صفحات الحوار

تزفيتان تودوروف: الديمقراطية باتت مُهدَّدة من الداخل والأمل في ‘ربيع أوروبي’!


بمناسبة صدور كتابه ‘أعداء الديمقراطية الحميمون’:

تقديم وترجمة: عبد اللّطيف الوراري: في عمله (أعداء الديمقراطية الحميمون) الصادر حديثاً، يختبر تزفيتان تودورف برؤية الفيلسوف اللحظة التي غدت فيها الآثار المنحرفة للديمقراطية تُهدّد وجودها في حدّ ذاته. وهكذا يتناول في الكتاب ‘الديمقراطية المريضة’ في العصر الراهن، داعياً إلى القيام بما وصفه بـ’ربيع أوربي’ على غرار الثورات العربية.

بموازاة مع ذلك، صرّح بأن ‘العدو يكمن بداخلنا نحن.. فالديمقراطية في الغرب باتت مريضة بسبب المبالغة التي تحيط بها’، وحذّر من أن التهديد الأساسي للغرب يكمن في التوجهات الجديدة التي تتزايد داخل المجتمع مثل كراهية الأجانب والنزعة الوطنية المفرطة والليبرالية المتوحشة، كما يرى أنّ العصر الحالي يشهد عدة عوامل تضرُّ بالديمقراطية مثل هيمنة الجانب الاقتصادي الذي بات يُشكِّل الأولوية على حساب السياسي، وأنّ وسائل الإعلام صار لها نفوذٌ قويّ. إلى ذلك، لفت إلى أنّ التهديد لم يعد يقدم من الخطر الخارجي المتمثّل في الإرهاب الناجم عن التطرف الديني أو وجود الأنظمة الديكتاتورية من فاشية وشيوعية، بل أصبح يكمن في مخاطر داخلية بما في ذلك تحوُّل الحرية إلى طغيان، أو في تحوُّل الرغبة في الدفاع عن التطور إلى روح صليبية. فمن الأطروحة التي تقول بأن الديمقراطية مهدّدة في وجودها من الداخل، ومن الأعداء الذين أفرزتهم، يطوّر تودوروف إشكالات الكتاب (منشورات روبير لافون- باريس، 257ص). وترتيباً على ذلك، يظهر لنا أن تودوروف متذمّر من الديمقراطية الغربية، ويوحي من كلامه بأنّها تحتضر، لأنّ واقعها بات مُخيِّباً للآمال ومتناقضاً مع روحها.

هكذا، بعد كتبه التي كرّسها للنقد الجيوسياسي، بما في ذلك ”ذاكرة الشر، إغواء الخير” 2000، و”الفوضى العالمية الجديدة” 2003، و’روح الأنوار’ 2007، و”الخوف من البرابرة..ما وراء صدام الحضارات” 2008، ينتصر هذا الكاتب والمؤرّخ الفرنسي من أصول بلغارية في كتابه الجديد للفكر المتأني الؤصين الذي لا يقع ضحيّة المخيال الغربي وأحابيله، مُؤْثراً روح الحوار والتواصل على فكرة الصدام بين الثقافات، رافضاً عداء الغرب الشديد اتجاه الديانة الإسلامية، ومعتبراً وصف الآخر بالمتوحش بمثابة اعتداء على فكر الأنوار. هنا، حوارٌ نشرته نوفيل أوبسرفاتور الفرنسية، أجراه معه، بمناسبة صدور كتابه، الناقد والفيلسوف دانييل سالفاتور شيفر.

س: عديدة هي الأعمال التي كشفت عن أعداء الديمقراطية الخارجيّين والمعلنين بصراحة، بما في ذلك الفاشية والشيوعية والإرهاب أو الأصولية الإسلامية. أنت حلّلتم في كتابكم، بحذق وبكيفيّة مركبة جدّاً، ما وصفتموه ب’الأعداء الحميمين’ لمثل هذه الديمقراطية، أو الذين كانوا إفرازاً لها. هل لك أن تشرح هذا النوع من المقاربة؟

ت. تودوروف: أوّلاً، بالنسبة لإنسان مثلي وُلِد في القرن العشرين، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي بلد كبلغاريا التي كانت ترزح تحت الاستبداد السوفياتي، كان أعداء الديمقراطية هم، قبل كلّ شيء، من الخارج: أولئك الذين يرفضون مبدأ الديمقراطية نفسه ويدّعون استبدالها بشيء آخر يزعمون أنّه ‘أسمى’. في بلدان أوربا الغربية، مابين الحربين العالميّتين، كان الأمر يتعلّق بالفاشية. وكان هناك عددٌ من الأفكار الجيّدة التي رأت، في هذا العصر بالذّات، أن الديمقراطية أصابها الإعياء أو الوهن، وأن هذا النظام لم يعد يستجيب للتطلُّعات الشعبية، وبالتالي يجب أن يوجد مكانه نظام آخر. هذا النوع من الرؤية إلى الأشياء أقنع قطاعاً كبيراً بذل المزيد من الجهد، ولاسيما في عدد من الدول التي كانت تحكمها دكتاتوريات فاشية (إيطاليا، كرواتيا، إسبانيا، البرتغال…). إلّا أنَّه حتّى في الدول التي لم تكن تعرف مثل هذا المخطّط السياسي ـ الإيديولوجي، كان هناك نوع آخر من التوتاليريّة يتمثّل في أحزاب مهمة من اليمين المتطرّف، كما في فرنسا أو بلجيكا. وفي هذا المعنى، على سبيل المثال، كان هناك رأي عام واسع يحلم بالعيش في فرنسا بيتان ( فيليب بيتان (1856-1951، أو في بلجيكا ديغريل ( ليون ديغريل 1906-1994). وبعد الحرب العالمية الثانية، نمت ديكتاتورية أخرى مختلفة تمثّلت في التهديد الذي كان يقدم من أوربا الشرقية، من أنظمة شيوعية شمولية تُجسّدها الكتلة الشيوعية.

س: هل كانت بلغاريا، وهي البلد الذي ولدت به ونشأت قبل أن تتركه إلى الغرب حيث وجدت فيه الحرية التي افتقدتها في شبابك، واحداً من هذه البلدان التي عاشت تحت الديكتاتورية الستالينية؟

تودوروف: بالتأكيد. وقد كُنّا ننعت الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، بأنّه إمبريالية وأنّه عدوٌّ مهاجمٌ يتهيّأ للانقضاض علينا في كلّ لحظة، وبالتي وجب أن نحترس وأن نحارب بجميع قوانا. أنا نفسي تربّيْتُ داخل هذه الحالة من الروح. ولقد ولّى من الآن عقدان من الزمن، في أثناء انهيار جدار برلين في عام 1989م، عندما اطمأننتُ من أنّ التهديد التوتاليري الذي كانت تمثّله الأنظمة الفاشية بعد الحرب العالمية الثانية قد زال حقيقةً، وأنّ هذه الأنظمة بعد هذه الضربة القاضية ستنطفئ. ومنذ سقوط الإمبراطورية السوفياتية كان يولد، بالنتيجة، في أوربا الشرقية فكرٌ آخر يتقاسمه معنا الكثير ممّن رأى في ما حدث ضرباً من الانتصار الهادئ للديمقراطية بمقدار ما أنّ هذه الأخيرة لم يعد لها أعداء خارجيّون ومعلنون بصراحة.

س: غير أنّه، مع ذلك، تمّ استبدال هذين النمطين من الدكتاتورية بنمط ثالث أخطر ولا يمكن أن يُقارن، بحكم حجم المجازر والضحايا والموتي التي أوقعها، وهو التطرُّف الديني أو الإرهاب الذي ارتبط بالإسلام.

تودوروف: لا مجال للمقارنة. يمكن لنا طبعاً أن ندين هذا النظام الإسلامي أو ذاك، لكن أيّاً من هذه الأنظمة لا يمكن ألبتّة أن يمثِّل خطراً شبيهاً بخطرٍ تحت النزعة الستالينية أو خطر الجيش الأحمر؛ لا قياس مشتركاً بالنتيجة! حتّى وإن كان بإمكاننا القول، بطريقة ما، إنّ الإرهابيّين الإسلاميين، كيفما أُدينوا، هم اليوم يشبهون تلك الجماعات المسلّحة التي ظهرت في يوم ما، مثل ‘جماعة الجيش الأحمر’ في إلمانيا، أو ‘الألوية الحمراء’ في إيطاليا. فالأمر يتعلّق هنا بأعمال إرهابية منتظمة يمكن، بطبيعة الحال، أن تقتل وتحدث الكثير من الأضرار، غير أنّها مع ذلك تظهر غير قادرة على أن تُهدّد أسس الدولة نفسها. أمّا أنظمة الحكم الثيوقراطي التي توجد اليوم في خارج أوربا، كتلك التي في إيران والسعودية، أو الدكتاتوريات السياسية-العسكرية، كتلك التي في الصين وكوريا الشمالية، لا يمكن أن تعتبر في نظر الديمقراطيات الغربية منافسة أو غريمةً لها.

س: لماذا؟

تودوروف: لأنّها لا تُمثِّل متتالية جديرة بالتصديق، ولا دقيقة، في عيون الشعوب الأوربية. في حين أنّ الهدوء الذي كنّا نتوقُّعه، بعد انهيار جدار برلين ونهاية ما سمي ب’الحرب الباردة’، لم يبرز تماماً؛ وذلك لأنّه بات من الملحوظ أنّ الديمقراطية أفرزت الأعداء الذين اختصّوا بها ونشأوا من رحمها نفسه. إنّهم يمثّلون، بشكل ما، أبناءها غير الشرعيّين، وذلك ما يمثّل الانحراف المرتبط بالمبادئ الديمقراطية نفسها.

س: بالتالي، فإنّ الديمقراطية نفسها تكون قد عمّمت، وبشكل مفارق، آثارها الخاصة القاسية التي باتت تُهدّدها ليس من الخارج كما كان يحصل سابقاً، وإنّما من الداخل: المثال الديمقراطي الفاسد باعتباره خائناً في حدّ ذاته بلا علم منه أو عن حسن نيّة إذا جاز لنا القول.

تودوروف: بالفعل؛ من الآثار القاسية التي تأتّت من حاجة عميقة إلى الديمقراطية. في كتابي الأخير والموسوم بـ’أعداء الديمقراطية الحميمون’، توقّفتُ على ثلاثة نماذج كبرى حلّلتها فيه بتفصيل.

س: ما هو النموذج الأوّل منها بشكل أدقّ؟

تودوروف: هو ما اصطلحتُ على تسميته بـ’متطلّب التقدُّم’، الملازم للمشروع الديمقراطي نفسه؛ لأنّ الديمقراطية ليست حالة ترتّبت، مبدئيّاً، عن وضعية موجودة سلفاً. إنّها لا تخضع لفلسفةٍ محافظةٍ، ولا لفكرٍ جبريٍّ، ولا للحفاظ على ما هو موجود سابقاً أو لاحترام التقاليد بلا قيد ولا شرط. كما لا تستند على كتاب قديم مقدّس كنوع من القانون الذي يجب دائماً تطبيقه بكيفيّة خاصة. وبطبيعة الحال، فإن هذا العامل من المتطلّبات محمودٌ في ذاته، إلّا أنّ ما تمَّ في مراحل معيّنة من الديمقراطية هو أنّها كانت تنشط من اعتقاد أكثر رسوخاً يتصوّرها حاملة لأفضل المنافع ويعتبرها إذّاك من المشروعيّة أن تفرض على الأخرين بالقوّة، بما فيها الجيوش. هذا ما حدث للأسف خلال الأشهر الماضية في ليبيا، وقبل ذلك بسنوات في العراق أو في أفغانستان. وواضحٌ أن ذلك شكّل بالذّات مفارقةً، وليس من المسائل الأقلّ شأناً، إذ يصير التطلُّع إلى التقدُّم، الذي هو أحد المبادئ المميِّزة للديمقراطية، مصدر دمار للدول التي لا تتقاسمها معنا. بعبارة أخرى، يلوح الشرّ هنا خيراً، ولا أعظم من هذه المفارقة فعلاً! ولقد استوحيتُ من ذلك عنوان أحد كتبي السابقة، الصادر في عام 2000م: ‘ذاكرة الشرّ، غواية الخير’.

س: تتمّةً لاستدلالك المنطقي، ما هو الخطر الثاني الذي أفرزته الديمقراطية نفسها وومن غير علم منها في الأغلب؟

تودوروف: يأتي الخطر الثاني، وبشكلٍ مُفارقٍ أيضاً، من أحد أروع مظاهر الديمقراطية ومكاسبها الأساسية، وبالأخصّ الديمقراطية الليبرالية، وهو: الدفاع عن الحرية الفردية؛ وذلك لأنّ الديمقراطية لا تكتفي بالدفاع عن سيادة الشعب، وإنّما تحمي كذلك حرية الفرد، حتى من التدخُّل المفرط من هذا الشعب نفسه. لذلك، فإنّ الديمقراطية الليبرالية مختلفة عما كُنّا نسميه أحياناً، تحت أنظمة ستالينية، بـ’الديمقراطيات الشعبية’ التي كانت تُجرّد الفرد من كلّ استقلالية. لكن المشكل بداخل ديمقراطياتنا الليبرالية يكمن في أنّ الاقتصاد الذي هو فاكهة المقاولة الحرة لدى الأفراد، قد حلّ بهذا الاعتبار محلَّ السياسة وصارت تحكمه سلطة الربح، وهو ما مثّل أحد الآثار المنحرفة للمبادرة الفردية غير المراقبة، وقاد بشكل حتمي إلى أن يستولي الأكثر غنىً على الأكثر فقراً. وبإيجاز، فقد أصبح هذا النمط من الليبرالية، ترتيباً على ذلك كلّه، شكلاً آخر من السلطة المستبدّة: طغيان الرأسمالية ألحق الضرر بحماية الشعب عبر الدولة. إنّ هذا الجاذب للكسب الفردي بات يُهدّد رفاهية الجسد الاجتماعي.

س: أخيراً، ما هو الخطر الداخلي الثالث الذي يتهدّد الديمقراطية؟

الشعبويّة، وهي بمثابة قفا الديمقراطية المقلوب، بحيث أنها تتعلّق باستشارة الشعب، وبأنّ الديمقراطية بدون الشعب بديهيّاً ليست ديمقراطية؛ غير أنّ الشعبوية تتمثّل عقبتها الكأداء في بحث انخراط الجماهير الشعبية انخراطاً مباشراً وكُلّياً، إذ في الغالب تتّفق والتحريك الوسائطي الأكثر مبالغةً وسهولة، وتهدف إلى أن يتخذ جزءٌ من هذه الجماهير نفسها القرار تحت تأثير العاطفة وخارج كلّ عقلانية. وهكذا فإنّ هذا الخطر الذي تنقصه فطنة التمييز بين القرارات الهامّة، قد ينشئ خطراً حقيقيّاً للعمل الجيد لكلّ ديمقراطية تليق باسمها، من خلال الفصل العادل والمناسب بين السلط (التشريعية، التنفيذية، القضائية).

س: كلّ ما تفضّلتَ بقوله نعثر عليه ملخَّصاً منذ الصفحات الأولى للكتاب، وفي الفصل الذي عنونته بـ’الديمقراطية في وعكة’، وقد كتبت حرفيّاً: ‘إنّ الديمقراطية أفرزت بنفسها القوى التي بات تتهدّدها، ومن مستجدّات زمننا أن هذه القوى تتفوّق على تلك التي كانت تهاجمها من خارج. وسيكون من الصعب على القوى التي تحاربها والتي تعمل على تطبيعها أن تستدعي الروح الديمقراطية، ومن ثمّة تمتلك مظاهر الشرعيّة’.

تودوروف: وهو ما يمثّل، بالفعل، تركيباً جيّداً بخصوص موضوع الكتاب المحوري.

**

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى