صفحات العالم

تصريحات ترامب حول سورية… ووطنيتنا/ محمد برهومة

 

 

الافتقار إلى اللياقة الديبلوماسية، واعتماد اللغة السياسية المباشرة إلى حدّ التجريح والابتذال، سمتان أصــيلــتــان فــــي الشـــعـــبويــــة، المناهضة حُكماً للنخبوية والتقاليد المؤسسية. هذا الأمر يُستدعى لدى قراءة تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة في شأن سورية وحديثه عن دفع ثمن وجود القوات العسكرية الأميركية في هذا البلد.

ومع أن التريليونات التي تحدث عنها الرئيس وقال إن بلاده أنفقتها في المنطقة من دون طائل، كانت في أكثرها قرارَ أميركا لا قرار دولِ المنطقة، وفي مقدم ذلك، بالطبع، قرار الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فإن الإنفاق عموماً كان جزءاً من استراتيجية أميركية في الشرق الأوسط (جرى العدول عنها في عهد أوباما)، كما كان جزءاً من الشراكات الأميركية مع «حلفائها» في المنطقة العربية، بما هي مصالح متبادلة، وليست من جانب واحد.

هذا الاستهلال الاستدراكي المختصر مهمٌ، وقد يرى بعضهم في تلك التصريحات انعكاساً لـ «السياسة في أسوأ تعبيراتها»، لكنه لا يمنع من التقاط هذه التصريحات بوصفها فرصة ثمينة لنا لفتح باب نقاشٍ لفك عناصر اشتباك غامضة ومعقدة تتعلق بحقيقة وطبيعة العلاقة الاستراتيجية الأميركية مع دول الخليج وسواها.

فالعلاقات المشتركة والمصالح المتنوعة التي تجمع الدولة الأعظم بدول عربية محكومةٌ بكل تأكيد بمنطق العلاقات الدولية ومنطق موازين القوى، والمدخل لفهم هذين المنطقين هو المصالح المشتركة وليس مفاهيم الهيمنة والاستغلال والخضوع، كما أحبّ كثيرون أن يعلّقوا على تصريحات ترامب تلك.

في العلاقات الدولية المفترض ألّا يتناقض منطق المصالح مع القيم والكرامة الوطنية، والمفترض، في دول عصرية، أن يتم تكييف مضامين الهوية مع موازين القوى، ومنطق القوة، بمفهومها الشامل. هذه مساحات التباس كبير في الفكر السياسي العربي، وفي الثقافة الشعبية العربية الرائجة. وحتى اليوم لم تتمكن النخب العربية، الفكرية أو السياسية، من إدماج فكرة المصلحة دمجاً عضوياً وعميقاً في بنية الفكرة الوطنية ومنطق الدولة وعقلها الاستراتيجي، الذي يتعاطى مع الحقائق ببرود، تعتبره الثقافة الشعبية خنوعاً أو خضوعاً للهيمنة، وقبولاً بما لا ينبغي قبوله لأنه ينتهك الكرامة ويستمرئ الهوان!

المفترض ألا يكون قيامي بشراء أسلحة أو تكنولوجيا متقدمة من الدول الكبرى تحمي بلدي أو تساعدني في الانخراط في العصر مما يمسّ الكرامة الوطنية أو يهين الكبرياء القومي. ما هو مثالي بالطبع، أن أتمكن من إنتاج ذلك بنفسي، لكن ماذا لو لم تتوافر لدي القدرة؟ المشكلة الأكبر ألا أعترف بعدم قدرتي، أو بأنني لم أستعدّ لامتلاك شروط هذا الإنتاج الذاتي، وما يتطلبه من علم ومعرفة واستثمار في البحث وتأهيل للكوادر وبيئة محفزة على الابتكار. النكران سيُبقي الحديث الملتبس عن شراكاتنا الاستراتيجية مع الكبار عبر اختزالها بـ «الخضوع للهيمنة»، وهو التباس يكشف في العمق عن استمرار «أزمة الهوية» لدينا، وعدم النجاح في تكييفها وفكّ انفصامها (نحن الأفضل وهكذا كنّا وسنعود… لسنا بحاجة إلى الغرب ونستطيع الاكتفاء بذاتنا… ظلم الغرب لنا لا بدّ أن ينتهي… كيف نقبل بعلاقة على هذه الشاكلة ونحن من علّمناه…).

إطراء الذات والدوران حولها كأيقونة لا يصنعان قوةً، وليسا الردّ الأمثل على عجرفة الكبار، كما أنّ الانتقاص من الآخر، المتفوق في الحقيقة، لا يصنع وطنية أو كرامة، وأن أكون نظيراً له أو أفضل منه ليس هذا طريقه. ثمة حاجة لنقاش واسع إعادة تعريف ذلك كله عبر الاعتراف بالحقائق وعدم التلذذ بالنكران. وقوفك بعد سقوط يستدعي الاعتراف أولاً بما يجعلك تَسقط.

على أي حال، ربما تركُ الفهم الإمبراطوري للوطنية بداية شفائنا.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى