبو بكر البغدادي في سورية. لم يُعرف جواب بوتين على هذه الشكوى، في ظل علاقة التحالف الملتبسة بين موسكو وطهران في النزاع السوري.

رب سائل يقول: إذا كانت كل هذه الأطراف تتصارع على الأرض السورية، فأين هم السوريون؟ إنه السؤال الذي يختصر المأساة السورية. المأساة التي جاءت بالبغدادي إلى المسرح السوري هي التي جلبت اللاعبين الآخرين. هؤلاء اللاعبون من كل أصقاع الارض، يتناتشون الطبق السوري، فيما السوريون يجوبون حدود الدنيا بحثاً عن ملجأ ولقمة خبز.

أليس بقاء بشار الأسد في الحكم بهدف الدفاع عن سيادة سورية وحماية أرضها وشعبها؟

الحياة

 

 

 

المعركة المقبلة على الرقة تعيد تشكيل التحالفات المحلية والإقليمية/ إبراهيم درويش

شهدت الساحة السورية حراكا نشطا في الأيام الأخيرة تركز حول المعركة المقبلة في الرقة آخر المعاقل الكبيرة لتنظيم «الدولة» وهي المعركة التي تتصارع عليها الإرادات المتعددة. وعلى خلاف المعركة الدائرة على الموصل في العراق وتقترب من نهايتها، فإن الأراضي التي أجبر تنظيم «الدولة» على الخروج منها في سوريا أصبحت مركزا للتنافس الاستراتيجي بين القوى المحلية والإقليمية والدولية. ولهذا جاءت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يوم الخميس إلى موسكو واجتماعه مع الرئيس فلاديمير بوتين حيث جدد فيها رغبة بلاده طرد المقاتلين الأكراد من مدينة منبج الذين دخلوها ضمن تحالف أنشاته أمريكا وهو «قوات سوريا الديمقراطية» في محاولة من إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما استرضاء تركيا التي تعتبر قوات حماية الشعب الكردية فرعا لحزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا انفصالية ضد الدولة التركية. وكان لافتا أن تركيا قررت إرسال قواتها إلى العمق السوري بعد أسابيع من طرد جهاديي تنظيم «الدولة» من منبج. فقد أعلنت أنقرة في آب (أغسطس) 2016 عن عملية درع الفرات في محاولة لمواجهة تهديد تنظيم «الدولة» على تركيا الذي شن عمليات إرهابية ضدها خلال العامين الماضيين من جهة ومنع الأكراد من التقدم صوب غرب الفرات لتأمين كانتونهم «روج آفا» حيث تخشى من ولادة كيان تابع لحزب العمال الكردستاني. ويبدو أن تقدم القوات المدعومة من تركيا باتجاه منبج كان وراء نشر أعداد من القوات الأمريكية الخاصة في سوريا وبشكل علني، حيث رفرفرت الأعلام الأمريكية على دبابات سترايكر وهمفي وانتشرت في عدد من القرى القريبة من منبج في مهمة قال المسؤولون الأمريكيون أنها من أجل التهدئة وتأكيد السلام بين الأطراف المتنازعة وسط تحضيرات الإدارة الأمريكية لمعركة الرقة.

من يدخل الرقة؟

وتحولت المعركة على الرقة وطبيعة القوة التي ستقودها لموضوع نقاش حاد، حيث ترفض أنقرة مشاركة قوات سوريا الديمقراطية وبالضرورة دخول قوات كردية مدينة غالبيتها عربية. أما أمريكا فعلى ما يبدو ماضية في تحضيراتها وتعاونها معهم. وحسب المراجعة التي طلبها دونالد ترامب في 28 كانون الثاني/ يناير لخطة الهجوم على ما يطلق عليها عاصمة «الخلافة» والتي أعدتها إدارة أوباما، فالبنتاغون سيزيد من عدد القوات الخاصة وسيزود السلاح مباشرة للأكراد من قاعدة عسكرية في بلدة كوباني حسبما أوردت صحيفة «واشنطن بوست»، وزادت الولايات المتحدة من تحضيراتها حيث نشرت 900 جندي يوم الأربعاء بعضهم سيستخدم أسلحة ثقيلة في المعركة المقبلة. كل هذا وسط جدل بين أربع قوى وهي أمريكا وتركيا وروسيا والنظام السوري، كل يحاول إملاء شروطه وشكل المعركة المقبلة والتي تركزت على مدينة منبج في الوقت الحالي. وكانت تركيا اقترحت على الإدارة الأمريكية خطة بديلة لتحرير الرقة لم تجد قبولا من القيادة العسكرية الحالية ولا السابقة التي تعتقد أن الأكراد هم حلفاؤها في سوريا. وأشارت صحيفة «الغارديان» أنه بمواجهة الخطة الأمريكية يجري الحديث عن خطة أخرى روسية ـ تركية يتم فيها التعاون بين القوات المدعومة من أنقرة وبقايا جيش النظام وبدعم من الطيران الروسي، ومن السابق لأوانه الحديث عن هذا.

وتقول الصحيفة إن معركة التأثير في الحرب السورية يتم تشكيلها ولأول مرة على الجبهة السياسية. فقد دعت روسيا وتركيا المتحالفتان منذ العام الماضي قوات النظام للعودة إلى المنطقة القريبة من الحدود التركية نفسها حيث ترابط القوات الأمريكية الآن.

نهاية قضية

وترى المعارضة السورية التي ركزت معظم الوقت على محاولات الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، أن التحرك يعتبر المسمار الأخير في تراجع الدعم التركي لقضيتهم. فالمعركة على حلب وسقوطها في نهاية العام الماضي والذي التزمت تركيا الصمت عليه بالإضافة لتركيز حكومة أنقرة جهودها على قتال تنظيم «الدولة» والأكراد، أقنع قادة المعارضة المسلحة في الشمال أن قضيتها انتهت. وتقوم هذه التحولات بتشكيل النظام الإقليمي الذي تؤثر عليه تركيا وإيران وترعاه روسيا. وتقول جماعات المعارضة إن الرسالة التركية لها هي أنه يجب التركيز الآن على العدو المشترك بينها والنظام – أي تنظيم «الدولة». وفي شمال سوريا تشعر الجماعات التي أتعبتها خمس سنوات من الحرب أنها «خسرت». ونقلت «الغارديان» عن سعيد شيخ الذي قاتل منذ بداية الحرب قوله «قضيتنا انتهت» و «بدون تركيا وقطر فلا نعرف إلى أين نمضي، والواقع ظل هكذا منذ سقوط حلب». ويتزامن التغير في الموقف التركي المدفوع على ما يبدو بالحسابات الجيوسياسية والمخاوف على حدودها الجنوبية مع سوريا مع مواقف الإدارة الأمريكية الجديدة لدونالد ترامب الذي جمد المساعدات للمعارضة السورية. وحتى برنامج مساعدة المقاتلين الذي كانت تشرف عليه «سي آي إيه» من خلال مركز العمليات العسكرية في أضنة وبرنامج التدريب الفاشل الذي أشرفت عليه وزارة الدفاع لم تكن كافية لمنح المقاتلين السلاح الكافي للانتصار في المعركة. فالأسلحة التي كانوا يحصلون عليها مستعملة وتشترى من دول أوروبا الشرقية. ولم تستجب الولايات المتحدة لمطالب قادة الفصائل الحصول على أسلحة جيدة. وحسب قيادي توقف عن القتال في تموز/يوليو ويعيش الآن في جنوب تركيا «كانت المعارضة تأتي من الأمريكيين دائما» و«كانوا راضين عن توفير البنادق والرصاص وهذا كل ما في الأمر، وبهذه لم نكن لنربح الحرب وكنا نأمل بالسيطرة على الأسلحة الثقيلة من النظام، وبعد ذلك غيرت تركيا موقفها». ومع أن مركز العمليات العسكرية لا يزال موجودا إلا أن الأسلحة التي ترسل قليلة جدا ومعظمها من فترة الاتحاد السوفييتي السابق والتي تم شراؤها من بلغاريا وصربيا وترسل بتعليمات أنها للاستخدام فقط في محاربة تنظيم «الدولة».

البعد الكردي

ولا يخفى أن التغير في الموقف التركي نابع من خوف أردوغان على سيادة أراضيه ووحدة بلاده. فقد حاولت روسيا لعب الورقة الكردية ضده بعد تردي العلاقات الروسية – التركية إثر إسقاط الطائرة الروسية والذي أدى لتوقف العلاقات وعقوبات اقتصادية ودعم للأكراد حيث سمح الكرملين لهم بفتح ممثلية في موسكو. وحدث التغير في العلاقات في نيسان/ إبريل عندما أعلن بوتين أنه مع وحدة الأراضي السورية وهو ما يعني عدم دعم الطموحات الإستقلالية للأكراد. واعتبر أردوغان الإعلان بمثابة حماية للسيادة التركية. وفي الوقت الذي قللت فيه روسيا من دعمها للأكراد زادت الولايات المتحدة من الدعم. وهو ما أغضب تركيا التي على كونها عضوا في حلف الناتو فهي تعتبر الحليف التقليدي للولايات المتحدة وجزءا من التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم «الدولة» وسمحت باستخدام القاعدة العسكرية في إنجرليك ضد الجهاديين. وبالنسبة لأنقرة فموسكو تبدو متعاطفة مع المخاوف التركية أكثر من الحليف التقليدي، واشنطن. وحسب دبلوماسي غربي تحدث لـ«الغارديان» «فقد كانت هذه هي اللحظة التي غيرت كل شيء» و «منذئذ باعت تركيا حلب لمنع الأكراد، وبدأوا (الأتراك) بالحديث عن مهمتهم في سوريا باعتبارها إنسانية، وبدأ الدور الأمريكي يقل أكثر فأكثر». وكان مدير الإستخبارات الأمريكية «سي آي إيه» الجديد مايك بومبيو قد زار أنقرة الشهر الماضي لمناقشة الحرب في سوريا وقتال تنظيم «الدولة». وحسب مسؤول بارز «فلا يزال من غير الواضح من سيسطر على الرقة بعد سقوط الموصل»، «ويواصل الأمريكيون الميل تجاه الأكراد رغم معارضة الأتراك الشرسة. ويريد الروس أن يقوم بالمهمة جيش النظام وجماعات المعارضة تحت رعايتهم، ولا تعارض تركيا هذا. وما هو مؤكد أن الأسد لا يحتاج للخوف من المعارضة، فمصيره بيد الروس والإيرانيين». وفي المحصلة النهائية تواجه أنقرة والجماعات المتحالفة معها معضلة تتمثل بأن مسارات الحرب تسير في الإتجاه المضاد لها، ففي معركة الرقة تتمسك الولايات المتحدة بقوات سوريا الديمقراطية. وعندما تبدأ المعركة فستدخل الحرب في مرحلتها النهائية وستجد تركيا نفسها أمام منعطف. وتبدو الرقة «هدية» يريد كل طرف الحصول عليها لتعزيز مواقعه في أي تسوية مقبلة على مستقبل سوريا، فأكراد سوريا يعتبرونها هدفا لتأكيد وجودهم وأنهم قوة يحسب لها حساب. وهم في الطريق لتحقيق هدفهم، ذلك أن أمريكا تقف بينهم وبين تركيا.

القدس العربي

 

 

 

ترامب يخذل أردوغان ويساير «أكراد الأسد»/ حسان حيدر

ربما يجب أن نأخذ من تصريح الرئيس التركي أردوغان الأخير حول سورية ثلاث كلمات فقط: «لن نهاجم منبج»، أما بقية كلامه عن التشاور المسبق مع أميركا وروسيا، فيدخل في باب التبرير بعدما قررت واشنطن أن حاجتها إلى الأكراد في الهجوم الذي يجري التحضير له على الرقة أهم، في الوقت الحاضر على الأقل، من معالجة مخاوف تركيا منهم، وبعدما شاركت موسكو في حماية الأكراد في منبج عبر التلويح بمواجهة بين الجيشين السوري والتركي، فيما يبدو أنها خطوات منسقة بين الولايات المتحدة وروسيا.

وكان إرسال قوة رمزية أميركية إلى المدينة لمنع الأتراك من مهاجمتها دليلاً على التزام إدارة ترامب أولوية «القضاء على داعش» التي اعتُمدت في عهد أوباما، خصوصا أن الرئيس الأميركي الجديد يحتاج كثيراً، وبسرعة، إنجازاً خارجياً يغطي تعثره في الداخل حيث يخوض معركة خاسرة حتى الآن مع الصحافة والقضاء وهيئات حماية البيئة، ويتعثر في مقارباته للسياسة الخارجية.

وعلى رغم أن الموقف الأميركي يخذل أردوغان وسعيه الحثيث إلى وأد احتمال قيام أي نوع من «الاستقلال» الكردي في مناطق شمال سورية، فإن واشنطن تعرف أنها لا تستطيع الاستغناء عن أنقرة في المدى البعيد، وأنها لا بد من أن تعيد تقويم سياستها إزاء الأكراد بعد انتهاء معركة الرقة، وهي مهمة قد تكون صعبة وتتوقف على ما سيقرره الأتراك.

ومع أن الأميركيين استثمروا في تدريب الأكراد وتزويدهم أسلحة خفيفة وقدموا لهم دعماً مالياً ولوجستياً، مع معرفتهم بأن «وحدات حماية الشعب» بزعامة صالح مسلم تربطها علاقات قوية بنظام بشار الأسد، فإن الأكراد عملياً يسددون سلفاً ثمن علاقتهم بالولايات المتحدة التي لم تعدهم يوماً بدعم حكم ذاتي لهم، لكنها لم تعلن أيضاً معارضتها لمثل هذا الاحتمال في أي تسوية مستقبلية للوضع في سورية.

وعلى أمل أن «يقبضوا» لاحقاً ولو بالتقسيط، يشارك الأكراد بفاعلية في القوة التي ترعاها أميركا وتحضرها للهجوم على الرقة إلى جانب قوات عشائرية عربية تحت مسمى «قوات سورية الديموقراطية»، ويلتزمون الخطط الأميركية، وكذلك أي اتفاقات يتم التوصل إليها بين الولايات المتحدة وروسيا حول دورهم ومناطق انتشارهم، لكنهم يستغلون في الوقت ذاته علاقتهم بدمشق وموسكو للدفع في اتجاه مواجهة بين الجيشين السوري والتركي تخفف عنهم ضغوط أنقرة. وتلافي مثل هذا الاحتمال كان السبب الرئيس في انعقاد الاجتماع العسكري الثلاثي بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة في أنطاليا قبل أيام.

وتعرف واشنطن أن الهجوم على الرقة يتطلب حشداً واسعاً للمقاتلين المحليين على الأرض لأنها غير قادرة على الزج بأعداد كبيرة من الجنود الأميركيين، ومضطرة إلى الاكتفاء ببعض وحدات من القوات الخاصة لقيادة العمليات وتوفير الدعم. لكنها في الوقت ذاته لا ترى في الأكراد قوة رئيسية يمكن الاعتماد عليها في السيطرة على المناطق المستعادة من «داعش»، بسبب ضآلة عدد المقاتلين نسبياً (30 ألفاً في أفضل تقدير) وضعف تسليحهم، وهو رقم بالكاد يكفي لتوفير الأمن في المناطق التي يقيم فيها الأكراد حالياً «إدارة ذاتية».

بل يدرك الأميركيون أنهم ربما يحتاجون إلى نشر قوات تركية في الرقة بعد تحريرها، وأنهم لا يستطيعون الاستغناء عن التسهيلات العسكرية التركية لاستمرار انتشارهم ونفوذهم في المنطقة وموازنة القواعد الروسية في سورية.

وإذا كان الأميركيون حريصين على طمأنة أنقرة إلى أن سياسة تفضيل الأكراد ليست سوى إجراء موقت، وأن العلاقة معها استراتيجية وتتجاوز الحرب على «داعش»، فإن تركيا في المقابل ربما وجدت في الموقف الأميركي الذريعة التي تفتش عنها للامتناع عن المشاركة بقواتها في المعركة، التي يتوقع أن تكون حامية جداً وخسائرها كبيرة على الأطراف جميعاً، على أمل اضطرار الأميركيين إلى طلب مساعدتها في حال تعثرت حملتهم.

الحياة

 

 

 

خيارات تركيا في سوريا بعد الباب/ سعيد الحاج

لعبة الشطرنج

بين منبج والرقة

الأكراد والحل السياسي

أعلنت رئاسة أركان الجيش التركي في 24 فبراير/شباط الفائت سيطرتها الكاملة -مع الجيش السوري الحر- على مدينة الباب السورية الإستراتيجية، بعد ستة أشهر كاملة من بدء عملية درع الفرات.

ويأتي هذا الإعلان في توقيت حساس يستبق إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب خطة بلاده بخصوص معركة الرقة، ويتزامن مع مفاوضات جنيف 4، مما يفتح الباب واسعاً لأسئلة عن الخطوات القادمة من مختلف الأطراف وليس فقط تركيا.

لعبة الشطرنج

بدأت تركيا عملية درع الفرات في 24 أغسطس/آب 2016، وأنهت خلال أيام قليلة المرحلتين الأولى والثانية بالسيطرة على مدينتيْ جرابلس والراعي، بيد أن المرحلة الثالثة المتعلقة بمدينة الباب تأخرت في البدء والختام لعدة اعتبارات، أهمها بُعدها عن الحدود التركية، وعدد سكانها الكبير، والتحديات الميدانية واللوجستية المختلفة، ودفاع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) المستميت عنها.

السيطرة التركية على الباب وجّهت الأنظار مباشرة إلى كل من منبج والرقة، فأدت إلى تحركات ميدانية سريعة متعلقة بهذين المسارين. سريعاً، تحركت قوات النظام في جوار الباب لقطع طريق درع الفرات جنوباً نحو الرقة، وتقدمت قوات أخرى منها نحو منبج.

وهو ما يعني أن طريق تركيا -ومعها الجيش الحر- نحو الرقة سيكون عبر أحد سيناريوهين: التوافق مع النظام (عبر روسيا) أو الاصطدام معه، كما يعني أيضاً أن النظام قد يكون أسبق من تركيا إلى منبج، وهو ما يعقّد حساباتها إلى حد بعيد.

لا يقف الأمر عند التطورات الميدانية، بل يتعداها إلى المواقف السياسية وارتباطها بالميدان. فوصول أنقرة إلى الباب يوحي بتراجع حاجتها الملحة للغطاء الروسي، وازدياد رغبتها في التنسيق مع واشنطن فيما يخص الخطوات المقبلة، لاسيما منبج والرقة اللتين تملك الأخيرة قرارهما وليس موسكو.

ولذلك، فإن اتصال ترمب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان واللهجة التركية الإيجابية نحو الإدارة الأميركية وضرورة التعاون معها في سوريا، دفعت موسكو إلى أن “تقصف بالخطأ” القوات التركية في محيط الباب، فضلاً عن صعوبة افتراض تحرك النظام الميداني مؤخراً دون تنسيق مع موسكو.

ومن جهتها، استقبلت تركيا رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني لتنسيق المواقف وتدارس العلاقات الثنائية و”مكافحة الإرهاب”. أصبح البارزاني مؤخراً أقرب للتحالف والتنسيق مع أنقرة منه للفصائل الكردية الأخرى أو لحكومة بغداد المركزية، وبالتالي يلقي لقاء كهذا -في هذا التوقيت- بظلاله وإشاراته على معركتيْ الموصل المستمرة والرقة المرتقبة.

وفي التفاصيل، تتحدث تركيا مع البارزاني عن كيفية تأمين وصول آلاف من مقاتلي “بشمركة روج آفا” إلى شمال سوريا، وهي مجموعات كردية أنشئت ودُربت بدعم من الطرفين، وما زالت تصطدم برفض أميركي لنقلها إلى سوريا خشية من صدامها العسكري مع حزب الاتحاد الديمقراطي.

الولايات المتحدة من جهتها، ورغم تأكيدها الدور المهم لتركيا في سوريا وفي معركة الرقة تحديداً؛ أرسلت مدرعات ومعدات عسكرية ثقيلة لقوات سوريا الديمقراطية بعد دخول ترمب إلى البيت الأبيض، وهو ما يعطي إشارات سلبية لأنقرة.

كما يبدو أن الأمر تطور مؤخراً إلى شبه تنسيق أميركي/روسي في مواجهة الخطط التركية، حيث أعلن “المجلس العسكري” في منبج تسليم عدة قرى في ريفها إلى النظام السوري.

بين منبج والرقة

ما زالت أولوية تركيا في سوريا هي منع تأسيس كيان سياسي للفصائل الكردية المسلحة في شمالي البلاد، نظرا لعلاقتها العضوية بحزب العمال الكردستاني وتأثيرها السلبي المتوقع على الملف الكردي الداخلي.

ولذلك كانت السيطرة على مدينة الباب ضربة للمشروع السياسي الكردي في شمال سوريا بمنعها التواصل الجغرافي بين الكانتونات التي تسيطر عليها تلك الفصائل، ومن هنا أيضاً تبدو الأهمية الإستراتيجية لمدينة منبج بالنسبة لتركيا.

كان يفترض أن تنسحب قوات سوريا الديمقراطية -التي تتشكل في أغلبها من الأكراد- من المدينة إلى شرق الفرات بعد تحريرها من داعش حسب الضمانات الأميركية المقدمة لتركيا، لكن ذلك لم يحصل.

انتقلت التصريحات الأميركية من محاولة تطمين تركيا إلى تحذيرها، حيث عبر قائد القوات المركزية الأميركية (سنتكوم) جوزيف فوتيلعن خشيته من أن يؤدي تدخل تركيا في منبج إلى عرقلة عمل التحالف ضد داعش.

وفي المقابل، يشير تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو باستعداد بلاده لقصف قوات حماية الشعب (الكردية) -إن لم تنسحب من منبج- إلى تحرك تركي قريب، أو محاولة لجس نبض واشنطن وردة فعلها الممكنة (قال إن تعامل بلاده مع الإرهابيين ينبغي ألا تضر بالعلاقات معها)، أو إلى يأس أنقرة من إمكانية مشاركتها في الرقة.

وبهذا المعنى، وفي ظل إصرار واشنطن على مشاركة قوات حماية الشعب و/أو قوات سوريا الديمقراطية في معركة الرقة؛ فإن عدم مشاركة تركيا سيدفعها نحو منبج إما لإخراج الفصائل منها أو للضغط على واشنطن أكثر، أو للهدفين معاً، وهو ما قد يعرّض علاقاتها مع أميركا لاختبار جديد في ظل إدارة ترمب.

معركة الرقة هي الأهم إستراتيجياً في سوريا باعتبارها معقل داعش الرئيسي فيها، ولاسيما لتزامنها مع التقدم في معركة الموصل معقل التنظيم في العراق. ولأن النتيجة العسكرية محسومة سلفاً بغض النظر عن المدى الزمني المطلوب لها، فإن الحسابات السياسية تبدو أكثر أهمية وأولوية من الموازين الميدانية.

والمنطق المبسط يقول إن من يشارك في هذه المعركة سيكون له دور في بلورة مستقبل سوريا، ولهذا تريد الفصائل الكردية المشاركة بقوة.

تبدي تركيا رغبتها المشاركةَ في الرقة لمكافحة داعش ولسد الطريق على مشاركة الفصائل الكردية، وتحاول أن تقدم لواشنطن بدائل عن الأخيرة ممثلة في الجيش السوري الحر الذي اختبِر في درع الفرات وأثبت فعاليته، إضافة إلى “بشمركة روج آفا” التي يمكن لها أن تكسر احتكار تمثيل الأكراد الذي يدعيه حزب الاتحاد الديمقراطي والتكوينات المنبثقة عنه.

تملك أنقرة أوراق قوة مثل قاعدة إنجرليك العسكرية، وحدودها المشتركة مع سوريا، ونفوذها لدى المعارضة، ووجودها العسكري على الأراضي السورية، مما يصعّب إمكانية تجاهل الولايات المتحدة لها، ولذلك تسعى الخطط الأميركية -غير المعلنة بوضوح حتى الآن- لإشراك تركيا والفصائل الكردية معاً في معركة الرقة.

الأكراد والحل السياسي

في ظل إصرار واشنطن على مشاركة الفصائل الكردية وتمسك تركيا بشرط عدم مشاركتهم، ثمة حل وسط يضمن مشاركة الطرفين، لا يبدو ممكناً اليوم لكن قد يُصار إليه لاحقاً إذا ما توفرت أرضية مناسبة له.

تبدو معركة الرقة شديدة الشبه بمعركة الموصل من عدة أوجه، في مقدمتها أهمية المدينة، وتحصن داعش فيها، وكثافة السكان، والصعوبات اللوجستية، وطبيعة المنطقة، وصعوبة المعركة ومداها الزمني، والحاجة لمشاركة مختلف الأطراف رغم تضارب أهدافهم وتوجهاتهم السياسية.

الحل المفترض قريب من سيناريو الموصل، بحيث تقود واشنطن العمليات وتنسق بين مختلف الأطراف، مع مراعاة عدم دخول الأكراد (مثل الحشد الشعبيفي حالة الموصل) إلى قلب المدينة، وبقائهم على الأطراف والتخوم والاكتفاء بالدعم اللوجستي، وعدم إعطاء دور رئيسي لتركيا.

لكن، وحتى تقبل أنقرة حلاً مثل هذا كي لا تبقى خارج المعادلة تماماً؛ يُفترض أن يقدم حزب الاتحاد الديمقراطي ما يثبت حسن نواياه ليطمئنها. مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي الفيدرالي و/أو الانفصالي في سوريا ليس خطراً على تركيا فقط، بل على مستقبل سوريا أيضاً، لاسيما وأنه يأتي بشكل أحادي وبقوة السلاح، قبل التوصل إلى حل سياسي على طاولة التفاوض بالتوافق مع باقي الأطراف.

فإذا ما تراجع الحزب عن فرض هذا المشروع فرضاً، وأعلن رضاه بما يتم التوصل إليه في المسار التفاوضي وعبر حل يحفظ وحدة الأراضي السورية، فلربما أمكن التوصل إلى حلول وسطى مع أنقرة، فهي معنية بمنع المشروع وليس لها عداء أصيل مع الأكراد كمكوّن أساسي في سوريا والمنطقة، بدليل انفتاحها على أطراف كردية أخرى كثيرة.

تدرك أنقرة صعوبة استثناء الفصائل الكردية من الحل السياسي في سوريا أسوة بغيرها من الأطراف، خاصة في ظل الدعم المقدم لها من واشنطن وموسكو على حد سواء، إذ لا تعتبران حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية “قوات حماية الشعب” منظمات إرهابية كما تفعل أنقرة.

وعليه، تحاول أنقرة قدر الإمكان تقليل نفوذ الحزب وإضعاف دوره المستقبلي عبر تفنيد سردية تمثيله للأكراد (من خلال دعمها المجلس الوطني الكردي وبشمركة روج آفا)، وكسر احتكاره لصفة اللاعب المحلي المواجه لداعش (من خلال تعاونها مع الجيش السوري الحر) ومنع التواصل الجغرافي بين كانتوناته، وإخراجه من المناطق ذات الأغلبية العربية مثل منبج.

وهكذا، ومع اقتراب الثورة السورية من ذكرى انطلاقتها السادسة؛ تتحول سوريا إلى ساحة صراع دولية وإقليمية غير واضحة المعالم ومحتدمة التنافس بين مختلف الأطراف ومصالحها. وما زال من العسير الجزم بمآلاتها، لاسيما في ظل غموض الموقف الأميركي حتى كتابة هذه السطور، وأيضاً -وهذا هو الأهم- استمرار أسباب الثورة من ظلم وقتل وفساد وغيرها، بل وتفاقمها أكثر من ذي قبل بتراكم المظالم والثارات، وارتفاع جدران الدم والكراهية والاصطفافات.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2017

 

 

 

 

المأزق التركي في شمال سوريا/ د. وحيد عبد المجيد

تاريخ النشر: الأربعاء 08 مارس 2017عندما دعا الجنرال روبرت جونز نائب قائد «قوة المهام المشتركة»، التابعة للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» إلى تخلي تركيا عن خطة التقدم نحو مدينة منبج الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، كان الوضع في شمال سوريا يزداد تعقيداً بعد سيطرة قوات تركية وفصائل سورية متحالفة معها على مدينة الباب. جاء حديث جونز في مؤتمر صحفي على هامش اجتماع للتحالف الدولي استضافته الخارجية البريطانية في 28 فبراير الماضي، فيما تحركت مدرعات أميركية إلى محيط مدينة منبج، وأعقب ذلك اتفاق برعاية روسية يقضي بتسلم قوات نظام الأسد قرى يسيطر عليها مقاتلو «قسد» وتمثل خط تماس محتقن مع القوات التركية وحلفائها.

وأظهرت تصريحات أدلى بها الرئيس التركي أردوغان تجدد الخلاف بين تركيا وكل من الولايات المتحدة وروسيا حول ترتيب الوضع في شمال سوريا، والإعداد لمعركة تحرير مدينة الرقة من براثن «داعش». فقد طالب أردوغان مجدداً باستبعاد «قسد»، التي تُمثَّل مليشيا «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» المعادي لأنقرة ركيزتها، من معركة الرقة. ولم يخف إحباطه من سياسة إدارة ترامب التي لا تختلف حتى الآن عن توجهات سابقتها بشأن إدارة التوازنات السياسية والعسكرية في شمال سوريا. ومن شأن استمرار هذه السياسة إرباك الخطة التي وضعتها تركيا عندما بدأت قواتها وفصائل تابعة لها في «الجيش الحر» معركة «درع الفرات» في شمال سوريا في أغسطس الماضي. وتقوم هذه الخطة على ثلاث مراحل؛ الأولى تحرير جرابلس وإعزاز وبعدهما الباب من «داعش»، ثم التقدم صوب مدينة منبج في مرحلة ثانية لطرد مقاتلي «قسد» أو دفعهم لمغادرتها والتوجه إلى شرق نهر الفرات. أما الثالثة، فهي المشاركة بدور رئيس في معركة تحرير مدينة الرقة.

غير أن هذه الخطة صارت مهددة بالتوقف، بعد أن بات المضي قدماً فيها صعباً ومكلفاً سياسياً وعسكرياً، رغم إسراع الفصائل المدعومة تركياً إلى شن هجوم في قرى تسيطر عليها «قدس» في ريف منبج فور تحرير مدينة الباب من «داعش». فقد أصبح الطريق إلى مدينة منبج محفوفاً بخطر مواجهة سياسية مع واشنطن وموسكو في آنٍ معاً، وبالتالي مغامرة عسكرية إذا حافظ الأميركيون والروس على التزامهم بإبقاء منبج تحت سيطرة «قسد» في المرحلة الراهنة.

ويعني ذلك أنه بات على تركيا التفكير جدياً في جدوى التمسك بخطتها، وحساب التكلفة السياسية والعسكرية حال سعيها لانتزاع منبج من مقاتلي «قسد».

وقد ظهر في الأسابيع الأخيرة ما قد يكون تفاهماً بين الولايات المتحدة وروسيا على إمكان استبعاد تركيا من معركة الرقة إذا أصرت على مواصلة التصعيد ضد «قسد»، ومعالجة المخاوف التي تثيرها أنقرة بشأن تداعيات سيطرة قوات معظمها كردية على الرقة بعد تحريرها عن طريق تدعيم الفرع العربي في هذه القوات بمقاتلين عرب آخرين بعضهم من أبناء عشائر شمال سوريا، والبعض الآخر من قوات أحمد الجربا.

وربما كان من ملامح هذا التفاهم التزامن بين تحريك المدرعات الأميركية في محيط مدينة منبج الشمالي، والاتفاق على الفصل بين القوات التركية وحلفائها وبين مقاتلي «قسد»، فضلاً عن تحرك قوات نظام الأسد وحلفائها للسيطرة على الأراضي الواقعة جنوب الأوتوستراد الدولي الرابط بين مدينتي الباب والرقة.

ويعني ذلك أن وصول قوات تركية إلى مدينة الرقة صار صعباً إذا لم تقبل تنسيقاً مع «قسد». فثمة طريقان لقوات تركيا وحلفائها إلى الرقة؛ أولهما عبر منبج التي تلتزم واشنطن وموسكو بالمحافظة على وجود «قسد» فيها، والثاني يمر من مدينة الباب جنوباً باتجاه نهر الفرات، ثم إلى مدينة الطبقة وصولاً إلى الرقة، وهذا مسار خطر قد يضع القوات التركية وحلفائها في مرمى نيران «قسد» عند ضفة الفرات، ويهدد بمواجهة عسكرية مع قوات النظام السوري المتمركزة جنوب مدينة الباب، وأخرى مبكرة مع عناصر «داعش» المنتشرين في المنطقة بين جنوب شرق حلب وجنوب غرب الرقة.

وهكذا، وبعد أن حققت تركيا نجاحاً في المرحلة الأولى من خطتها وسيطرت على الباب، تصطدم الآن بمعطيات الأمر الواقع التي لا تسمح لها بالتقدم أكثر في شمال سوريا.

الاتحاد

 

 

“الباب”… فرحة تركية لم تكتمل/ سمير صالحة

ذكّرتنا وسائل إعلام تركية، أخيرا، بعادة عثمانية قديمة، هي تركيب مطرقتين على الباب الخارجي للمنزل، واحدة كبيرة لاستخدام الرجال وأخرى صغيرة للنساء. وعلى أساس ذلك، يتم التعامل مع قارع الباب واستقباله. قرع الجنود الأتراك “الباب” في سورية، ليدخلوا بطريقة مختلفة، كلفتهم عشرات من القتلى والجرحى، وبعد ستة أشهر من استماتة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في منع الدخول التركي إلى إحدى أهم قلاعه وخط الدفاع الأخير عن الرقة.

قال أحد المسؤولين الأكراد في حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، المحسوب على صالح مسلم، والذي تصفه تركيا بالتنظيم الإرهابي، قبل أسبوعين، إن الجنود الأتراك سيجدون أنفسهم يغادرون منطقة الباب بسيارات نقل خضراء، تماما كما حدث في شرق حلب، عندما نقل آلاف المدنيين والمقاتلين إلى مناطق آمنة، في إطار تسوية سياسية تركية روسية إيرانية. وهذه رسالة تعني أن تركيا وحليفها الجيش السوري الحر سيهزمان في المدينة، وأن الوحدات الكردية، أو قوات النظام السوري المدعومة من المجموعات الإيرانية، هي التي ستدخل المكان، وتطرد تنظيم داعش منه، وتحاصر الأتراك وقوات المعارضة السورية، وهذا ما لم يتم، لكننا لا نعرف إذا ما كانت قناعة هؤلاء صالحة المفعول، أو أن ما يقولونه يتجاوز معركة الباب باتجاه مفاجأة أخرى.

“كادت فرحة تركيا في الباب أن تكون كبيرة، لولا مفاجأة منبج التي ستدفع أنقرة إلى الرد، وخياراتها ستكون أصعب، هذه المرة”

حراك النظام السوري وإيران والوحدات الكردية الماركسية لم ينجح في قطع الطريق على خطة درع الفرات، بالوصول إلى الباب، وتحريرها من قبضة “داعش”، لكن هذا الثلاثي يتابع عن قرب تفاصيل قرار تركيا إرسال مزيدٍ من التعزيزات العسكرية إلى شمال سورية، وهي خطوة أبعد من أن تكون تهدف إلى دعم الوحدات العسكرية الموجودة هناك، بل التجهيز للمرحلة التالية، وهي التقدم نحو مدينة منبج لتسلمها وضمانة انسحاب الوحدات الكردية منها إلى شرق الفرات، كما سبق وتعهدت واشنطن لأنقرة. هل سيكون هناك ردّا على التحرّك التركي أم إن أنقرة حصلت على الضوء الأخضر الأميركي والروسي في منبج أيضا، وهذه كانت النقطة الغامضة حتى الأمس القريب؟

استطاعت القوات التركية، وبالتنسيق مع الجيش السوري الحر، في عملية “درع الفرات” التي أطلقتها في 24 أغسطس/ آب الماضي، وبعد 185 يوما تطهير “الباب” من “داعش”. ربما أغضب إنجاز العملية واشنطن التي ردّدت دائما أن قوات حماية الشعب الكردية هي الوحيدة التي تقاتل تنظيم الدولة الإسلامية، وأنها وحدها القادرة على دحره. وتعرف واشنطن جيدا أن أنقرة التي دخلت المدينة مضحيةً بعشرات القتلى والجرحى والخسائر المادية لن تساوم، بعد الآن، على تغيير في الخطط والاتفاقيات المتفاهم عليها، وأن الأتراك لن يتأثروا كثيرا برسالة واشنطن عبر إرسال كبار ضباطها إلى عين العرب (كوباني)، عشية الإعلان عن تحرير الباب، وفشل اقتراب بشار الأسد وصالح مسلم منها لالتقاط الصور التذكارية حتى.

تعرف واشنطن أيضاً أن تركيا لن ترضخ لأية عملية ابتزاز أو ضغوط وهمية، مثل القول إن سماح الأميركيين للأتراك بدخول منبج سيتسبب بانهيار العلاقة بين الإدارة الأميركية والأكراد، وسينعكس ربما على مستقبل عملية “غضب الفرات” الكردية في الرقة. الخطة التي تطرحها تركيا وتتمسك بها تقوم على مواجهة كل من يحاول عرقلة أي تنسيق أميركي تركي أو تركي روسي أو تفاهم ثلاثي بين هذه الدول، يشمل خطة محاربة “داعش” في الرقة ورفضها الذهاب وراء حساباتٍ أو عروض سياسية ضيقة، حتى ولو وجدت نفسها وجها لوجه أمام خط تماس مباشر مع طهران، والمحسوبين عليها في سورية.

هل تريد تركيا مثلا إقناع إدارة ترامب قبل الإعلان عن خطة وزارة الدفاع (البنتاغون) في محاربة “داعش” المرتقبة بفوائد التنسيق التركي الروسي الأميركي في الرقة، وبأنه قد يفتح الأبواب أمام تنسيق إقليمي أوسع في التعامل مع ملفات أخرى؟

هناك في تركيا من يقول إنه لو لم تذهب أنقرة، حتى النهاية، في معركة الباب، لكانت اليوم تعض أصابع الندم، وتدفع ثمن تردّدها في منع التمدّد الكردي نحو كانتون عفرين، والسقوط في مصيدة علاقتها بداعش الذي استهدف المدن التركية بعشرات العمليات الإرهابية. هناك في تركيا من يقول أيضا إن ابتعاد أنقرة عن إدارة أوباما في سياستها السورية هو الذي أوصلها إلى ما هي عليه اليوم في شمال سورية. تتحدث القيادات السياسية التركية عن استعدادها للذهاب إلى الرقة، لكنها تصر على أن الطريق إلى هناك، لا بد أن تكون عبر منبج، وهذا ما ناقشته، قبل أيام، مع نائب الرئيس الأميركي ورئيس الأركان ورئيس جهاز الاستخبارات، وهي تراهن على مصداقية أميركية وتفهم روسي، فماذا حدث؟

سيناريوهات كثيرة تتطاير في الأجواء حول ما بعد الباب. تصر تركيا على سيطرة الجيش السوري الحر على منبج، وتضييقَ الخناق على قوات صالح مسلم، ومحاصرته في شمال شرق سورية أكثر فأكثر، فهل تساوم الإدارة الاميركية على طرح التخلي عن حليفها المحلي الوحيد في سورية، في مقابل صفقات جديدة عقدتها مع تركيا؟

“التفاهمات الأميركية الروسية، أخيرا، أمام التعنت التركي في منبج جاءت سريعة وموجعة حقا”

لم تتأخر الإجابة كثيرا.

كشفت وسائل الإعلام الدولية، أخيرا، عن الاهتمام الأميركي المتزايد بتسليح “قوات سورية الديمقراطية” وتجهيزها لمعركةٍ ما. في العلن هي معركة الرقة ضد تنظيم داعش، في الخفاء قد تكون معركة التصدي للقوات التركية في منبج، وبالتالي إبقاء مشروع ربط عفرين بالقامشلي في غرفة الإنعاش، بانتظار التحولات العسكرية والسياسية في سورية. لن يتراجع الحلم الكردي في إقامة الاقليم المستقل في شمال سورية، ما دام هناك دعم أميركي وروسي لوحدات القوى الديمقراطية، إلا إذا كان الأكراد سيقبلون بنصيحةٍ، تهبط عليهم من السماء، تدعوهم إلى إعلان كيان سياسي موحد، على الرغم من العائق الجغرافي، كما هي الحال في الضفة الغربية وقطاع غزة مثلا، أو ربط الكانتونات ببعضها، جنوب الباب، عبر خدمات مباشرة يقدمها النظام السوري لها، بهذا الخصوص، بطلب روسي أميركي.

وكانت الحسابات، في تركيا، تبني على الشكل التالي: وصول الجيش السوري الحر إلى الباب لا يعني، بعد الآن، مجرد إعادة الاعتبار إلى وحداته التي عانت من انقساماتٍ وشرذماتٍ واستهداف، بل ضرورة إشراكه في المعارك العسكرية المحتملة ضد “داعش”، لإفشال مشروع صالح مسلم الذي كان يساوم على قدراته في الجمع بين المتناقضات الكردية في سورية والعراق، ووضعها على طبق من فضة أمام اللاعبين الكبار. من هنا، تبرز مسألة تذكير تركيا بعضهم بخطتها التي تضع اللمسات الأخيرة عليها، وتهدف إلى تحريك آلاف المقاتلين العرب والأكراد الذين تدربوا في مخيماتٍ أعدت في أربيل ومناطق الحدود التركية السورية بين أورفة وغازي عنتاب وقلب الأناضول لإرسالهم إلى شرق الفرات، أي عين العرب والقامشلي، وهي المناطق التي أجبروا على مغادرتها، بسبب تهديدات حزب الاتحاد الديمقراطي وقمعه لهم. ومن أسباب زيارة مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البرزاني، تركيا، أخيرا، مناقشة التفاصيل الأخيرة لهذا التحرك.

لكن التفاهمات الأميركية الروسية، أخيرا، أمام التعنت التركي في منبج جاءت سريعة وموجعة حقا. لا غبار على الحرب التركية على “داعش” في الباب، لكن موضوع تسليم منبج إلى تركيا مسألة أخرى، لا يمكن التساهل حولها. سنلتزم بوعودنا المقطوعة للأتراك بسحب الوحدات الكردية من منبج، لكننا سنسلمها لقوات النظام السوري، لأننا نحتاج إليهما معا ورقة ضغط محلي وإقليمي. منطقة آمنة تريدها تركيا في شمال غرب سورية لا بد أن تقابلها منطقة آمنة أخرى في شمال شرقها، تكون مقدمة للكيان الكردي المستقل، وعلى تركيا أن تقبل بهذا القرار الصادر عن موسكو وواشنطن، وتلتزم به.

كادت فرحة تركيا في الباب أن تكون كبيرة، لولا مفاجأة منبج التي ستدفع أنقرة إلى الرد، وخياراتها ستكون أصعب، هذه المرة، بين قبول ما يجري أو تحريك أحجار جديدة على رقعة الشطرنج السورية.

ساعة الصفر في معركة الرقة، وما تقوله أنقرة حول التفاهمات التركية الأميركية الروسية، قد تنقلب كلها رأسا على عقب، ليس بسبب قدرات “داعش” العسكرية القتالية، بل بسبب ما يحاول بعضهم فرضه على تركيا في منبج، والورقة الكردية السورية، وهي قد تتحول إلى مفاجاة أخرى للأتراك عندما نرى أن موسكو وواشنطن قرّرتا الاستفادة من الوحدات الكردية وقوات النظام السوري، بدلا من المساهمة التركية.

العربي الجديد

 

 

 

الأكراد على حبال الأجندات الدولية/ بولا أسطيح

لم تعش الساحة الكردية تناقضات كالتي تعيشها اليوم على خلفية الأزمة السورية المستمرة منذ عام 2011 وما تركته من تغييرات ميدانية كبيرة في الشمال السوري جعلت نحو 40 مليون كردي منتشرين في المنطقة الجبلية الممتدة على حدود تركيا، والعراق، وسوريا، وإيران، وأرمينيا، والذين يعدون رابع أكبر مجموعة عرقية في الشرق الأوسط، يشعرون أنّهم أقرب من أي وقت مضى من دولة يسعون إليها منذ مطلع القرن العشرين. ويسعى الأكراد حاليا ليكونوا جزءا من أجندات دولية متعددة يبحثون فيها عن منفذ إلى دولتهم معتمدين سياسة «الصبر الاستراتيجي» و«عدم وضع كل بيضهم في سلة واحدة»، إلا أن انقسامهم ما بين محورين رئيسيين يتزعم الأول «حزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يرأسه رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، والثاني «حزب العمال الكردستاني» الذي يرأسه عبد الله أوجلان، جعل أخصامهم يستفيدون من صراعات كردية داخلية للتصدي لمشروع «دولة كردستان الكبرى» الشهير.

وتنقسم الأحزاب الكردية الرئيسية العاملة في العراق وسوريا وتركيا بين «حزب الديمقراطي الكردستاني» الذي يتزعمه البارزاني والذي ينشط في العراق وبين «حزب العمال الكردستاني» الذي يتزعمه أوجلان والذي ينشط في تركيا وجبال قنديل بشمال العراق ومصنف إرهابيا من قبل واشنطن ودول أوروبية، وبين حزب «الاتحاد الديمقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم وينشط في سوريا. وتعتبر قوات البيشمركة الذراع العسكرية للحزب «الديمقراطي الكردستاني»، فيما تعتبر وحدات حماية الشعب الذراع العسكرية لـ«الاتحاد الديمقراطي». أما «البيشمركة السورية» (بيشمركة روج آفا) فهي الجناح العسكري «للمجلس الوطني الكردي» الممثل في الائتلاف المعارض، وتأسست في إقليم كردستان في عام 2012 نتيجة انشقاق شبان أكراد عن جيش النظام السوري ورفضهم الانضمام إلى وحدات حماية الشعب.

وتعتبر تركيا «حزب الاتحاد الديمقراطي» الفرع السوري لحزب «العمال الكردستاني»، وهو ما ينفيه الطرفان اللذان لا يدحضان وجود تعاون وتنسيق بينهما لا بل إن قياديين بـ«الاتحاد الديمقراطي» يقرون بأنّهم قريبون لأفكار أوجلان الذي اعتقلته حكومة أنقرة في عام 1999 بتهمة الخيانة.

أبعاد اشتباكات سنجار

وأعادت الاشتباكات التي اندلعت الأسبوع الماضي في مدينة سنجار الواقعة غرب الموصل في محافظة نينوى على الحدود العراقية السورية، بين قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني معروفة بـ«وحدات حماية سنجار» وقوات البيشمركة التابعة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، تسليط الضوء على الانقسام الكردي الذي في حال سعت الأطراف الدولية التي ترفض قيام «دولة كردستان» إلى تغذيته فلا شك أنّه سيشغل القوى الكردية الرئيسية عن «هدفها الأسمى». فحتى ولو كانت المعارك التي استمرت يوما كاملا في سنجار توقفت حاليا، إلا أن التوتر لا يزال يسود المنطقة الحدودية العراقية – السورية كما منطقة سيطرة وحدات الحماية الكردية في الشمال السوري، في ظل تعدد الروايات حول الهدف مما حصل وكيفية التصدي لاقتتال كردي – كردي يتنامى نتيجة الخلافات المتمادية بين الأحزاب والمجموعات الكردية.

فبينما يؤكد المجلس الوطني الكردي أن ما حصل في سنجار «خطوة استباقية» من «حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي» عبر «قوات حماية سنجار» لقطع الطريق على محاولة إعادة قوات البيشمركة السورية والمعروفة بـ«بيشمركة روج آفا» إلى مناطقها في الداخل السوري، تعتبر وحدات الحماية الكردية السورية بأن الهجوم على قوات حماية سنجار المدعومة من حزب العمال الكردستاني «مخطط تركي» هدفه قطع الطريق بين إقليم كردستان ومناطق سيطرة الوحدات لمحاصرة وتفجير صراع كردي كردي.

ويشير رئيس المجلس الوطني الكردي إبراهيم برو في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنّه وخلال محاولة «بيشمركة روج آفا» الأسبوع الماضي الانتشار على حدود إقليم كردستان تمهيدا لدخولها الأراضي السورية، «تمت محاصرتها من قبل قوات حزب العمال الكردستاني للتصدي لمحاولة دخول هذه القوات إلى مناطقها في الشمال السوري، تماديا بعملية احتكار حزب الاتحاد الديمقراطي للساحة الكردية في سوريا ورفضه الشراكة الحقيقية بين الأحزاب والمجموعات الكردية الأخرى». ويضيف: «هذه الشراكة وفي حال تمت ستخفف من حدة التوتر إن كان مع تركيا أو مع مقاتلي المعارضة السورية أو حتى مع حكومة إقليم كردستان».

ويشدّد برو على أن دخول قوات «بيشمركة روج آفا» إلى الأراضي السورية لا يتطلب موافقة أي من الأطراف سواء السوريين أو حتى الإقليميين أو الدوليين، باعتبار هذه القوات هي من أبناء تلك المناطق. ويقول: «نحن نسعى لإقناع واشنطن باعتبارها تدعم الوحدات عسكريا منا نحاول التفاهم مع حزب الاتحاد الديمقراطي لمنع الاقتتال الكردي الكردي، لكن في النهاية هناك قرار اتخذه المجلس الوطني الكردي بعودة هؤلاء الذي يتخطى عددهم الـ500 عنصر تم تدريبهم وتسليحهم إلى قراهم للدفاع عنها وحمايتها».

ويرفض «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي يرأسه صالح مسلم تماما دخول «البيشمركة السورية» إلى مناطق سيطرتهم في الشمال السوري ويتهمونها بتنفيذ أجندة الحزب «الديمقراطي الكردستاني» الذي هو على علاقة وثيقة بأنقرة. وكانت وحدات حماية الشعب التابعة للحزب المذكور أعلنت رسميا في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2013، قيام منطقة إدارة ذاتية تشمل مناطق الجزيرة وكوباني وعفرين، وتسعى هذه الوحدات منذ حينها لوصل المناطق المذكورة سعيا لإعلان الفيدرالية. ويستفيد «حزب الاتحاد الديمقراطي» من دعم أميركي كبير منذ اندلاع الأزمة في سوريا، إلى حد أن خبراء وصفوا وحدات الحماية الكردية بـ«ذراع واشنطن في الداخل السوري». ويضع الأميركيون دعمهم هذا في إطار الجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب وتنظيم داعش خاصة أنّه وبنظرهم أثبت أكراد سوريا عن فعالية كبيرة في هذا المجال بعد تحرير كوباني.

مخطط تركي

وتتهم المعارضة السورية القوات الكردية في شمال البلاد بتنفيذ حملة «تطهير عرقي وطائفي» بحق «العرب السنة والتركمان» في ريف محافظة الحسكة الغربي وتل أبيض، فيما ينتقد «المجلس الوطني الكردي» بشدة السياسة التي ينتهجها حزب «الاتحاد الديمقراطي» لجهة محاولة فرض نظام الحزب الواحد في المناطق الكردية الواقعة شمال البلاد. وفي هذا الإطار، يرى السياسي الكردي وعضو الائتلاف السوري المعارض عبد الباسط سيدا أن الحديث عن استقرار حالي في المناطق الكردية في سوريا «أشبه بالحديث عنه قبل عام 2011 حين كان استقرار أمني – قمعي»، مؤكدا أن «الحاضنة الشعبية غير راضية تماما عن ممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي وخاصة مع فرض التجنيد الإجباري ما أدّى لتهجير مليون كردي من مناطقهم شمال سوريا». وأضاف سيدا في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «الأرجح أن هناك ضوءا أخضر وتفاهم أميركي – تركي على عودة بيشمركة سوريا إلى مناطقهم، وهو ما يثير وحدات الحماية التي تحولت أشبه بمكتب خدمات تنفذ مشاريع تارة إيرانية وطورا روسية وأحيانا كثيرة أميركية».

بالمقابل، يرى مستشار القيادة العامة لـ«قوات سوريا الديمقراطية» ناصر حاج منصور في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «أخطر ما حصل في سنجار هو استخدام «بيشمركة روج آفا» لمواجهة وحدات حماية سنجار ما ترك استياء كبيرا في الداخل السوري حيث خرجت مظاهرات وتم الاعتداء على مقرات تابعة لأحزاب مرتبطة بالبارزاني». من جهتها، تعتبر نوروز كوباني من وحدات حماية المرأة أن ما يحصل في سنجار «محاولة تركية للعب آخر الأوراق بوجه حزب الاتحاد الديمقراطي، بعد رفض حكومة ترمب خططا قدموها للمشاركة بعملية تحرير رقة، كما فشل هجومهم على منبج»، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أن أنقرة تسعى حاليا ومن خلال مهاجمة «قوات حماية سنجار» إلى قطع الطريق بين إقليم كردستان ومناطق سيطرة قواتنا، أي محاصرتنا وخلق صراع كردي كردي». وتضيف: «إلا أننا ندرك تماما أهداف تركيا، لذلك قدر المستطاع سنتجنب الدخول في معارك مع مسعود برزاني». ويؤكد نواف خليل، رئيس المركز الكردي للدراسات أن «عناصر حزب العمال الكردستاني لم يشاركوا في المواجهات الأخيرة في سنجار التي تولتها «قوات حماية سنجار» التي تشكلت في عام 2014 بعد انسحاب بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني ما أدّى لدخول داعش إلى المدينة»، لافتا إلى أن «وحدات حماية الشعب قامت بوقتها بمجهود كبير قدره بحينها البارزاني، فيما تولت قوات حزب العمال الكردستاني دعم أبناء سنجار لتشكيل قوات للدفاع عن المدينة وأهلها». وأضاف في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «الخلاف الكردي الكردي لا شك يترك أثرا معنويا على المجتمع الكردي لكن لا شك لن يكون له تأثير يُذكر بإطار المعارك المستمرة بوجه داعش، أو على تجربة الإدارة الذاتية». إلا أن سليمان يوسف، الباحث السوري المهتم بشؤون الأقليات يرجح أن يؤثر «القتال الكردي – الكردي بشكل مباشر على المشهد السياسي الكردي في سوريا وكذلك على الوضع الأمني في منطقة الجزيرة، حيث القوى الكردية تعاني من انقسام حاد»، لافتا إلى أن «جماعة المجلس الوطني الكردي مع الائتلاف وهيئة الرياض، بينما حزب الاتحاد الديمقراطي ومن معه هم على النقيض ومقربون من النظام السوري». وقال يوسف لـ«الشرق الأوسط»: «هذه التجاذبات السياسية في المشهد الكردي ستزيد الاحتقان والتوتر في منطقة الجزيرة، خاصة أن هناك أكثر من جهة تسعى لفتنة كردية – كردية وفتنة كردية عربية، بهدف خلط الأوراق وإشغال القوات الكردية في معارك جانبية ودفع من تبقى من الآشوريين والمسيحيين في الجزيرة لترك المنطقة».

 

تطور علاقة النظام والأكراد

ولطالما شكلت العلاقة بين أكراد سوريا والنظام السوري محط متابعة، نظرا لتطورها اللافت، فرغم أن الأكراد يمثلون ما بين سبعة وعشرة في المائة من تعداد السوريين، تعرض هؤلاء طوال سنوات حكم الرئيس السوري السابق حافظ الأسد والحالي بشار الأسد للكثير من القمع والحرمان من الحقوق الأساسية. ولم يمنح نحو 300 ألف من الأكراد الجنسية السورية منذ ستينات القرن الماضي، كما صودرت الأراضي الكردية وأعيد توزيعها على العرب، في محاولة «لتعريب» المناطق الكردية. كما حاول النظام في سوريا الحد من مطالب الأكراد بالمزيد من الاستقلال عن طريق قمع المتظاهرين واعتقال الزعماء السياسيين.

إلا أنه ومع اندلاع الأزمة في سوريا في عام 2011، حاول نظام الأسد الاستفادة من الورقة الكردية فانسحب من معظم المناطق حيث الأكثرية من الكرد في شمال البلاد، ما شكّل تحولا كبيرا ساهم بإعلان الإدارة الذاتية هناك. ولعل إقدام الأكراد المتمثلين في «مجلس منبج العسكري» أخيرا على تسليم 6 قرى خاضعة لسيطرتهم في ريف حلب لقوات النظام وحلفائه، جاء ليؤكد ما نبهت منه قوى المعارضة تكرارا من تعاون بين الطرفين لمواجهتها، وهو ما ينفيه الأكراد الذين يتحدثون عن «تقاطع مصالح». وقد رجحت دراسة تحليلية أعدها مؤخرا مركز «جسور» للدراسات أن يكون هناك توجه لقيام «تحالف جديد» بين النظام السوري وحزب «الاتحاد الديمقراطي»، نظرا لوجود الكثير من المصالح المشتركة بينهما على أن يقوم التحالف هذه المرة على أساس «علاقة بين متساويين لا يد طولى لأحدهما على الآخر»، من منطلق أن النظام الذي كان يستخدم الحزب المذكور «ورقة ضغط» على تركيا كما على المعارضة السوري، بات يعي حجم القوة التي وصل إليها بعد سنوات من «تفرده بإدارة المنطقة الكردية واستغلال ثرواتها فضلا عن الدعم الأميركي والروسي لفصيل الحزب العسكري».

وبحسب الدراسة التي حملت عنوان «حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري شراكة أم صراع؟»، فقد مرت العلاقة بين الطرفين بمراحل متعددة، وكادت أن تصل قبل «الثورة السورية» إلى مرحلة القطيعة، وخاصة بعد تسلم «حزب العدالة والتنمية» للحكم في تركيا وما تلاه من تحسن في العلاقات السورية – التركية، إلّا أنّ التطورات في سوريا في عام 2011 كانت بداية لمرحلة أخرى وجديدة من العلاقة بين الطرفين، وأخذت مناحي متعددة استفادا منها على الصعيد المحلي، كما على الصعيدين الإقليمي والدولي. وتتهم المعارضة النظام فتح المجال لـ«حزب الاتحاد الديمقراطي» وكوادره بداية بالعودة إلى سوريا، بعد أن كان تنظيماً محظوراً، وأتاح له حمل السلاح وإعلان تنظيمه المسلح، ثم انتقل بعد ذلك إلى مرحلة الشراكة العسكرية والأمنية، حيث أصبح الطرفان يقومان بحملات عسكرية بشكل مشترك، فيما تولّى الحزب مسؤولية قمع المعارضين للنظام في مناطقه، وتولّى بنفسه مواجهة المظاهرات المناوئة للنظام. ووفق الدراسة السابقة ذكرها، «فإن العلاقة التي بدأت على شكل رعاية من طرف النظام لمجموعة صغيرة مشردة في الجبال بدأت تأخذ أشكالاً أخرى في المرحلة اللاحقة، فالنظام الذي بدأ هذه العلاقة في عام 2011 كواحدة من أوراق لعبه لم يعد قادراً على الإمساك بزمام الأمور في معظم أنحاء سوريا، وتحوّل إلى طرف بين متصارعين متساويين في القوة تقريباً، وأصبح قراره رهيناً لفاعلين أجانب كثر، والحزب الذي دخل في هذه العلاقة في عام 2011 باحثاً عن موطئ قدم أصبح قوة عسكرية مهابة، وأضحى شريكاً لفاعلين أجانب، بعضهم من رعاة النظام نفسه». وفيما يستبعد خبراء معنيون بالملف أن يذهب الطرفان إلى مواجهة عسكرية مباشرة، ستكون مضرّة بمصالح الطرفين، «فلا الحزب قادر على الاستغناء عن رعاية النظام الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولا النظام قادر عسكرياً على السيطرة على المناطق الكردية، ولا يتحمّل أصلاً الدخول في صراع ذي كلفة سياسية باهظة»، يرجحون أن يتجها لبناء تحالف جديد، خاصة أن سوريا مقبلة على تسوية سياسية عاجلا أم آجلا، بحيث سيسعى كل طرف للحفاظ على حلفائه، «فهما يحتاجان لبعضهما البعض سواء داخل محافظة الحسكة وخارجها. الإدارة الذاتية تحتاج للنظام لدفع رواتب آلاف الموظفين بمقابل حاجة النظام لقوة حزب الاتحاد الديمقراطي الأمنية والسياسية ولا سيما في حلب وريفها، حيث إن قوات وحدات الحماية تقوم بدور المساند للنظام». ويرد الأكراد على كل ما سبق متسائلين عن السبب الذي قد يدفع وحدات الحماية، «التي يزداد عددها وقدرتها ووتيرة المعارك التي تخوضها والانتصارات التي تحققها، للتحالف مع النظام». وفي هذا السياق يقول نواف خليل لـ«الشرق الأوسط»: «النظام هو الذي يبحث عن حلفاء لمساندته كالروس وحزب الله والميليشيات العراقية. أما كل حديث عن تحالفات وتفاهمات بيننا وبينه، فعارية عن الصحة وتندرج بإطار سياسة تنتهجها المعارضة السورية المقربة من أنقرة، التي ادعت أخيرا نية الوحدات تسليم عدد من البلدات التي تسيطر عليها للنظام ورفع العلم السوري على بلدات أخرى».. .

الشرق الأوسط

 

 

 

 

المواجهة بين تركيا وإيران في قبضة ترامب وبوتين/ جورج سمعان

للمرة الأولى تندفع تركيا وإيران إلى صراع سياسي مفتوح. وتطغى الاتهامات المتبادلة بينهما على شبكة مصالحهما الاقتصادية والتجارية. من قرنين تقريباً، منذ الحرب بين الامبراطوريتين مطلع القرن التاسع عشر، لم يبلغ التنافس بينهما هذا المنحى التصعيدي. يعصب أن ينزلق البلدان إلى مواجهة عسكرية مباشرة. ثمة وكلاء على الأرض يمكن دفعهما إلى القتال، خصوصاً في كل من العراق وسورية. وهو بدأ في سنجار للتضييق على آخر معاقل الحضور التركي مع اقتراب نهاية معركة تحرير الموصل من قبضة «داعش». وقد يمتد إلى الشمال السوري كلما اقترب موعد الحملة الحاسمة على الرقة.

هذا التدهور غير المسبوق في تاريخ العلاقة بين طهران وأنقرة كان نتيجة طبيعية لتطور الأحداث في المنطقة المجاورة لكليهما. ونتيجة للمشهد الاستراتيجي الجديد في الإقليم. ولن يستقر التوتر بينهما، أو تعرف وجهته قبل أن ينجلي مسار التسوية السياسية في سورية ومعرفة طبيعة النظام المقبل في دمشق وإجراء حسابات الربح والخسارة. وقبل معرفة التداعيات التي سترافق استعادة الموصل من أيدي «دولة البغدادي». وكلا الأمرين مرتبط إلى حد كبير بسياسة الإدارة الأميركية الجديدة حيال الشرق الأوسط والجمهورية الإسلامية، وعلاقتها مع روسيا.

التوتر بين طهران وأنقرة لم يأتِ من فراغ. سبقته مقدمات قديمة وجديدة. منذ اندلاع حرب الخليج الأولى غلبت العاصمتان مصالح بلديهما الاقتصادية والتجارية على ما عداها من خلافات وتناقضات. وشكلت تركيا بوابة ومتنفساً لإيران أثناء حرب الخليج الأولى، ثم أثناء فرض العقوبات الدولية عليها بسبب برنامجـــها الـــنووي. بل كثيراً ما كانت أنقرة تنافح في مواجهة شركائها الأطلسيين لمنع الحرب على الجمهورية الإسلامية عندما كانت واشنطن تلوح بالخيار العسكري لوقـــف هذا البرنامج. وحتى عندما سقط الاتحاد السوفياتي لم يصل الأمر بين الدولتين إلى حد التوتر الحالي، على رغم تسابقهما على تركته في القوقاز ووسط آسيا. وكذلك مع اندلاع ما سمي «الربيع العربي» تنافستا على احتضان الحراك في عدد من الدول. ولكن مع اندلاع الأزمة في سورية بدأ بينهما صراع صامت. واتخذتا موقفين متناقضين معروفين لم يوقفا عجلة اتفاقاتهما الاقتصادية والتجارية.

لكن ظهور «داعش» ثم بدء الحرب الدولية للقضاء على «دولة الخلافة» رفعا وتيرة التنافس بين إيران وتركيا. لكن طهران التي نشرت ميليشياتها ووقفت إلى جانب النظام في دمشق، ثم أنشأت قوات «الحشد الشعبي» في العراق، لم تشعر بأن أنقرة ستكون قادرة على الفوز بقصب السبق. أو أنها ستكون قادرة على تغيير مجرى الأحداث في البلدين… إلى أن كان التدخل العسكري الروسي الذي شكل تهديداً لمشروع الجمهورية الإسلامية في بلاد الشام. وحد من نفوذها وقدرتها على المناورة. ثم جاء التفاهم بين الرئيس فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان ليثير حفيظتها ويفاقم هذا التهديد لدورها. وزاد الأمر تعقيداً أن إدارة الرئيس دونالد ترامب أعلنت صراحة أن من أولويات مهماتها القضاء على الإرهاب، ثم محاصرة الدور الإيراني في الإقليم. ليس في بلاد الشام فحسب بل في المنطقة كلها. أي أن العاملين الأميركي والروسي خلقا تحدياً مريراً لتمدد الجمهورية الإسلامية إلى شرق المتوسط، وسيطرتها على «العواصم العربية الأربع».

وبالتأكيد يسعى أردوغان إلى ملاقاة استراتيجية نظيره الأميركي. إنها فرصته للحد من نفوذ غريمه الإيراني. كما أن الصراع الصامت بين موسكو وطهران على سورية يدفعه إلى استغلال تفاهمه مع بوتين من أجل تمكين حضوره في الشمال السوري والتوسع جنوباً نحو الرقة.

إلى هذه المعطيات المستجدة، يواجه الرئيس أردوغان استحقاقاً كبيراً على مستوى الداخل. أفاد من المحاولة الإنقلابية الفاشلة ليرسخ أقدام حزبه في إدارة البلاد، وتبديل هوية الدولة العلمانية كلياً. وهو يستعد للاستفتاء على دستور جديد يحول النظام رئاسياً، مما يتيح له جمع معظم السلطات التنفيذية بيده والتفرد بالقرارات من دون سائر السلطات والقوى والأحزاب الأخرى. واتجه سريعاً نحو دول الخليج ليعزز قاعدة سياسته الخارجية، إلى جانب رهانه على التفاهم مع نظيريه الروسي والأميركي. إنها رسالة إلى الداخل التركي ليرفع رصيده حارساً لمصالح أهل السنة في الإقليم كله. لكنه يدرك في قرارة نفسه أنه يستخدم السلاح ذاته الذي يتهم إيران باستخدامه في بسط سيطرتها على الإقليم. وطهران في المقابل ترى أن للصبر حدوداً حيال الحملة التركية. فالقوى السياسية في الداخل تستعد هي الأخرى لمعركة الانتخابات الرئاسية وسط تجاذب كبير بين التيارين الإصلاحي والمحافظ. وكلاهما يحتاج إلى خطاب شعبي عالي اللهجة يؤكد حرصهما على المصالح العليا للبلاد وحلفائها من مكونات شيعية في المنطقة. كما أن النخبة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية تتوجس من احتمال التفاهم بين واشنطن وموسكو. وهي تدرك أن المقايضة لن تكون على شبه جزيرة القرم. من السهل أن يوافق الكرملين على وقف مزيد من تفتيت خريطة أوكرانيا. وفي مقابل رفض المساومة على حضور روسيا في سورية وقواعدها في هذا البلد، يمكن أن يضحي برأس النظام في دمشق وتعديل دستور البلاد على نحو يشرك المزيد من القوى والمكونات في إدارة الدولة ومؤسساتها. وهذا ما يخشاه النظام الإيراني الذي استثمر الكثير وقدم تضحيات بشرية ومادية طوال سنوات للحفاظ على الحكم في دمشق. لذلك استعجلت إيران الحصول على امتيازات اقتصادية في مجال الاتصالات، وفي مناجم الفوسفات والتنقيب عن النفط والسعي إلى مرفأ على الساحل يكون شرفتها على المتوسط. مثلما استعجلت بغداد للتفاهم معاً على ربط نفط كركوك بخط من الأنابيب نحو ساحلها على الخليج، في حين لا يحتاج العراق عملياً إلى بديل من خطه التركي. وهي تعمل على إيجاد بوابة اقتصادية نحو أوروبا بديلاً من البوابة التركية. أي فتح ممر من الخليج العربي إلى البحر الأسود، يتجه صعوداً نحو أرمينيا وأذربيجان وجورجيا ثم بلغاريا واليونان.

لكن هناك سقفاً للصراع بين تركيا وإيران وحدوداً تحول دون تمكينهما من تحقيق طموحاتهما، أو الذهاب بعيداً نحو مواجهة عسكرية مباشرة، خصوصاً في بلاد الشام. صحيح أن طهران بدأت بتحريك بيدقها الكردي، فضلاً عن اعتمادها على جيش كبير من الميليشيات في كل من سورية والعراق. لكنها لا يمكنها المجازفة بتعميق الخلاف مع أنقرة بما يمكن هذه من قيادة تحالف إسلامي واسع ضدها في حين تحتاج إلى تضامن إسلامي يساهم في حمايتها من «الهجمة» الأميركية المتوقعة عليـــــها. كما لا يمكنها تغيير قواعد التفاهم الاستراتيجي مع تركيا على خنق تطلعات الكرد في الإقليم، إذا كان الأمر خرج من أيديهما أو يكاد في كردستان العراق. إضافة إلى ذلك إن تفاهماً بين الرئيسين ترامب وبوتين قد يعوق مشاريعهما في مد النفوذ على المنطقة العربيــــة. لذلك جل ما تراهن عليه الجمهورية الإسلامية هو اندلاع حرب باردة جديدة بين القوتين الدوليتين لا تجد موسكو مفراً عندها من تمـــتين تحالفها معها بمواجهة جبهة واسعة من أنقرة إلى الرياض. وكــــذلك الأمــــر بالنسبة إلى الرئيس أردوغان الذي لا يمكنه الوقوف بمواجهة تفاهم محتمل بين نظيريه الأميركي والروسي، وكلاهما يضع له اليوم حدوداً لطموحاته في المشرق العربي، وهما سيغلبان مصالحهما الاستراتيجية على أية مصالح أخرى. كما لا يمكنه، في حال لم يتوصلا إلى الصفقة المحتملة، أن يقيم داخل تحالفين متصارعين، أو على خيط رفيع من توازن هش في العلاقة بينهما. وهو يدرك حجم القضايا العالقة بينه وبين الكرملين في القوقاز وآسيا الوسطى، إضافة إلى الصراع على خطوط الغاز. ويعي أيضاً حدود قدرته على مواجهة حضور روسيا في سورية، والنفوذ العميق لإيران في العراق. فضلاً عن أن موسكو التي تكافح الإسلام السياسي تتوق إلى دور للجيش المصري في سورية يعزز قبضتها على المؤسسة العسكرية السورية التي ترتبط بعلاقات تاريخية مع نظيرتها المصرية. وإذا تحققت لها هذه الرغبة التي تشاركها فيها القاهرة أيضاً، تنتفي حاجتها إلى إيران وميليشياتها، وإلى تركيا والفصائل التي ترعاها.

الصراع المفتوح بين تركيا وإيران سيظل محكوماً بمسار التسوية السياسية في سورية، ومآل المواجهة القادمة بين واشنطن وطهران، ومستقبل العلاقات بين إدارة الرئيس ترامب والكرملين. وسيظل محكوماً بالقدرة المحدودة للطرفين على تغيير المعادلات ورسم خريطة جديدة للمصالح المتشابكة في الإقليم. ولا يمكن في النهاية تجاهل الكتلة السكانية الكبرى في المشرق العربي ومواصلة الرهان على الغياب العربي، حكومات وأنظمة وشعوباً. لذلك سيكون ذهابهما بعيداً في المواجهة إلى حافة الهاوية أو الصدام المباشر كمثل من يشعل النار في حديقة داره، أو يجازف بخسارة مكاسب يمكنه الحفاظ عليها عندما يحين زمن الصفقة الكبرى وبناء النظام الإقليمي الجديد.

الحياة

 

 

 

مشروع المنطقة الآمنة: آلاف المشردين والقتلى وعودة النظام/ وائل عصام

عندما انطلق الحديث عن مشروع المنطقة الآمنة شمال سوريا، قبل نحو عامين، كان الهدف الذي يتمركز حوله حينها واضحا، وهو إقامة منطقة حظر طيران على نظام الأسد، في بقعة جغرافية شمال حلب، بهدف واضح محدد، وهو حماية أرواح السكان المدنيين في تلك القرى، وفسح المجال لاستقبال مئات الآلاف من النازحين الهاربين من قصف النظام السوري، مع أهداف تركية اخرى تتلخص في محاربة التمدد الكردي جنوب حدودها.

ومنذ ذلك اليوم، ظلت عبارة المناطق الآمنة تتكرر، ولكن بمعنى مختلف، فلقد اخذت تنحرف شيئا فشيئا عن هدفها المبدئي، بل وصلت لمعنى مناقض تماما للهدف من إقامتها، فمن منطقة آمنة من نظام الاسد إلى منطقة آمنة من تنظيم «الدولة»، ومن منطقة خارجة عن سيطرة النظام جويا، إلى مناطق خاضعة جزئيا لسيطرة النظام وقواته الحليفة الكردية، ومن منطقة آمنة من القصف إلى منطقة مدمرة القرى، ومن منطقة لحماية المدنيين الى منطقة طاردة للسكان، ليس فقط أنها لم تستقبل نازحين، بل أدت العمليات العسكرية فيها (التي لم تستهدف النظام) إلى تهجير عشرات الآلاف من سكان القرى ومقتل المئات من المدنيين، في سبيل توفير الأمن لهم.

منذ بدء العمل العسكري لهذه الخطة قبل نحو عام، كان من الواضح والمعلن ان هدفها لم يعد يتعلق بالحرب على النظام، الحرب التي انطلق لأجلها الثوار، بل كان الهدف هو الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة وروسيا بمشاركة النظام السوري، الطرف الابرز المستفيد من إخراج الجهاديين من مناطق سيطرتهم، وإبدالهم بقوى مسلحة خاضعة للتفاهم مع النظام، من خلال الوسيط الروسي التركي، ولم تشرع تركيا بدعم فصائل المعارضة لاستعادة تلك المناطق إلا بعد موافقة صريحة ومعلنة من الولايات المتحدة وروسيا، وفي سبيل محاربة الكيان الكردي المتمدد جنوبا، سواء في مرحلة الدخول لجرابلس أو ما قبلها، الأمر الذي أدى ليس فقط إلى حرف هدف قوات المعارضة عن قتال النظام، بل إلى خلخلة كل جبهات المعارضة مع النظام بسحب أعداد كبيرة من عناصرها وتحويل اهتمامها واولوياتها بعيدا عن قتال قوات الاسد، دون ان يتحقق هدف تركيا بضرب إقليم روجافا الكردي، بل إنه تمدد أكثر واتصل بنهاية الأمر، ولم يجد النظام وحلفاؤه افضل من ظروف كهذه لاستعادة أبرز العقد الاستراتيجية المحيطة بشمال حلب، بدءا من فك الحصار عن قريتي نبل والزهراء الشيعيتين، ثم إكمال الإطباق على مدينة حلب شمالا بالسيطرة على طريق الكاستيلو، وصولا إلى عزل مدينة حلب عن الريف الشمالي، من خلال القوات الكردية، فبينما كانت الفصائل المعارضة المدعومة تركيا شمال حلب تقاتل لاستعادة قرى شرق بلدة اعزاز الحدودية من تنظيم الدولة، قبل مرحلة الدخول إلى جرابلس بأشهر، كانت قوات الانفصاليين الأكراد تحتل مزيدا من مدن المعارضة شمال حلب كمنغ وتل رفعت، دون أي مقاومة من الفصائل المشغولة بالحرب على الإرهاب، وحدث أن فصائل الثوار شمال حلب المدعومة تركيا خسرت كل تلك المواقع لصالح النظام ولصالح الأكراد، ولم تكن تحقق أي تقدم ملموس ضد تنظيم «الدولة»، وسيطر الأكراد على الطريق والبلدات الرئيسية بين حلب وتركيا، ليضموا مساحات جديدة، كل هذا في خطة كان من بين أهدافها إبعاد الأكراد عن جنوب تركيا. وبعد مرحلة جرابلس والتدخل المباشر التركي، احتاجت تلك القوات لاكثر من نصف عام للسيطرة على تلك المساحة المليئة بالقرى الصغيرة التي يمكن عبورها بالسيارة بأقل من نصف ساعة، ولا يوجد بها أي مدينة سوى بلدة الباب، ليقوم النظام بتحركه جنوبا ليصل مناطق الأكراد ببعضها، بل وينتقل غرب منبج ليسيطر على مناطق جديدة ويرفع علمه فوقها.

وهكذا كانت حصيلة هذه العملية المسماة بالمنطقة الآمنة، خسارة تركيا لمزيد من الاراضي جنوب حدودها لصالح تمدد جيب عفرين الكردي نحو تل رفعت ومنغ وقرى غرب اعزاز، وتمدد جيب منبج الكردي ومنع المساس به بعد عبور القوى الكردية لنهر الفرات، التي وصفها النظام يومها بالقوات الرديفة، وبالنهاية سيطرة النظام على المزيد من الأراضي غرب منبج باتجاه تلك المنطقة الآمنة من كل شيء إلا من حلفاء الأسد.

أما عن الاهداف الخاصة بحماية المدنيين، فقد تشرد عشرات الآلاف نحو مخيمات جديدة، وتدمر المزيد من القرى في ريف حلب، وقتل في الباب وحدها، وخلال ثلاثة اشهر من المعارك، سبعمئة مدني، ورفع النظام السوري علمه فوق منبج وتل رفعت، ليرحب وزير الخارجية التركي بذلك قائلا، إنه لا يمانع بسيطرة جيش النظام على منبج، إحدى اهم مدن المنطقة الآمنة التي كانت يوما هدفا لحظر جوي من طيران الاسد. ولن يكون غريبا أن نرى قوات درع الفرات تنسحب من جرابلس والباب والقرى الصغيرة بينهما وتسلمها للنظام، ليكتمل حينها مشروع المنطقة الآمنة تماما .

كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

القدس العربي»

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى