صفحات سوريةفاروق حجّي مصطفى

تركيا و«البعبع» الكردي السوري


فاروق حجي مصطفى

حاربت تركيا لعقود طويلة تطلعات كرد العراق، واستغلت علاقاتها الدولية، وادعت أنها بجانب العرب، وخاصة قضيتهم الأم فلسطين، بهدف وقوف العرب إلى جانبها، ولعلها نجحت في ذلك، حيث وصل الأمر مع العرب إلى أن يقبلوا أن تأخذ تركيا كركوك والموصل ولا يأخذهما الكرد. ولم تكن تركيا تتصور يوما أن كردستان العراق، التي كانت تنظر إليها على أنها حديقة خلفية لها أن تفلت من يديها، ويصبح لدى الكرد أنفسهم الفرصة في رسم مستقبلهم بعيدا عن تركيا. لكن الكرد لم يعاملوا تركيا بالمثل، وعلى الرغم من أن تركيا كانت دولة عريقة وذات ثقافة، وكان المطلوب منها احتواء الكرد، فإن الذي حدث كان عكس ذلك، فالكرد هم من استوعبوا انفعالات الترك، وفتحوا باب إقليمهم للتجار ورساميل الأتراك المالية، وترك الكرد المجال مفتوحا لكي يعزز الأتراك وغيرهم وجودهم حضاريا، هذه المرة، في كردستان. ولم يوقف الأتراك حربهم ضد الكرد في العراق وغيرهم، إلى أن قال السفير الأميركي السابق قبل عشر سنوات: «يجب التوقف عن اعتبار كردستان العراق حديقة خلفية لتركيا».

وتأخرت تركيا حتى تنبهت لأهمية العلاقة مع كرد العراق، وذلك للإبقاء على النفوذ على الأقل، خاصة بعد أن وقع العراق تحت النفوذ الإيراني. عند ذلك حدث تحول في الخطاب الدبلوماسي التركي، فصارت الدبلوماسية التركية تستخدم للمرة الأولى بعد أكثر من خمسة قرون لفظ «كردستان»، بدلا من «شمال العراق».

تجدر الإشارة إلى أن أول من أطلق اسم «كردستان» على هذه الجغرافية كان أحد سلاطين السلاجقة، أي الأتراك أنفسهم. ومع أن غالبية العرب أبقوا على تسمية كردستان بـ«شمال العراق»، فإن الترك صاروا ينظرون إلى كرد العراق كشركاء نفوذ في المنطقة.

والآن، وبعد هذا الجدل حول الكرد في العراق، دفعت هواجس الأتراك إلى رؤية الكرد السوريين «بعبعا»، وصاروا يتحسسون من كل شارد ووارد كردي، ويضعون عقبات أمام حضور الكرد مؤتمرات المعارضة السورية، ويمنعونهم من بلوغ صيغة مرضية لرسم مستقبل سوريا مع المعارضة ويضعون العوائق أمام توافقهم معها.

ما أشبه اليوم بالبارحة؛ ففي حين كان السفير التركي يحتج لدى السويد على ترخيص مركز ثقافي كردي، الآن تتحسس تركيا من لجان المجتمع المدني الكردي. بحجة أنهم يبنون دولة في «شمال سوريا»، وأن ثمة تركيبة تحدث في هذا الشمال واصفة إياها بـ«العملية الإرهابية»، مع أنها في مثل هذا الوضع كان يفترض بها أن تهلل بالنظر لما يجري في «شمال سوريا» من فراغ مؤسساتي في بعض الأماكن، وأن تعتبر أنه من الحظ أن يكون هناك ثمة شعب واع على حدودها الجنوبية، حيث تحاول جاهدة السيطرة للحيلولة دون حدوث الفوضى، حيث إن الفوضى مصدر للإرهاب. ما حدث في المناطق الكردية هو نشوء فراغ مؤسساتي في بعض مناطقهم، وحاولت التنظيمات الكردية، وبالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والأهلي أن تضبط الأوضاع وتعيد التوازن لتلك المناطق، وهذا الفعل لا علاقة له بحزب العمال الكردستاني. ويهم المجتمع الكردي أن يكون الحوار هو الناظم للعلاقة بين حزب العمال وتركيا، وعدا ذلك لا علاقة لكرد سوريا بما يجري في تركيا من الصراعات، مع أن الظروف التاريخية والدولية كلها عوامل مؤثرة ودافعة لإيجاد الحلول هناك.

ولا نستغرب أن بعض الأنصار والمتعاطفين مع حزب العمال الكردستاني حاولوا التدخل في شؤون الأحزاب الكردية وسياساتها، إلا أن اتفاقية «هولير» التي وقعت بين المجلسين الكرديين (المجلس الوطني الكردي، والغربي «كردستان») تحت إشراف رئيس إقليم كردستان، أزالت هذه الحساسيات أيضا. ولم يعد ثمة حساسية قائمة بين القوى الكردية على الأقل في هذه اللحظة.

ولا يمكن وصف تهديدات تركيا الأخيرة للكرد في سوريا و«شمالهم» إلا بما يلي: إن تركيا تهدد الكرد لخلق الفتنة والشقاق في وسط المعارضة السورية، التي لم تصل إلى وحدة مرضية، وتاليا أن يهمش الكرد في معادلة رسم مستقبل سوريا. بمعنى أن لا تكرر تجربة كرد العراق، وألا تتم مقاربتهم في سوريا.

خلق الشقاق بين الأحزاب الكردية وإفشال مساعي بارزاني في وحدة الصف الكردي، على أن يبقى الخلاف سيد الموقف في وسط الكرد، وتاليا إضاعة الفرصة لمواكبة الثورة ومسارها.

وأما في حال كون الكرد حاولوا منذ بداية الثورة أن يكون للكرد السوريين خصوصية، وأن يكونوا مستقلين سياسيا، وبذلوا الجهود لاستبعاد الحساسيات الإقليمية والداخلية، فإنهم لا يقبلون أن تتحول منطقتهم إلى منطقة تتأسس على أراضيها قواعد اللعبة، لكن بالمقابل، واستفادة من تجربة كرد العراق، وكون منطقتهم من أكثر المناطق التي بقيت آمنة ولم تتأذّ من الصدام العسكري، فإن لديهم رغبة جامحة في أن تكون هذه المنطقة (الكردية) قاعدة لبناء سياسات تفيد في بناء وطن جامع، ومن خلال تبني قواعد اللعبة الجديدة، نراهم يبحثون عن تبني سياسات عاقلة، على أن لا يتكرر معهم ما وقع على أشقائهم، ولعل الكرد استطاعوا أن يبعدوا شعوبهم عن شبح الصدام الدائر في سوريا، لا بنية الغدر بالثورة، إنما بهدف بناء حاضنة للثورة، من خلال التواصل اللحظي مع مكونات المعارضة، ودعم الشرائح الشبابية المتواصلة مع الشرائح الفاعلة والمؤثرة على الأرض.

ويرى الكرد أن ما قاموا به هو بمثابة خطوات استراتيجية أفسدت ما رمى إليه الآخرون من القوى المعيقة للثورة، وصارت مكامن الضعف الآن واضحة وجلية لدى هذه القوى.

* كاتب كردي من سوريا

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى