صفحات مميزة

تطورات الدور الروسي في سورية –مقالات مختارة-

رسائل روسيا إلى العلويين/ حسان القالش

توجّهت روسيا برسائل عدّة بالغة الدلالة إلى العلويين في 30 تموز (يوليو) الفائت، إذ قرّرت أن تشمل احتفالاتها بيوم البحريّة الروسيّة عرضاً عسكرياً صغيراً أقيم في مدينة طرطوس على الساحل السوري، وهي المدينة التي تضمّ أغلبية عددية من العلويين وتعدّ واحدة من أهم معاقل أنصار الأسد. لكنْ، قبل أن تكون رسائل الاستعراض موجّهة إلى العلويين أنفسهم كجماعة، لا يمكن تجاهل رمزيّة الحدث على المستويين، المعاصر والتاريخي، فمن ناحية يكرّس الحدث أفضليّة روسيا ونفوذها العسكري في سورية والذي بات العالم يتعامل معه كأمر واقع، ومن ناحية أخرى يعيد هذا العرض تقليداً قديماً في استعراضات القوى البحرية على شواطئ المشرق، تلك الاستعراضات التي كانت تقوم بها القوى الأوروبية في رسالة إلى السلطنة العثمانية تعلن فيها التزامها حماية الأقليات المسيحية المشرقية، فإذا صحّ القول بأنّ أحد محرّكات النشاط الروسي في المنطقة سياسة امبراطورية جديدة ترمي إلى إعادة الاعتبار لدورها التاريخي واستئنافاً للمسألة الشرقية، بات من الواضح أنّها تعمّدت هذه الاستعادة الرمزية التاريخية، سيّما أنّها باتت تعتبر نفسها، في شكل أو آخر، وريثة أوروبا في حماية مسيحيي المشرق، فضلاً عن كونها، وللمرة الأولى في التاريخ، باتت بمثابة الحامي لجماعة الأقلية العلويّة.

وبالانتقال إلى الجانب المتعلق بالعلويين من الرسالة الروسية، تمكن ملاحظة أنّ العرض كان أشبه باحتفال غير رسمي طرفاه دولة عظمى وجماعة أهلية، بدلالة ضعف الحضور الرسمي والتغطية الإعلامية. وهذا ما انعكس على الجمهور المؤيد للنظام من العلويين، الذي بدا وكأنّ محدوديّة الاستعراض لم تأتِ وفق الصورة التي تخيلها ولم تلهب حماسته، هو الذي اعتاد استعراضات حزب الله الإعلامية. لكنْ، إذا كان مقصوداً هذا الحجم وهذا التقصير الإعلامي من الجانب الروسي، فذلك رغبة في أمور عدّة على الأرجح، من بينها أنّه يفسح المجال للمخيّلة الجماعية ويحرضها على العمل ونسج القصص، وهذا ما يتيح للروس معرفة أدقّ، إلى حدّ ما، بمدى قبول العلويين لهم في هذه المرحلة وما هو سقف توقعاتهم منهم. إضافة إلى ذلك، قد تكون روسيا تحاول اللعب على سيكولوجيّة الجماهير هنا، ذاك أنّ قلّة ظهور «البطل» ودلالِه على جمهوره المتماهي مع صورته ونموذجه يخلق نوعاً من التعطّش الدائم لرؤيته، وهذا ما يُحكم الرابط بين الطرفين. فإذا صحّ ذلك فإنّ روسيا ستكون مؤهّلة للبتّ في مصير العلويين مستقبلاً أثناء مرحلة التسويات النهائية، وتحديداً في مرحلة ما بعد عائلة الأسد التي ستكون روسيا قد سحبت البساط العَلَويّ من تحتها.

إلى ذلك كلّه، ربما أرادت روسيا من محدودية حجم الاستعراض أن تُخلي مساحة وجدانية للجيش السوري، انطلاقاً ربما من إدراك التناقض الذي يعيشه أنصار النظام ما بين رغبتهم في الحماية وما بين تعلّقهم الواهم والرمزي بجيش نظامهم الذي أنهكته الحرب وقضت على فاعليّته. وهذا ما يعني أنّها، وعلى رغم كثافة وفاعلية حضورها العسكري ونفوذها السياسي في المرحلة الراهنة، تفضّل أن تتقدّم بحذر في أي علاقة أو تماس مباشر مع الجماعات الأهلية. بيد أنّ سياسة روسيا وموقعها المتأخّر في سلّم الديموقراطية وحقوق الإنسان لا يسمحان بأن تفسّر ذلك على أنّه احترام وتقدير للجماعات، بل إنّه، في أفضل الأحوال تفصيل في مشروع انتداب طويل على سورية.

* كاتب وصحافي سوري

الحياة

 

 

 

 

 

 

خيبات ترامب، أحلام بوتين، وأوهامنا/ مروان قبلان

وجهت حزمة العقوبات الجديدة التي فرضها الكونغرس الأميركي على روسيا ضربة قاصمة لأحلام الرئيس، فلاديمير بوتين، بتحسين العلاقة مع واشنطن، ورفع العقوبات عن بلاده، وتسببت كذلك بضررٍ لا يقل فداحة لاستراتيجية الرئيس ترامب (على فرض أن لديه استراتيجية) لمواجهة تهديدات “كبرى” حدّدها مع مجيئه إلى الحكم، مثل التهديد الأمني، ممثلاً بالإرهاب (سواء جاء من كيانات كالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، أو دول مثل إيران)، والتهديد الاقتصادي ممثلاً بالصين واتفاقات التجارة الحرة العالمية.

وفيما يمكن اعتبار التهديدات الناشئة عن تنظيمات وكيانات أنها من النوع التكتيكي، تعد الصين وإيران من نوع التهديدات الاستراتيجية بالنسبة للمصالح الأميركية في شرق آسيا والشرق الأوسط على التوالي، لذلك، وبخلاف إدارات سابقة، أخذ التركيز ينصب عليهما معاً في عهد ترامب، فإدارة الرئيس بوش الابن بدأت عهدها بالتركيز على الصين، لكن هجمات 11سبتمبر حولت انتباهها كليا باتجاه العالم الإسلامي. وانسحبت إدارة الرئيس أوباما من العالم الإسلامي، وحاولت التقارب مع إيران للتركيز على الصين، فاخترعت استراتيجية التمحور حول آسيا (Pivot to Asia). وجاءت إدارة ترامب إلى السلطة، وفي نيتها التركيز على إيران والصين في آن معاً.

لكن هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تنجح من دون تعاون روسيا. هكذا رأى ترامب، أو عصبة المستشارين المحيطة به، بيد أن حجم المصالح الروسية مع الصين وإيران نما كثيراً في السنوات الأخيرة، في جزء منه نتيجة لسياسات أوباما، وأخذ يمتد من الباسيفيكي إلى المتوسط، ما يعني أنه بدون الثمن المناسب، لا يمكن لروسيا أن تضحّي بعلاقاتها معهما. ليس هذا فحسب، بل أخذ بوتين يشعر، في الفترة الأخيرة، بأنه في ظل التخبط الأميركي وترنح ترامب، فقد يكون من الأجدى له التمسّك بعلاقاته مع الصين وإيران، بما يسمح له ليس فقط بإفشال الاستراتيجية الأميركية، بل وحتى هزيمتها على امتداد آسيا، كما حصل في سورية، ويحصل حالياً في أفغانستان، حيث تتوجس واشنطن من تحالف روسي- إيراني داعم لحركة طالبان.

ليس لروسيا بالتأكيد علاقات مبدئية لا مع الصين ولا مع إيران، لها مصالح كبيرة معهما، وإذ يتمحور مشروع بوتين لاستعادة مكانة بلاده الدولية بشأن السيطرة على منابع الطاقة وخطوط نقلها إلى الغرب والشرق على السواء، يعتقد الرئيس الروسي أن في وسع إيران (إضافة إلى تعاونه معها في سورية وأفغانستان) أن تساعده في الحصول على امتيازاتٍ في نفط العراق، وحقل الغاز الذي يستعد لبنان لاستثماره في البحر المتوسط. أكثر من ذلك، عندما دعت إيران روسيا إلى مساعدتها عسكرياً في سورية، اشترطت موسكو أن تبيع طهران غازها عن طريق روسيا، وهو أمر لم تجد إيران بداً من الاستجابة له، في إطار سعيها إلى وقف سيرورة تداعي نفوذها التي بلغت الذروة بسقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، وسقوط إدلب بيد المعارضة السورية في العام التالي. كان هذا شرط بوتين لمساعدة إيران، وفي جوهره مسعى إلى قطع الطريق على محاولاتها الالتفاف عليه، وتقديم نفسها بديلاً للغاز الروسي المتجه إلى أوروبا بعد أزمة أوكرانيا. أما الصين، فقد تلقفت، هي الأخرى، طلب روسيا المساعدة لمواجهة العقوبات الغربية عليها، بعد ضمها القرم، فوقعت معها على اتفاقية شراكة استراتيجية عام 2015، ردا على محاولات أوباما محاصرة الصين باتفاقية الشراكة عبر الهادي (TPP) ونشره منظومة صواريخ تاد (THAAD) في كوريا الجنوبية، وإنشاء تحالفاتٍ مع الدول المتشاطئة على بحر الصين الجنوبي.

مع مجيء ترامب، توجسّت الصين وإيران من إمكانية حصول تقارب روسي- أميركي يؤدي إلى احتوائهما معاً، وفسرتا تعيين رئيس سابق لـ “إكسون موبيل”، يرتبط بعلاقات كبيرة مع صناعة النفط الروسية، وزيراً للخارجية، باعتباره عنواناً لهذه الاستراتيجية. الآن، يمكن للمرء أن يلحظ معالم الارتياح في بكين وطهران بفشل محاولات التقارب الروسية – الأميركية، كما يمكن لنا أن نلمح مدى الخيبة التي تسود عواصم عربية راهنت وعاشت على أوهام مواجهة ترامب إيران.

العربي الجديد

 

 

 

 

لعبة أميركية روسية في شرق سورية/ خورشيد دلي

تتمتع منطقة شرق سورية بأهمية استراتيجية كبيرة، في ظل التطورات الميدانية التي تشهدها الأزمة السورية، لا لأنها منطقة غنية بالنفط والغاز والمياه، وإنما لأنها منطقة مفتوحة على دول الجوار الجغرافي، وكذلك الدول الإقليمية المؤثرة في الأزمة. وعليه، تؤثر التطورات الجارية في محيطها الخارجي، بشكل كبير، في صوغ المشهد الأمني الذي يتشكل في تلك المنطقة، إذ يثير وصول القوات العراقية إلى الحدود السورية بعد تحرير الموصل من “داعش”، وتقدم القوات السورية وحلفائها باتجاه الحدود الأردنية والعراقية، أسئلة كثيرة عن الاستراتيجية الأميركية، وما إذا كانت هذه الاستراتيجية قد فشلت في قطع الطريق أمام تقدّم محور طهران – بغداد – دمشق، وصولا إلى بيروت، بعد سيطرة حزب الله على جرود عرسال.

مع انحسار الحديث الأميركي عن قطع الطريق أمام هذا المحور، وسيطرة قوات النظام السوري على مدينة السخنة المفتوحة على كل من دير الزور والرقة، معقل داعش، يجري الحديث عن تشكيل جيش وطني، يكون مقره مدينة الشدادة الواقعة تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية في محافظة الحسكة، على أن تكون مهمة هذا الجيش تحرير مدينة دير الزور، لكن قراءةً في حيثيات هذا الحديث، ستجد أنه يفتقر إلى المنطق والدقة، إذ إن تحرير دير الزور الواقعة بمعظمها تحت سيطرة “داعش” لا يحتاج إلى نقل فصائل الجيش الحر (جيش مغاوير الثورة – أسود الشرقية – أحرار الشرقية) من منطقة التنف على الحدود مع الأردن إلى الشدادة، بل تبدو هذه الخطوة عكس أهدافها، إذ يبدو خوض هذه المعركة انطلاقا من التنف أسهل بكثير من منطقة الشدادة، بسبب المسافة والعامل الجغرافي والديمغرافي، إذ يتطلب الوصول من الشدادة إلى دير الزور المرور ببلدات وقرى عديدة عكس الانطلاق من التنف، كما أن قضية تأسيس جيش وطني، من دون الاتفاق والتنسيق مع قوات سورية الديمقراطية (قسد)، تثير إشكاليات وخلافات بين هذه القوات على شكل صراع عربي – كردي، خصوصا بعد إعلان جيش مغاوير الثورة رفضه أي تنسيق مع قوات “قسد” وإعلان الأخيرة رفضها التخلي عن الشدادة للجيش المنوي تشكيله. وعليه، يبدو الحديث عن تشكيل جيش وطني جديد كأنه ستار يخفي ما يجري في الغرف المغلقة بين الروس والأميركيين، ولعل ما يدعم هذه الرؤية جملة الوقائع التالية:

أولا: التسريبات الأميركية الأخيرة عن عزم الإدارة الأميركية على وقف الدعم عن المجموعات المسلحة في منطقة التنف، وربط هذا الحديث بعزم الإدارة الأميركية على التخلي عن هذه المنطقة لصالح النفوذ الروسي.

ثانياً: يجري هذا الحديث في ظل المحادثات الأميركية – الروسية عن تعميم تجربة اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غرب سورية على باقي المناطق. وفي هذا السياق، جاء اتفاق الغوطة وحمص، ويجري الحديث عن مناطق أخرى في الشمال السوري وشرقه.

ثالثاً: الموقف الأميركي المتفرج والصامت من تقدّم قوات النظام السوري وحلفائها نحو الحدود الجنوبية والشرقية، بعد أن قصفت هذه القوات في المرحلة السابقة، وأعلنت مرارا أن هذا التقدم خط أحمر.

رابعاً: تبدو قضية نقل المجموعات المسلحة من التنف إلى الشدادة، بحجة الانطلاق من الأخيرة لتحرير دير الزور، أقرب إلى مسرحية مكشوفة الأهداف ومفضوحة، حيث سبق أن زجت الإدارة الأميركية بهذه المجموعات في عملية البوكمال عام 2016 من دون تغطية جوية، وانتهت العملية بخسارة كبيرة أدت إلى حل ما كان يعرف بجيش سورية الجديد.

خامسا: عند الحديث عن جنوب شرق سورية لا يمكن إغفال دور الدول الإقليمية المعنية بالوضع الأمني في هذه المناطق، وأقصد هنا السعودية والأردن، وأخيراً دخول مصر على خط الدفع باتفاقات وقف إطلاق النار، كما حصل في الغوطة.

بعيدا عن جدل التفاصيل وصحة الروايات وحقيقة الأهداف، يبدو ما يجري أقرب إلى تنفيذ التفاهمات الروسية – الأميركية، وهي تفاهماتٌ تتجه في الميدان إلى كيفية ترتيب معركتي الرقة ودير الزور، وفي السياسة نحو تعميم تجربة اتفاقات وقف إطلاق النار في باقي المناطق في إطار التقاسم الأميركي – الروسي لمناطق النفوذ.

العربي الجديد

 

 

 

مناورات روسية في سوريا/ خيرالله خيرالله

ثمّة ما يجمع بين موقفيْ روسيا من جهة، والنظام السوري من جهة أخرى. يتمثّل القاسم المشترك بينهما في الابتعاد عن الواقع، إلى أبعد حدود، والسعي إلى خلق عالم خاص بكل منهما.

لا يريد النظام السوري تصديق أن الشعب السوري ضده وأنه صار في مزبلة التاريخ منذ سنوات عدة، وأن سوريا صارت مقسّمة إلى مناطق نفوذ عدة.

ترفض روسيا الاقتناع بأن ليس في استطاعتها إعادة الحياة إلى مؤسسات الدولة التي ساهمت في بنائها في سوريا. لن تستطيع روسيا ذلك لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أن هذه المؤسسات ارتبطت بنظام غير شرعي قام أساسا على التمييز بين السوريين من منطلق مذهبي وطائفي، وعلى سياسة قائمة على الابتزاز والفساد. منذ متى يصلح الابتزاز والفساد لبناء شرعية أو مؤسسات لدولة عصرية تقيم علاقات سليمة مع محيطها؟

يبدو رهان روسيا على بناء شيء إيجابي انطلاقا مما بقي من مؤسسات الدولة السورية في غير محله. إنه رهان على المستحيل لا يصب سوى في تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ مع بقاء بشار الأسد في دمشق كصورة ليس إلا. ستكون موسكو أسيرة انتظار اليوم الذي تستطيع فيه الحصول على شيء ما في مقابل رأس رئيس النظام السوري الذي لم يعد يوجد من يعتبره حتّى ورقة.

كلّ ما تستطيع روسيا عمله هو التوصل إلى اتفاقات من نوع الذي توصلت إليه في الجنوب السوري بالتفاهم مع أميركا والأردن. لم يكن ممكنا التوصل إلى مثل هذه الاتفاقات من دون موافقة إسرائيل المهتمة قبل غيرها بنوع من التهدئة في تلك المنطقة الحساسة نظرا إلى أن الجولان يشكّل امتدادا لها. كشف الاتفاق عمق العلاقة الروسية – الإسرائيلية بعدما أخذ في الاعتبار أن إسرائيل، ذات الهواجس الكثيرة، لن تقبل بوجود إيراني مباشر أو غير مباشر في المنطقة الممتدة من الجولان إلى دمشق. لا يمكن تجاهل أن المسافة بين خط وقف النار في العام 1967 والعاصمة السورية هو 37 كيلومترا، في حين أن الاتفاق الروسي- الأميركي- الأردني يغطي منطقة تمتد إلى أربعين كيلومترا.

كان مهمّا وضع المملكة العربية السعودية النقاط على الحروف في ما يخص مستقبل بشّار الأسد. مهما حاولت روسيا تعويم النظام السوري، هناك أمر أكيد. لا مكان لبشّار الأسد في سوريا بغض النظر عن الطبيعة التي سيؤول إليها الكيان السياسي الذي اسمه “الجمهورية العربية السورية”.

نسبت إحدى وسائل الإعلام الرسمية الروسية أخيرا كلاما إلى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عن قبول المملكة ببقاء بشّار الأسد. استدعى ذلك توضيحا سريعا من الخارجية السعودية شدّد على الموقف الثابت للرياض من رئيس النظام السوري وعلى أن “أيّ مستقبل جديد لسوريا لا مكان فيه لبشّار الأسد”. كلام واضح ونقطة على السطر.

هناك مناورات وبهلوانيات روسية تصبّ في السعي إلى كسب الوقت. ما الذي يمكن أن يؤدي إليه كسب الوقت غير المزيد من التفتيت لسوريا في وقت بات واضحا كلّ الوضوح أن ثمّة حاجة إلى نقلة نوعية في التفكير، في كيفية الوصول إلى حل سياسي يوفق بين طموحات الأطراف المعنية بالأزمة السورية. يظل السؤال في النهاية هل يمكن التوفيق بين الطموحات المختلفة… أم يجب الاكتفاء بمناطق النفوذ القائمة حاليا، وهي مناطق نفوذ روسية وأميركية وإيرانية وتركية وإسرائيلية، فيما يقتصر همّ الأردن على حماية نفسه من إرهاب “داعش” ومن اقتراب “الحرس الثوري” الإيراني وتوابعه من حدوده.

تقوم موسكو بكل المناورات التي تستطيع القيام بها، بما في ذلك الاستعانة بمصر، تلافيا لمواجهة لحظة الحقيقة المتمثلة في أن لا مستقبل لسوريا بوجود النظام القائم. هناك محاولات إيرانية وروسية لإبقاء النظام في غرفة الإنعـاش. يمكن فهم ما تقـوم به إيران الحريصة على أن تكون سوريا جزءا لا يتجزّأ من مشروعها التوسّعي القـائم على ربط طهران ببيروت، مرورا ببغداد ودمشق. ما ليس مفهوما ما تقوم به روسيا التي آن أوان اقتناعها بأنها عاجزة عن لعب دور القـوة العظمى، لا في الشرق الأوسط ولا خارج الشرق الأوسط، مهما فعلت من أجل استرضاء إسرائيل وتوفير كلّ الضمانات التي تطلبها.

لعلّ أخطر ما في التصرفات الروسية أنهّا تخدم كلّ ما من شأنه استمرار حال من اللاستقـرار في الشرق الأوسط والخليج. إنها تسمح لإيران بالعمل على إيجاد بدائل من إخراجهـا من الجنـوب السوري. ما نشهده اليوم هو سعي إيراني إلى التشبّث بمناطق بديلة من الجنـوب السوري، مع تـركيز خاص على لبنان وعلى ربط مناطق سورية تحت سيطرتها بأخرى تحت سيطرة “حزب الله” في لبنان. ليست الصفقة التي تمت بين “حزب الله” و“جبهة النصرة” في جرود عرسال سوى فصل آخر من فصول اللعبة الإيرانية التي سيتقرر مصيرها في النهاية في منطقة الحدود العراقية – السورية. حان الوقت لأن تتصرّف روسيا بطريقة منطقية في سوريا. يفترض فيها أن تتذكّر أن حجم اقتصادها يقل عن حجم اقتصاد دولة مثل كوريا الجنوبية، وهو أقل بكثير من حجم اقتصاد إيطاليا أو فرنسا أو ألمانيا التي يبلغ حجم اقتصادها ثلاث مرات حجم الاقتصاد الروسي.

لن يكون في استطاعة دولة تعاني من كلّ ما تعاني منه روسيا التصرف كقوة عظمى في المدى الطويل. لو كان ذلك ممكنا لما انهار الاتحاد السوفياتي. هناك خدمة وحيدة يمكن لروسيا تقديمها للسوريين في حال كانت تريد فعلا مصلحتهم. بدل الرهان على صفقة ما مع الولايات المتحدة، حيث إدارة مازالت قيد التشكيل، وعلى الوقت الذي لا يخدم سوى المشروع التوسّعي الإيراني الذي يؤذي بلدا مثل لبنان، لماذا لا تحاول اللجوء إلى المنطق؟

المنطق يقول إن أي محاولة لإعادة بناء مؤسسات الدولة السورية لن يكتب لها النجاح ما دام بشار الأسد لا يزال في دمشق. تحتاج سوريا أول ما تحتاج إلى رجال جدد يأخذون في الاعتبار تركيبة سوريا وطبيعة شعبها والعـوامل الجديدة التي طـرأت أخيرا، بما في ذلك الوجود العسكري الأميركي في المناطق التي تحوي ثروات البلد (الأراضي الزراعية والغاز والمياه) وبروز دور الأكراد وتطلعاتهم وكلام تركيا عن أنها تسيطر على ألفي كيلومتر مربع من الأراضي السورية.

ليست السياسة الروسية في سوريا من النوع القابل للحياة. مرد ذلك أنه ليس لدى روسيا أي اقتراح بناء تقدمه باستثناء استرضاء إسرائيل وإيران في الوقت ذاته، والسعي إلى صفقة مع الولايات المتحدة تشمل أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم.

من الآن إلى أن تتبلور معالم مثل هذه الصفقة ستزداد الأوضاع السورية تعقيدا. الثابت الوحيد أن لا مكان لبشّار الأسد في أي حلّ أو تسوية مهما ضعفت المعارضة السـورية ومهما تشـرذمت. مثـل هـذا التمسّـك برجل مسؤول عن مقتل ما يزيد على نصف مليون سوري هو مثل الرهان السوفياتي الـذي كان قـائما على إمكـان نجاح حزب شيوعي في حكم بلد يقوم على القبليـة والعشائـرية مثل ذلـك الـذي كان اسمه “جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية”.

سيفشل الرهان الروسي في سوريا مثلما فشل الرهان السوفياتي في اليمن الجنوبي وفي غير اليمن الجنوبي في الماضي. هناك في موسكو من لا يريد أن يتعلّم ويعتقد أن تكرار الخطأ فضيلة!

إعلامي لبناني

العرب

 

 

 

 

طهران مع استمرار الحرب وموسكو مع حل سياسي/ أنطون مارداسوف

تسعى طهران إلى جر موسكو إلى جولة جديدة من الحرب الأهلية. ويرى بعض الخبراء أن أهداف العملية العسكرية الروسية في سورية في مطلع التدخل الروسي كانت متقاربة مع الأهداف الإيرانية على المستوى التكتيكي: أي الحفاظ على ما بقي من مؤسسات الدولة واستقرار النظام. لكن هوة التباين بين البلدين بدأت تتسع تدريجاً على وقع سعي روسيا إلى التفاوض مع المعارضة السورية المسلحة في سبيل وقف إطلاق نار ثابت.

ونجم عن لقاء الرئيسين، بوتين وترامب، على هامش قمة العشرين في هامبورغ، اتفاق وقف إطلاق النار في جنوب غربي سورية في درعا والقنيطرة والسويداء. ونوقش الاتفاق الروسي – الأميركي في العاصمة الأردنية عمان من دون مشاركة طهران. وهذا الاتفاق «يلغي» عملياً مسار آستانة في المنطقة الجنوبية بسورية. وفرض اتفاق عمان على إيران وأُلزمت إبعاد الفصائل الموالية لها مسافة 40 كم عن حدود إسرائيل والأردن والموافقة على نشر الشرطة العسكرية الروسية. وفي 22 تموز (يوليو)، وقَّع الروس في القاهرة اتفاقاً مع «جيش الإسلام» حول منطقة أخرى لخفض التصعيد في الغوطة الشرقية. ونشرت الشرطة العسكرية الروسية على تخوم هذه المناطق ومداخلها. وكانت وزارة الدفاع الروسية، أدرجت هذا الفصيل في قائمة «المعارضة المعتدلة» منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي.

وينتشر في دمشق – وإيران ترى أنها «بوابة» السلاح إلى «حزب الله»- عدد كبير من وحدات الحرس الثوري الإيراني والقوات الشعبية المحلية والأجنبية التي تمولها طهران. ولا يخفى القيادة العسكرية الروسية التنافس مع إيران في شرق حلب، حيث يسعى الجنود الروس وممثلو الأجهزة الأمنية الروسية المتحدرون من شمال القوقاز إلى بسط الأمن وإرساء الاستقرار، من طريق تسيير دوريات عسكرية والتعاون الوثيق مع الشيوخ من علية القوم. وعلى خلاف موسكو، بادرت طهران إلى تعزيز نفوذها في شرق حلب، وتوسع صفوف الميليشيات الموالية لها. ولا تساهم خطوات إيران في إرساء الأمن. فهي على سبيل المثل، فتحت أبواب مراكز تعليمية دينية إيرانية في حلب، ما يؤجج الصراع على أساس عرقي وديني.

* رئيس قسم دراسات نزاعات الشرق الأوسط في معهد التنمية الابتكارية، عن موقع «غيوبوليتيكا» الروسي، 3/8/2017

الحياة

 

 

 

 

 

واشنطن تنسحب وتسلم سورية إلى موسكو/ فابريس بالانش

إنهاء واشنطن برنامج دعم الثوار السوريين- وهو برنامج استفاد منه 20 ألف مقاتل، ومنهم مقاتلو مجموعات مثل «الفرقة 13» و «كتيبة حمزة» في الشمال الغربي والجنوب و «جيش أسود الشرقية» في الجنوب الغربي- هو إقرار براغماتي بواقع عسكري (حدود قدرة «الثوار» على القتال وإطاحة الحكم السوري)، وقرار أميركي بالتخلي عن سورية لروسيا. وأبرز نتائج هذا القرار هي خسارة واشنطن صدقيتها في أوساط أذرعتها في الشرق الأوسط. ورمى البرنامج في وقت أول إلى دعم الثوار في قتالهم نظام الأسد على جبهة الحرب الأهلية في الشمال (حلب وإدلب واللاذقية ومحافظة حماه، والجبهة الوسطى في حمص والجبهة الجنوبية: دمشق والقنيطرة والسويداء ودرعا). ولكن تطورات الحرب في السنوات الأخيرة، أي انفضاض الأردن وتركيا عن الحلف المعادي للأسد، زادت عزلة الثوار وقوضت أكثر فأكثر فاعليتهم. وعلى الجبهة الجنوبية، أخفقت مساعي الثوار إلى سيطرة على دمشق وعلى درعا والسويداء. والقتال على هذه الجبهة جمّد منذ بدء التدخل الروسي في أيلول (سبتمبر) 2015، إثر اتفاق روسيا والأردن وحكومة الأسد على وقف إطلاق نار في محافظة درعا. وأغلق الأردن الحدود في وجه تعزيزات الثوار وأمرهم بوقف المواجهات مع الجيش السوري. وهؤلاء اضطروا إلى الامتثال مخافة خسارة الرواتب والسلاح والحماية في وجه الإسلاميين. ورحّب وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري، بالتعاون الأردني – الروسي، ولكنه لم يكن مخيراً. فالملك الأردني أراد الحؤول دون قصف الروس مناطق الثوار في محافظة درعا المجاورة للحدود الأردنية – السورية قصفاً شاملاً. ومثل هذا القصف كان ليحمل اللاجئين على التدفق إلى الأردن. وخشيت عمان كذلك من مساهمة عموم الفوضى جنوب سورية في تقوية شوكة المتطرفين، وإضعاف العاصمة الأردنية أمام هجمات الإرهابيين. فقصر الثوار أنشطتهم على قتال «داعش» و «هيئة تحرير الشام» («القاعدة»).

ومنذ آب (أغسطس) 2016، تقاربت تركيا مع روسيا، ولم تعد ترمي إلى إطاحة نظام الأسد بل إلى الحؤول دون إحكام «الاتحاد الديموقراطي» الكردي السيطرة على المنطقة الممتدة من عفرين في شمال غرب سورية إلى نهر دجلة، ومساحة المنطقة هذه نحو 500 ميل على الحدود التركية – السورية. ومقابل سماح الروس للأتراك بالتدخل في منطقة الباب في شمال شرق سورية- والخطوة هذه تقطع اتصال المناطق التي يسيطر عليها الكرد- سحبت تركيا دعمها للثوار في شرق حلب في ختام 2016، فساهمت في هزيمتهم السريعة أمام الجيش السوري. واليوم، تؤيد أنقرة مشاريع إيران وروسيا لوقف إطلاق النار في ما يسمى عملية الآستانة. وتدعم تركيا مجموعات مثل «أحرار الشام»، وتحضهم على جبه «هيئة تحرير الشام» في إدلب، وعدم قتال الأسد. فأنقرة بتت أمرها، وترى أنها تحتاج إلى دولة مركزية سورية للحد من نفوذ «الاتحاد الديموقراطي» على حدودها الجنوبية. والجبهة اليتيمة التي يتواجه فيها ثوار دعمتهم أميركا مع الأسد هي في التنف في جنوب شرق سورية. ويتوزع هؤلاء الثوار على مجموعات مثل «أسود الشرقية» و «جيش المغاوير الثوري»، وكان في مقدورها (المجموعات هذه) تهديد دمشق ومنطقة القلمون الاستراتيجية في الجبال على مقربة من الحدود اللبنانية – السورية. وفي ربيع العام الحالي، اقتنص الثوار الفرصة السانحة إثر انسحاب «داعش» من الصحراء السورية الجنوبية بين الأردن وتدمر، وسيطروا على مناطق واسعة بين التنف والقلمون. ولكن سرعان ما شن الجيش السوري وميليشيات عراقية شيعية حملة لتطويق المجموعات هذه في التنف، حيث هم في حماية قوات خاصة أميركية. والمجموعات هذه لم تعد تهدد النظام.

وفي غياب دعم الأردن وتركيا، تكاد لا ترتجى فائدة من دعم الـ «سي آي أي» ثواراً سوريين. وآخر عملية بارزة شنها هؤلاء على دمشق قبل 4 أعوام في صيف 2013. ومذّاك، تربعت مجموعات إسلامية أفلحت في استمالة السكان ودعم دول عربية وتركيا- محل المعتدلين، وصارت أشرس قوة في وجه النظام. وفي شمال سورية، أطاحت «هيئة تحرير الشام» و «داعش» الثوار ممن دعمتهم أميركا. وفي الجنوب، لم يشارك المعتدلون في هجمات «هيئة تحرير الشام» الأخيرة للسيطرة على درعا. وفي جوار دمشق، تساقطت بؤر الثوار، ولم تصمد سوى الغوطة الشرقية، ويتوقع أن تسقط في الأشهر القادمة. ولن يغير وقف برنامج دعم الثوار السوريين توازن القوى في سورية، ولكنه يقوض معنويات الثورة ويسرع وتيرة تهافتها وتداعيها. وصار في مقدور الجيش السوري الانصراف إلى جبه مجموعات الثوار في غرب سورية- وهم في الأغلب إسلاميون مثل «هيئة تحرير الشام» أو «جيش الإسلام». ولا يقيم الجيش السوري وزناً لمناطق التهدئة و «خفض التصعيد» في درعا والغوطة الشرقية، فهو يقتنص الفرص السانحة ليتقدم، وينتهز إحباط الثوار بعد إعلان واشنطن وقف الدعم. فالثوار يشعرون بالضعف والخيانة. ويخلف إعلان وقف الدعم والتمويل أثراً مماثلاً لسقوط حلب في العام المنصرم. فسقوط حلب حمل مجموعات كثيرة في محيط دمشق إلى السعي إلى اتفاق مع نظام الأسد. وبعضهم رحِّل إلى إدلب، وبعض آخر استساغ عفو النظام والتحق بالقوى الأمنية. وشطر ضئيل من الثوار التحق بالمجموعات المتطرفة من أمثال «هيئة تحرير الشام».

وأعلن دونالد ترامب من طريق وقف دعم قتال الثوار ضد الأسد أن واشنطن لا تسعى إلى تغيير النظام في سورية. والإعلان جاء بعد لقاء ترامب نظيره الروسي في قمة الدول العشرين. ورأى بعضهم أنه تنازل أميركي أمام روسيا. ولكن هذا الحسبان في غير محله. فواشنطن اليوم تعتمد على روسيا في كبح النفوذ الإيراني في سورية. وهي ترجح كفة انتشار قوات روسية في جنوب سورية على كفة انتشار «حزب الله» و «الحرس الثوري» في مناطق حدودية مع إسرائيل. وترى واشنطن وتل أبيب أن انتشار القوات الروسية هو أهون الشرور، على رغم أنه يقتضي تقديم تنازلات والنزول على مصالح روسيا. وعلى رغم أن دعم الثوار السوريين لم يعد يعتد به على المستوى الاستراتيجي، التخلي عنهم هو سابقة سيئة تُجمع مع سوابق سلبية مثل انسحاب أميركا من العراق، وتنتصب قرينة على مقاربة واشنطن (السلبية) الحلفاء في الشرق الأوسط. وصار في وسع النظام السوري السيطرة على دير الزور في الشرق من دون أن يخشى هجمات في مناطق أخرى. ومع إجازة واشنطن استعادة دمشق دير الزور، تسلم الحدود العراقية – السورية إلى الإيرانيين وتطلق يدهم في إنشاء الممر البري الذي لطالما تاقوا اليه بين طهران والمتوسط. والقوى السنّية المؤيدة لأميركا أضعف من أن تحول دون مثل هذه النتيجة. ولا ترغب «قوات سورية الديموقراطية» في قتال النظام ولا في الإمساك بأراض خارج المناطق الكردية. واليوم تدرك هذه القوات، وتركيا هي خصمها اللدود، أن دعم واشنطن ليس مستداماً وليس مضموناً. ويتساءل كثر من قادتها عما يلي سقوط الرقة وإطاحة «داعش». والأغلب أن يتبدد إذّاك الدعم الأميركي مع انتفاء الحاجة إلى «قوات سورية الديموقراطية» وتحول القوات هذه إلى مصدر خلاف فحسب مع تركيا، في وقت تحتاج واشنطن إلى تعاون أنقرة لضبط التوسع الإيراني في المنطقة. ومثل هذه الظروف قد يحمل «قوات سورية الديموقراطية» على التقرب من روسيا وطلب حمايتها من تركيا.

والحق يقال، إن واشنطن ترجح كفة الأسد وحلفائه. والأشهر القادمة (إلى نهاية العام الحالي) مخصصة لاستعادة الجيش السوري شرق سورية، في وقت إن 2018 هو على الأغلب عام تدمير مخلفات جيوب الثوار في الغرب، وفي مناطق التهدئة ووقف التصعيد. ولا خيار أمام «قوات سورية الديموقراطية» غير تسليم الرقة للأسد مقابل إدارة ذاتية غير رسمية في كانتوناتها (أقاليمها). ويبدو أن بوتين هو المنتصر الأكبر في الحرب السورية. فهو بعث القوة الروسية في الخارج مقابل كلفة مالية وبشرية بخسة نسبياً، وارتقت بلاده لاعباً بارزاً في الشرق الأوسط. وتأمل أميركا بأن يبرز شقاق في الحلف الروسي – الإيراني في سورية. ولكن قد يطول الأمر في انتظار وقوعه (الشقاق). وعلى خلاف إيران، لا ترغب روسيا في تعكير علاقاتها بإسرائيل. ولكن ثمة مصلحة تجمع بين طهران وموسكو. فبوتين يرغب في الاقتصاص ممن كان يحدد أسعار النفط ويدعم مالياً مجموعات إسلامية قيدت القوة الروسية في الشيشان، فيما تلتزم إيران الصبر بعد فوزها بهذه الجولة من فصول اللعبة الاستراتيجية الكبرى في الشرق الأوسط. والمنتصرون هم أصحاب استراتيجية متماسكة طويلة الأمد وهم قادرون على استمالة تعاون وكلاء محليين وحلفاء محليين. وفي هذا الميزان، تنتكص أميركا على عقبيها.

* أستاذ ومدير البحوث في جامعة ليون الثانية، باحث زائر في «واشنطن إنستيتيوت فور نير إيست بوليسي»، عن «فورين أفيرز» الأميركية، 2/8/2017، إعداد منال نحاس

الحياة

 

 

 

 

مصالح مشتركة وخلافات بين أميركا وروسيا في سورية/ راغدة درغام

طمأننا وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، الى أنه على تفاهم مع نظيره الروسي سيرغي لافروف في موضوع سورية، فيما كانت وزارة الدفاع الأميركية تنتهج استراتيجية استعادة الأسلحة من «الجيش السوري الحر» بعدما رفضت فصائل منه الشروط الأميركية لمواصلة الدعم، وفي طليعتها عدم قتال القوات النظامية السورية والتركيز حصراً على محاربة «داعش». حروب العقوبات والانتقامات الديبلوماسية المتأججة بين واشنطن وبين موسكو وإيران لن تثني تيلرسون ولافروف عن الاجتماع الأسبوع المقبل في مانيلا على هامش اجتماعات رابطة جنوب شرق آسيا حيث ستكون الحرب على «داعش» و «جبهة النصرة» أولوية قاطعة تُملي السياسات كافة. روسيا ثابتة على سياساتها، بقليل من التأقلم، كي لا تخسر شراكتها مع الولايات المتحدة في المسألة السورية إنما دون أن تتخلى عن أسس ومبادئ تحكَّمت بعلاقاتها مع كل من إيران والنظام السوري. الولايات المتحدة متقلبة، لا تقلقها سمعة الاستغناء عن الأصدقاء والشركاء حين تقتضي ذلك المصالح الأميركية، وإدارة دونالد ترامب تتخبط في تناقضاتها وتأقلمها مع البراغماتية الروسية. بكثير من الاعتباطية كلاهما يزعم ان التفاهمات على مواجهة الإرهاب وعلى مناطق «خفض التوتر» سيليها إحياء عملية سياسية لمستقبل سورية بدستور وانتخابات ومشاركة المعارضة في الحكم بدلاً من استفراد النظام بالسلطة. وكلاهما يدرك تماماً أن لا تعايش بين حكم حزب «البعث» الذي لا يطيق ولا يتحمل تقاسم السلطة وبين عملية ديموقراطية فعلية تُنتج بديلاً من فكر «البعث» ونهجه. المعارضة السورية المعتدلة المسلحة خضعت الآن لواقع الحال بعدما خانت نفسها تارة وخانها الحلفاء والأصدقاء تارة أخرى. فهي أساساً لم تكن مهيّأة أو قادرة على محاربة محور عسكري يضم روسيا وإيران و «حزب الله» وميليشيات «الحرس الثوري» الإيراني والنظام في دمشق. وهي وقعت ضحية استغناء أميركا عنها تارة وتضليلها تارة إلى جانب تجيير قوى عربية خليجية الحرب السورية لخدمة مشاريعها الإقليمية. وارتكبت المعارضة المعتدلة عدة أخطاء مصيرية، من بينها الاعتقاد أن في وسعها محاربة العدوين، النظام في دمشق و «داعش» و «النصرة» وأخواتها، فوجدت نفسها كما هي اليوم، مُطالبة بأن تحارب حصراً من كان يحارب النظام بموازاتها وان كان لغايات وأجندة لا علاقة لها بالمعارضة المعتدلة. وها هي المعارضة المسلحة، بالذات «الجيش السوري الحر»، تخضع لإملاءات أميركية وروسية وإيرانية فيما تصوغ واشنطن تراتب التكتيك تلو الآخر وبينما يحاول المخضرم نفطياً، ريكس تيلرسون، الإمساك بخيوط اللعبة الاستراتيجية التي يتقنها لافروف بحنكة، فيهرول وراءه سورياً، ويتصرف بسذاجة سهواً أو عمداً عراقياً، ويتأخر بالمبادرة خليجياً على صعيد الأزمة القطرية، ويعارك أشباح إدارة أميركية بدائية.

فوضوية إدارة ترامب لا تعني بالضرورة أنها وحدها المسؤولة عن السياسات الأميركية، لأن تلك السياسات بمعظمها تتخذها الولايات المتحدة على المدى البعيد وعلى أساس المصلحة القومية، لذلك هناك خيوط استمرارية بين ما فعله الرئيس جورج دبليو بوش عبر حربه على الإرهاب في العراق، وما ترتب على ذلك من استدعاء الإرهابيين الدوليين إلى المشرق العربي، ومن تقديم العراق على طبق من فضة إلى إيران، ومن حذف العراق كلياً من المعادلة العسكرية الاستراتيجية مع إسرائيل، وبين ما لم يفعله الرئيس باراك أوباما إزاء المجازر في سورية متشبثاً بايران وبدعم صعود الإسلاميين إلى السلطة في مصر وغيرها لخلق الفوضى.

ريكس تيلرسون هو الواجهة الديبلوماسية لإدارة رئيس غير عادي أتى في فترة مؤرقة للدول الخليجية في أعقاب العقيدة الأوبامية التي قزّمت عمداً العلاقة الأميركية معها لصالح إحداث نقلة نوعية في العلاقة الأميركية– الإيرانية. ما حمله ترامب قبل بضعة أشهر إلى قمة الرياض من طمأنة بقلب الصفحة الأوبامية لتحل مكانها العقيدة الترامبية ما لبث أن اهتز بسبب مواقف أميركية ميدانية ازاء المشاريع الإيرانية الممتدة من العراق إلى سورية إلى لبنان اتسمت بالتهادنية والصمت والقبول بالأمر الواقع. اهتز أيضاً بسبب غموض الأدوار والمواقف الأميركية من الأزمة الخليجية بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين ومعها مصر من جهة أخرى.

تلكأ تيلرسون في ما كان يجب أن يفعله عند اندلاع الأزمة القطرية. كان يجب أن يتحرك فوراً على صعيدين متوازيين: بتدخله شخصياً، وبتعيينه مبعوثاً رفيع المستوى. لم يفعل. عندئذ كان في الإمكان ضبط الأمور على أسس واضحة. الآن، وبعد مضي شهرين على الأزمة، باتت المهمة أصعب حتى مع تكليف تيلرسون هذا الأسبوع موفدين للقيام بها. فقد بعثت الإدارة الأميركية مؤشرات إلى كل من طرفي الأزمة جعلت كلاً منهما يفسرها لمصلحته على رغم تناقضاتها. وهذا بالتأكيد يساهم في سلبية التطورات في الخليج بمساهمات أميركية خطيرة، مقصودة كانت أو غير مقصودة.

جزء مما آلت إليه الأزمة فعلياً هو انعكاسها على مستقبل مجلس التعاون الخليجي الذي لمَّ شمل الدول الخليجية الست أمنياً واقتصادياً وسياسياً بالرغم من التباين أحياناً.

قد يقال ان تحوّل مجلس التعاون من عضوية سداسية إلى عضوية خماسية من دون قطر لن يؤدي إلى تفكيك المجلس أو حلِّه، بل قد يقال ان محور السعودية– الإمارات بحد ذاته هو بذلك الوزن الضخم إلى درجة لا يتأثر معها بتصدع أو تفكيك مجلس التعاون. واقع الأمر هو ان تفكيك مجلس التعاون الخليجي يخدم ايران ومشروعها الأمني في المنطقة القائم على تولي طهران مهمة القيادة الأمنية الخليجية، فهي التي تقرر ان كانت الشراكة الأساسية أميركية أو روسية. وهي التي تتحكم بالمنطقة الخليجية لأنها تمتلك الأدوات الأمنية في هذه الحال.

فليس صدفة ولا هو قرار إدارة عابرة أن يتم طي العداء والقطيعة بين واشنطن وطهران طبقاً لعقيدة أوباما وعلى أساس إقراره بشرعية النظام الحاكم في طهران وهو حكم ثيوقراطي يفرض الدين على الدولة ونظام يؤمن بولاية الفقيه وبحقه في تصدير ثورته. وليس مطمئناً ما تشهده المنطقة الخليجية من تلكؤ وتردد أميركي في احتواء الأزمة مع قطر كما يجب –وأميركا قادرة لو شاءت الاحتواء– بما يؤدي إلى تفريق الدول الخليجية وتفكيك عقد التكامل الأمني والاقتصادي والسياسي بينها. وليس منطقياً غض نظر أركان إدارة ترامب عمداً عن الإنجازات الإيرانية الميدانية الأساسية في مشروع «الهلال الفارسي» الذي يترسّخ في الأراضي العراقية والسورية واللبنانية.

فليس كافياً أن يصرح ريكس تيلرسون ان استمرار تواجد العسكريين الإيرانيين في سورية «أمر غير مقبول»، ذلك ان مطالبة الدول العظمى في العالم بإنهاء الوجود الإيراني العسكري في سورية يجب أن تكون لها آلياتها وبرامجها التنفيذية ضمن اطار زمني. ما نشهده الآن هو طأطأة الرأس الأميركي أمام قيام «الحرس الثوري» و «حزب الله» بفرض الأمر الواقع عسكرياً ميدانياً في الخريطة السورية، بلا أي جهد لإيقاف مشروع «الهلال الفارسي» الذي تزعم إدارة ترامب أنها تقف ضده وستمنع قيامه. أركان هذه الإدارة تعهدوا بمنع استيلاء إيران المباشر أو غير المباشر على الأراضي التي يتم تحريرها من «داعش» و «النصرة» في العراق وسورية، إنما ما يحدث ميدانياً يفيد بأنهم تراجعوا عن التعهدات باسم الأولوية الأميركية المعنية بـ «داعش».

يطمئننا ريكس تيلرسون إلى أن هذا الأمر الفائق الأهمية سيكون ضمن التفاهمات مع روسيا التي أوضحت تكراراً ومراراً أنها لن تتخلى عن حلفائها وأصدقائها في سورية. فهي تفتخر بأنها نجحت في كسب سمعة الاتكال عليها وصدق تعهداتها مقابل السمعة الأميركية بسرعة الاستغناء عن الأصدقاء والحلفاء العابرين ما عدا الحليف الإسرائيلي الذي هو حليف عضوي للولايات المتحدة وجزء من التركيبة الداخلية. ثم ان الغايات الروسية في سورية ثابتة بينما الأميركية متقلبة.

بالرغم من كل ذلك، ليس أمراً هامشياً أن يعلن وزير الخارجية الأميركي ان انسحاب القوات الإيرانية من سورية يمثل شرطاً ضرورياً لتسوية النزاع. عسى أن تكون مواقف تيلرسون جدية وان تمثّل مواقف السياسة الأميركية البعيدة المدى الدائمة وليس مجرد سياسة الاستهلاك اللفظي العابر. كذلك الأمر في ما يتعلق بوعود التسوية السياسية في سورية بعد الانتهاء من معركة الرقة ضد «داعش» ومن عملية مناطق «خفض التوتر» التي تقودها روسيا. لا يكفي ان يقول تيلرسون إن لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سورية وهو يدرك تماماً أن روسيا تختلف معه في الأمر جذرياً. فإذا أرادت واشنطن أن تؤخذ بجدية عليها إثبات الجدية فعلاً.

الوزير المخضرم سياسياً، سيرغي لافروف، لن يفرّط بعلاقة يريد ترسيخها مع الوزير المخضرم نفطياً ريكس تيلرسون، ولذلك ستكون السياسة الروسية أكثر حذراً ودقة بالذات مع بشار الأسد. موقع «بلومبرغ» الاخباري نقل عن الروس ان موسكو تريد أن يقبل بشار الأسد بـ «تقاسم رمزي للسلطة» مع المعارضة. هذا ليس أبداً ما نص عليه «بيان جنيف» وما تلاه من بيانات سياسية في آستانة أو غيرها. موسكو دعمت الأسد منذ البداية ورسخته في السلطة وكسرت شوكة المعارضة السورية وهي لن تتخلى عنه ما لم تكن هناك صفقة أميركية– روسية ضخمة تتطلب مثل هذا الثمن. هذه الصفقة بعيدة جداً الآن فيما بشار الأسد يزداد تصلباً في رفضه التنازلات وتقاسم السلطة بعدما أحرز الإنجازات العسكرية الميدانية بشراكة إيرانية وبغطاء عسكري جوي روسي، فهو يعتبر أنه انتصر، وعليه سيمسك حزب «البعث» زمام الأمور بكل حدة واستفراد وعزم على تلقين الدروس للذين تجرأوا عليه بكل أدوات الانتقام.

نُقِل عن رئيس «مجلس الشؤون الدولية» الروسي، اندريه كورتونوف، المقرب من الكرملين، قوله ان تعمّد الأسد تعطيل العملية السياسية خلق «توتراً» في العلاقة بينه وبين روسيا. وزاد: «روسيا ليست مستعدة لخوض الحرب حتى تحقيق الأسد النصر». هذا أيضاً كلام مهم، إنما ليس واضحاً ان كان جدياً أو لمجرد الاستهلاك.

الواضح ان روسيا تملك أدوات الضغط والتأثير على كل من بشار الأسد ونظامه وإيران وميليشياتها من الغطاء الجوي الذي ما زال ضرورياً للعمليات العسكرية لكليهما إلى العلاقات الثنائية مع كل منهما. موسكو لن تستعمل هذه الأدوات ما دامت السياسة الأميركية تتسم بالضعف والتردد والاستلقاء.

الغامض هو ما إذا كانت السياسة الأميركية البعيدة المدى على تلك الدرجة من الدهاء الذي يحرِّك عمداً ذلك الانطباع بأنها في المقعد الخلفي لروسيا، بينما هي واقعياً مُشبعة بالبراغماتية ضماناً للمصالح الاستراتيجية الأميركية على حساب الأعداء والأصدقاء على السواء.

الحياة

 

 

 

واشنطن تعتمد على موسكو لكبح النفوذ الإيراني/ راغدة درغام

تتصادم الطموحات القومية الكردية بعوائق إيرانية وتركية وعربية، كلٌّ منها لأسبابه الوطنية والإقليمية. تتزايد النعرات والخلافات الجذرية بين المشاريع المتضاربة وسط ضجيج الكلام عن تقسيم في العراق وتقاسم في سورية. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدأ تشييد جدار على الحدود التركية- الإيرانية لمنع تسلل ناشطين أكراد إلى تركيا، ووعد بجدار آخر على الحدود مع العراق مشابه لجدار يشيده على الحدود السورية. رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود بارزاني، أوضح ما اعتبره «استحالة» العودة عن تنظيم الاستفتاء على استقلال الإقليم وتعهد بأنه لن يسمح بدخول «الحشد الشعبي» الذي تدعمه إيران إلى كردستان. تحدث بارزاني عن المشروع الإيراني وقال إن «المسؤولين الإيرانيين أعلنوا صراحة نجاحهم في تحقيق برنامجهم في فتح طريق طهران- بغداد- دمشق- بيروت»، رافضاً تحميل الكرد مسؤولية تقسيم العراق، لافتاً إلى أن «الحرب الطائفية موجودة، ولا سيادة للدولة» العراقية المقسَّمة.

بغض النظر إن كان تقسيم العراق آتياً رسمياً عبر الاستفتاء على استقلال كردستان، فقد سبق وأتى عبر حرب جورج دبليو بوش في العراق وعلى يد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الموالي لطهران ومن خلال «الحشد الشعبي» الطائفي الذي هو الطبعة العراقية لنموذج «الحرس الثوري» الموازي للقوات النظامية في إيران. وكان لافتاً هذا الأسبوع قيام الرئيس الإيراني حسن روحاني بسحب حقيبة الدفاع من قادة «الحرس الثوري» للمرة الأولى منذ نحو ربع قرن وعهد بها إلى ضابط في صفوف الجيش النظامي. إنما هذا الإجراء يبقى أكثر رمزية طالما لا يتخذ النظام في إيران قرار سحب ميليشياته وحشوده وأحزابه المسلحة من الأراضي العربية، علماً أنها كلها تابعة لأوامر «الحرس الثوري» ومشروعه التوسعي المتطرف. هنري كيسنجر حذّر هذا الأسبوع من أن سيطرة إيران على المناطق التي يتم تحريرها من «داعش» يمكن أن تؤدي إلى قيام «إمبراطورية إيرانية متطرفة» وتكون النتيجة «حزاماً إقليمياً يمتد من طهران إلى بيروت». إدارة ترامب ليست واضحة في ما إذا كانت تنوي الخضوع لحزام الإمبراطورية الإيرانية المتطرفة كأمر واقع، أو إذا كانت تعتزم التعرّض له ومنع قيامه ميدانياً. حتى الآن، يبدو أن إدارة ترامب كلّفت روسيا بقيادة ملف مصير إيران وميليشياتها في سورية. اللافت هو ازدياد التسريبات الروسية إلى الكتّاب والباحثين في المؤسسات الفكرية الروسية لأفكار حصيلتها: أن موسكو الساعية لحل سياسي في سورية تعرقل جهودها إيران التي تريد استمرار الحرب في سورية. رسالة رفع عتب هي هذه، أو توزيع أدوار، أو جدية في الخلافات واختلاف الأولويات الروسية- الإيرانية، أو أنها نتيجة جدية الضغوط الأميركية كشرط لإتمام الصفقة المرجوّة بين موسكو وواشنطن؟

خبير الشؤون الإسلامية والدولية، كيريل سيمينوف كتب في موقع «رجيوبوليتيكا» تحت عنوان «إيران تعرقل حلاً روسياً في سورية» نشرته «الحياة» الأربعاء الماضي يرافقه مقال آخر لرئيس قسم دراسات نزاعات الشرق الأوسط في معهد التنمية الابتكارية، أنطون مارداسوف، عن الموقف ذاته عنوانه «طهران مع استمرار الحرب، وموسكو مع حل سياسي». عموماً، أن تصدر مقالات روسية في الاتجاه ذاته يعني إما أن هذا هو توجه السياسة الروسية، أو إن هذا ما تود القيادة السورية تسويقه لغاياتها الاستراتيجية والسياسية.

فحوى ما كتبه سيمينوف لافت، إذ إنه تحدث عن قيام إيران بشق «الممر الشيعي» (بين إيران والمتوسط عبر العراق وسورية ولبنان) و «نقل الصراع في سورية إلى مواجهة من مستوى جديد». قال: «لا تريد موسكو، وهي التزمت تسوية سلمية للصراع السوري، أن تتحول سورية إلى مستعمرة إيرانية متشيّعة تدريجاً على أيدي آيات الله الإيرانيين، مع الإشارة إلى أن الصراع المذهبي- العرقي هو أحد العوامل التي تستند إليها دعاية المتطرفين الإسلاميين».

وتابع: «في دوائر العلن، مؤشرات واضحة وجلية إلى تناقضات بين روسيا وإيران». وأشار إلى أن الاجتماعات التي عقدت في عمان والقاهرة لم تدع إليها طهران «لكن الإيرانيين قادرون على إحباط الاتفاقات هذه، وعلى إبرام اتفاقات منفصلة في سورية، كما فعلوا في آذار (مارس) مع الهدنة، ستقع اللائمة على روسيا، اللاعب الأكبر، وسيؤخذ عليها أنها لم تؤثر في حلفائها على أفضل وجه»، وقال إن طهران «تريد أن يتواصل القتال».

ما كان لافتاً بصورة خاصة هو ما دعا إليه الخبير الروسي في إدلب بالذات إذ قال: «على روسيا وتركيا أن تسارعا إلى الاتفاق على تدابير دعم المعارضة المعتدلة في نضالها ضد المتطرفين في إدلب، قبل أن تبدأ طهران ودمشق الهجوم على إدلب بذريعة أن مواقع المتطرفين هناك تتعزز». وختم: «ترى إيران أن حل الصراع يقتضي التغلب على المعارضة المسلحة وتريد أن تدعمها روسيا في هذا المسعى. لكن موسكو ترمي إلى تسوية سلمية وسياسية».

أما أنطون مارداسوف فافتتح مقاله: «تسعى طهران إلى جر موسكو إلى جولة جديدة من الحرب الأهلية». وأشار إلى تقارب الأهداف الروسية- الإيرانية في مطلع التدخل الروسي في سورية «لكن هوة التباين بين البلدين بدأت تتسع تدريجياً على وقع سعي روسيا إلى التفاوض مع المعارضة السورية المسلحة في سبيل وقف إطلاق نار ثابت».

مارداسوف تحدث عن التنافس الروسي- الإيراني في شرق حلب حيث تسعى موسكو إلى «بسط الأمن وإرساء الاستقرار» بحسب قوله، فيما «بادرت طهران إلى تعزيز نفوذها في شرق حلب وتوسيع صفوف الميليشيات الموالية لها»، وفتح مراكز دينية إيرانية في حلب «تؤجج الصراع على أساس عرقي وديني».

مثل هذه الرسائل موجّه، ربما، إلى واشنطن كي تتفهم الصعوبات الروسية في احتواء الطموحات الإيرانية وكي تدرك إدارة ترامب أن الثمن غالٍ إذا قررت روسيا قطع التحالف الميداني مع إيران.

والثمن في القرم حيث تصر موسكو على إقرار واشنطن بأنها استعادت في القرم أراضي روسية. موسكو، تختلف مع طهران بما يتعدى الرسالة الروسية إلى واشنطن لأن المشروع الإيراني في سورية يختلف فعلاً عن المشروع الروسي. إنما موسكو ليست جاهزة للاستغناء عن علاقاتها الاستراتيجية مع طهران ما لم تكن واثقة تمام الثقة بأن المشروع الإيراني سيورِّطها في مستنقع حرب أهلية في سورية، وما لم تكن جاهزة للصفقة الروسية- الأميركية.

واشنطن تعتمد على روسيا لكبح الهيمنة الإيرانية في سورية. تفعل ذلك إما ثقة منها بأن موسكو قادرة لو شاءت، أو لأنها ترى أن المشكلة هي مشكلة روسيا وليست مشكلة الولايات المتحدة. فالأهم لإدارة ترامب حالياً هو تحقيق السحق المرجو لـ «داعش» وأمثاله بشراكة مع أي كان، ومن ثم، لكل حادث حديث. فاستعادة القوات السورية النظامية دير الزور وتسليمها الحدود السورية- العراقية إلى «الحرس الثوري» الإيراني لم يلقيا اعتراضاً أميركياً مسموعاً، بل الانطباع هو أن واشنطن «طنّشت» وبالتالي أجازت ذلك. فدير الزور منطقة رئيسية للممر الأساسي بين طهران والبحر المتوسط. وحتى الآن، لم تتخذ واشنطن أي إجراء فعلي لاعتراض إنشاء تلك القاعدة لمشروع «الهلال الفارسي» الذي تزعم هي وإسرائيل أنهما تعارضانه.

هامش الثقة بالولايات المتحدة ضيّق لجميع من تعاون معها وهم جميعاً يتأهبون لإمكانية الاستغناء الأميركي عنهم بعد تحقيق الأهداف الأميركية- فهذه هي السمعة الأميركية. «قوات سورية الديموقراطية» تعي تماماً أن الحاجة الأميركية لها موقتة، وأن دعم واشنطن لها لن يدوم ولا هو مضمون بعد الانتهاء من معركة الرقة الأساسية لتحقيق هدف سحق «داعش». لذلك، وبما أن «قوات سورية الديموقراطية» هي أساساً كردية، ترى أن مصلحتها تقتضي التركيز على الاحتفاظ بأراضي المناطق الكردية عبر تفاهمات مع النظام في دمشق ومع موسكو. فالصفقة مع بشار الأسد أضمن من الاعتماد على الوعود الأميركية التي قد تتقلب مع رياح العلاقة مع تركيا.

كذلك، تصبو «قوات سورية الديموقراطية» إلى صفقة تسليم الرقة للقوات النظامية في مقابل وعد الأسد بإدارة كردية ذاتية في المناطق الكردية السورية. فالكرد يشككون بالتعهدات الأميركية وهم يشكّون بأن تكون الأولوية الأميركية كردية في مقاييس العلاقات مع تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي والتي قد تحتاجها واشنطن، كما يقول البعض، لضبط التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، كما قد تحتاجها في تحديد مصير إدلب.

روسيا تخشى أن تستغل طهران ودمشق الوضع في إدلب بهجوم مسلح يسفر عن تحالفات جديدة بين المعارضة المعتدلة والمتطرفة. فالفكرة الروسية تقوم على إيلاء مهمة القضاء على المعارضة المتطرفة إلى المعارضة المعتدلة وهي تريد قطع الطريق على أية اجتهادات إيرانية ومغامرات نظامية في إدلب.

تركيا تمتلك أدوات عدة في مصير إدلب، إذ إنها متهمة بأنها راعية الملاذ للمتطرفين هناك. روسيا تحاول التنسيق مع تركيا مما يترك الانطباع بأنها على خلاف مع إيران، لكن هذه شراكات انتقالية موقتة في ساحات المعارك السورية.

فحتى الآن، وعلى رغم التسويق الروسي لتباينات مع المشاريع الإيرانية في سورية، ليست هناك إثباتات على أية نقلة نوعية في التحالف الميداني الروسي- الإيراني باتجاه الاختراق استراتيجياً. وطالما تتعايش واشنطن مع أية تحالفات في سورية تحت عنوان محاربة الإرهاب- وهو عنوان تبنته دمشق أساساً- تتولى روسيا مهمة إدارة التطورات وهي التي تقرر إن كان في مصلحتها التقارب مع تركيا أو التباعد مع المشاريع الإيرانية في سورية. وهي التي تقرر مصير المعارضة السورية برمتها. لذلك، يتوجه إليها الكرد وتتقارب معها «قوات سورية الديموقراطية» المدعومة أميركياً. إنما في نهاية المطاف، إيران ليست مسألة عابرة في مصير سورية، فمشاريعها العابرة للحدود تحتاج الجغرافيا السورية، ولن يوقفها عن تنفيذها سوى قرار روسي- أميركي- إسرائيلي لم يتخذ بعد.

الحياة

 

 

 

 

في انتظار مذبحة إدلب/ حسان حيدر

بات لدى الادارة الاميركية اعتقاد راسخ، نتيجة منطقها السياسي الذاتي او بإيحاء روسي، بأن قبولها ببقاء بشار الاسد في السلطة سيتيح لها لاحقاً التأثير في خياراته، وإبعاده تدريجاً عن حليفه الإيراني. وينعكس هذا التفكير الساذج والقاصر عن ادراك حقائق السياسة في الشرق الاوسط وفهم ألاعيبها، في استمرار التنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا في الشأن السوري، على رغم التوتر القائم بين الدولتين بسبب مسألة التدخل في الانتخابات الاميركية، وتبادل فرض العقوبات.

لكنه تنسيق يبدو راجحاً بوضوح لمصلحة موسكو التي تعرف ما تريد، وتخطط له بدأب. وهذا ما تعكسه تصريحات الطرفين عن الوضع في إدلب التي سبق للروس ان أدرجوها في قائمة مناطق «خفض التوتر» قبل ان يبدأوا الحديث عن صعوبة تحقيق ذلك. وجاراهم الاميركيون في تأكيد ان المحافظة الشمالية باتت «ملاذاً آمناً» لتنظيم «القاعدة» في شكله الجديد: «هيئة تحرير الشام» بعد «النصرة».

ثعلب الديبلوماسية الروسية لافروف صرّح بعد نقاشات مستفيضة وتفصيلية حول سورية مع نظيره الاميركي تيلرسون قبل أيام في مانيلا، بأن «الاتفاق على معايير منطقة خفض التصعيد في ادلب ليس بالأمر السهل». وجاءت هذه التصريحات لتزكّي تصريحات أدلى بها الموفد الاميركي الخاص لدى «التحالف الدولي ضد داعش» بريت ماكغورك عن تحول إدلب «منطقة آمنة لإرهابيي القاعدة»، متهماً تركيا بتقديم «السلاح والمال والدعم اللوجستي لهم» وبأنها كانت «الطريق الوحيد لعبور مقاتلي القاعدة إلى سورية».

ومع انه لا يمكن الدفاع عن تركيا ودورها في سورية، واستخدام استخباراتها كل الطرق والوسائل لتعزيز نفوذها هناك، بما في ذلك نسج علاقات مشبوهة مع متطرفين واستخدام قضية النازحين لاغراض سياسية بحتة، إلا ان الموقف الاميركي يتجاهل حقيقة ان روسيا وايران والقوات السورية النظامية هي المسؤولة الى حد كبير عن ايصال الوضع في إدلب الى ما هو عليه، بعدما عملت هذه القوى على تشجيع المقاتلين المعارضين، وخصوصاً من متشددي «القاعدة»، على الخروج بأسلحتهم من مناطق شهدت اجراء «مصالحات»، وتسهيل انتقالهم الى ادلب.

كان الهدف الأولي لهذه السياسة زيادة عدد المتطرفين في المحافظة لمواجهة المعارضين من «الجيش الحر» والفصائل المعتدلة. وهذا تماماً ما حصل وأدى الى مواجهات بين الطرفين انتهت بسيطرة «النصرة» على معظم المحافظة وعلى معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا.

اما الهدف الأبعد، فهو التذرع بسقوط ادلب في يد المتشددين تمهيداً لاقتحامها، مثلما حصل في حمص وحلب. من سيقوم بذلك؟ الروس والجيش النظامي والميليشيات الايرانية، وربما بمشاركة جوية اميركية.

لكن هل يعقل ان الاميركيين غافلون عن هذه الخديعة؟ بالطبع لا، إلا انهم على ما يبدو اخذوا مقابلاً في مناطق اخرى: منطقة «خفض التوتر» الجنوبية (درعا) ومناطق سيطرة «قوات سورية الديموقراطية» الكردية شمالاً. لكن السؤال هو: هل يستطيع الأميركيون ضمان انهم لن يضطروا لاحقاً الى التخلي عن هؤلاء بعد انتهاء المعركة مع «داعش»؟

الواضح ان الاميركيين «وقعوا في الفخ» بإرادتهم. فقرار الوثوق بالكرملين في التخطيط لمستقبل سورية يتجاهل اموراً عدة، أولها ان روسيا لا ترغب ولا تريد ان يشاركها احد نفوذها في هذا البلد، باستثناء قوى الامر الواقع الايرانية، وثانيها ان الاسد لا يستطيع، ولو رغب، التخلي بسهولة عن ايران لمجرد ان الاميركيين قبلوا الاقتراح الروسي ببقائه في الحكم.

السياسة الاميركية اذاً تحتاج الى تصويب، اذ لا يمكن ضمان الروس ولا الاسد. اما ايران فيستدعي اخراجها من سورية مواجهة مباشرة معها.

وقد تكون الاتهامات الاميركية الى تركيا مجرد محاولة لابعاد الاتراك عن معركة ادلب، او لردعهم عن التدخل ضد الاكراد في شمال سورية بعدما بدأوا تعزيز قواتهم قبالة مناطق انتشارهم. لكن ما هو مؤكد، ان معركة إدلب تقترب بأسرع مما هو متوقع، ولن يكون فيها تمييز بين متطرف ومعتدل، او بين مسلح ومدني، وقد يكون الهجوم بالسلاح الكيماوي على خان شيخون مجرد عينة مما ستشهده.

الحياة

 

 

 

 

هل تقف روسيا حقا في صف الأسد؟

يبدو أن روسيا تمنع تحقيق الأسد لانتصار ساحق في محاولة منها لتعزيز مكانتها الدولية. انتهت جولة أخرى من محادثات جنيف حول الأزمة السورية بدون أي نتائج ذات مغزى. وفي غضون ذلك، تستمر المناورة الروسية الموازية في الإلقاء بظلالها على جهود الأمم المتحدة لإنهاء الأزمة. فلا تزال جهود موسكو -وتحديدًا “خطتها لوقف التصعيد” من أجل إنشاء مناطق آمنة لجماعات المعارضة التي تدعمها تركيا، ودول الخليج، والولايات المتحدة، وأوروبا- غريبةً إلى حد ما.   إذ يبدو أن خطة روسيا تقع على النقيض مباشرة من الهدف المعلن لعميلها الرئيس السوري بشار الأسد، الذي يقضي باستعادة “كل شبر” من البلاد. في محاولتها للسماح بمناطق آمنة، قد تكون روسيا في واقع الأمر تتعمد منع تحقيق الأسد لانتصار ساحق.

لا تسمح روسيا، على ما يبدو، للجهات الخارجية الفاعلة بأن يُبقوا على موطئ قدم لهم داخل سوريا وحسب بل إنها تشجعهم على ذلك. إذ إن الإبقاء على القوى العالمية والإقليمية على الطاولة يسمح لروسيا بأن تحكّم مصالحهم في مستقبل سوريا وتستفيد من نفوذها على دمشق. وفي المقابل، سوف يبدّد إخراج القوى المتنافسة من سوريا وتأمين البلاد كلها من أجل الأسد فرصةَ موسكو للارتقاء بنفسها فوق المسرح الدولي أكثر من ذلك.

بدأت الجهود الدبلوماسية الروسية بأخذ منحى جدي بعد الهجوم الذي شنه الأسد في 2013 بالأسلحة الكيميائية على الغوطة، لتضع بعد قليل ترتيبات سلّم بمقتضاها الزعيم السوري كامل مخزونه من الأسلحة الكيميائية في مقابل عدم تنفيذ ضربة عسكرية أميركية ضده. نجح الاتفاق في هذا الوقت على ما يبدو، وهو ما عزّز من مكانة روسيا الدولية بوصفها متباحث باسم النظام السوري. ليتوسع الدور الدبلوماسي الروسي منذ ذلك الحين. في أعقاب التدخل الروسي عام 2015 باسم الأسد الذي أُضعفت قوى نظامه، صارت روسيا أكثر انخراطًا في محادثات جنيف، والعمل على الوصول إلى وقف الأعمال العدائية بين الطرفين المتقاتلين في أواخر 2015 و2016، وكثير منها ولّد فترات انخفضت فيها وتيرة العنف.

إذا أرادت روسيا أن تؤمّن فوزًا ساحقًا للأسد، لكانت بقيت فقط في جنيف وسمحت باستمرار المحادثات الدولية دون تحقيق نجاح ذي مغزى. كان من الممكن لموسكو أن تزعم أنها تسعى نحو تسوية سلمية وتساعد بالتزامن مع هذا الأسد في استعادة مزيد من الأراضي. وكانت فقط ستلقي باللوم من فشل الوصول إلى تسوية من خلال المفاوضات على المتطرفين في صفوف المعارضة. لم تفعل روسيا سوى هذا، فقد ساعدت الأسد على استعادة مزيد من الأراضي وألقت باللوم من الفشل الدبلوماسي على كاهل المعارضة، لكنها اتخذت أيضًا خطوات استباقية حتى تحبط تحقيق الأسد لانتصار ساحق.

في (ديسمبر/كانون الأول) الماضي، دعت روسيا تركيا وإيران وعديدًا من المشاركين في الأزمة السورية إلى محادثاتها الموزاية، والمنفصلة عن جهود الأمم المتحدة. فقد أسفرت لقاءاتهم في العاصمة الكازاخستانية أستانا عن قرار بوقف الأعمال العدائية، التي خففت -رغم حدوث بعض الخروقات- من وطأة العنف الدائر بين النظام والمعارضة.

وفي مطلع (مايو/أيار)، نفذت روسيا تحركها الأكثر جرأةً حتى الآن، عندما أقرت في أعقاب الجولة الرابعة من محادثات أستانا “خطة لوقف التصعيد” وهو ما أنشأ أربع مناطق آمنة ظاهريًا، وهي: محافظة إدلب التي تسيطر عليها المعارضة، وريف حمص الشمالي، والغوطة الشرقية، ودرعا. وفي المقابل، لم يرفض الأسد، الواقع تحت الوصاية الروسية، الفكرة الداعية لإنشاء هذه المناطق الآمنة حتى وإن كانت تطالبه بالتنازل فعليًا عن مطالبته باستعادة أجزاء رئيسية من الأراضي السورية. كما يرجح أن الأسد يحدوه الأمل في أن تفشل الخطة، مما يسمح له باستكمال جهوده لاستعادة الأراضي مثلما فعل من قبل حينما انهارت اتفاقات وقف الأعمال العدائية السابقة.

بيد أن خطة روسيا الحالية تمتلك الإمكانية لأن تكون أكثر متانةً من اتفاقات وقف الأعمال العدائية السابقة، في ظل ترحيبها بوجود البلاد المتنافسة داخل سوريا.  تفسح القوات الروسية فعليًا المجال أمام القوات التركية في الشمال، وقد وصلت موسكو إلى اتفاقية منفصلة بوقف الأعمال العدائية في الجنوب، الذي يشمل منطقة درعا الآمنة، وتشترط مشاركة أميركية وأردنية. حتى أن تقاريرًا أفادت بأن روسيا تحاول تغيير تفويض قوات الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك، التي كانت تراقب وقف الأعمال العدائية بين سوريا وإسرائيل منذ 1974، وجعلها قوة مسلحة يمكنها الإبقاء على اتفاقيات وقف الأعمال العدائية في الجنوب. وإذا انخرطت كل هذه القوى الأجنبية ظلت مشاركِة -ولاسيما على الأرض- لن يتمكن الأسد بسهولة من قلب المسار وشن اعتداء على هذه المناطق في المستقبل.

إذ إن اعتلاء صراع متعدد الأوجه تحاول فيه القوى العالمية والإقليمية ترسيخ مصالحها يقدم فرصةً إلى روسيا. وطالما يحافظ هؤلاء اللاعبون الخارجيون على مصالحهم في سوريا ويريدون أن تبقى البلاد موحدة، وطالما تُبقي روسيا على نفوذها على دمشق، سيتحتم على باقي دول العالم حينئذ أن تزاحم روسيا حول سوريا. فأي جانب يرغب في الانخراط في دولة سورية مستقبلية موحدة -سواء كان ذلك استثمارًا في جهود إعادة البناء أو التعامل في الشؤون الأخرى- سيتحتم عليه المرور عبر بوابة موسكو. وإن رفضوا، سيقوّض نظام ما بعد الصراع الذي تسيطر عليه روسيا، مما سينتج عنه استئناف العنف، وعدم الاستقرار الكبير في المنطقة، وموجات شديدة من تدفق اللاجئين، ربما تكون أشد من هذه الموجات التي شهدها عام 2015، وذلك في حال انتشار الصراع إلى مدن سوريا الرئيسية.

وبوصفها الحكم في صراع كان له تأثير بالغ على المنطقة وما وراءها، يمكن لروسيا أن تصد محاولات الاتحاد الأوروبي لزيادة العقوبات وتشتت النقد الذي تواجهه بسبب أفعالها في أوروبا الشرقية، وتحرج أيضًا ما تراه صورة ضعيفة من الولايات المتحدة، التي تفقد مكانتها في الشرق الأوسط والعالم.

وإن كانت روسيا بدلًا من هذا بصدد التخلي عن خطتها لوقف التصعيد ومساعدة الأسد على استعادة “كل شبر” من سوريا، لكان من الممكن لموسكو أن تقلل من أي نفوذ وتستفيد من ذلك من أجل إبعاد النفوذ الأجنبي المؤيد للمعارضة وترسيخ وضع البلاد باعتبارها دولة منبوذة. علاوة على هذا، قد تكون روسيا بطريقة ما تسلّم الأسد -الذي لم يعد يعتمد على الدعم الجوي الروسي- إلى إيران، التي تتنافس معها موسكو تنافسًا حثيثًا على بسط نفوذهما على دمشق.

تأتي العوائق التي تواجه روسيا في الأساس لتطبيق خطتها لوقف التصعيد من جانبها. إذ إن إيران لا تستطيع أن تستخدم الصراع السوري لتعزيز مكانتها الدولية بنفس الطريقة التي تستطيع روسيا القيام بها، ومن ثم فإنه يرجح بدرجة أكبر أنها تساعد الأسد لتحقيق انتصار شامل، ولا سيما إن كان هذا يعني استطاعة المجموعات المدعومة إيرانيًا العمل بدون قيود في مناطق عديدة من البلاد. وبالفعل، تقدمت مجموعات مدعومة إيرانيًا في أواخر (مايو/أيار) نحو قاعدة أميركية تقع على الحدود بين سوريا والعراق رغم ترتيبات منع نشوب الصراعات بين الجانبين الروسي والأميركي، وهو ما يهدد الجهود الدبلوماسية الروسية.

في غضون ذلك، استمر الأسد في قصف درعا والغوطة الشرقية، متجاهلًا المناطق الآمنة التي أنشأتها روسيا هناك. وإذا استطاع الزعيم السوري تعطيل خطة عدم التصعيد واستعادة مزيد من الأراضي، سوف يكون حينئذ أقل اعتمادًا على الدعم الجوي الروسي وأكثر انجذابًا نحو الجانب الإيراني. ثمة احتمالية متزايدة من استشعار روسيا بالضغط من أجل موازنة مُضيها قدمًا في خططها الدبلوماسية بمساعدة الأسد لتحقيق مكاسب مستمرة لكي تبقيه سابحًا في فلك موسكو. غير أن الأمر إن سار بعيدًا عن هذا السياق، فقد تخسر نفوذها على عميلها.

ينبغي على الولايات المتحدة والداعمين الآخرين للمعارضة أن يسحبوا روسيا أكثر نحو أهدافها الدبلوماسية من خلال التصديق على خطتها لوقف التصعيد، ولكنهم ليسوا مضطرين أن يفعلوا ذلك بالتوافق الكلي مع الشروط الروسية. وفي ظل السعي الحميم لروسيا من أجل الحصول على مشاركة دولية في الخطة -ولا سيما المشاركة الأميركية- يمكن للولايات المتحدة وشركائها أن يدفعوا من أجل الوصول إلى تغييرات، بما في ذلك -وليس مقصورًا عليه- إضافة الولايات المتحدة والأردن بوصفهما ضامنين ليس فقط في الجنوب، بل أيضًا في المناطق الأخرى، والضغط من أجل الوصول إلى حوار مباشر وإطار عمل عمومي للسلام بين المعارضة والنظام حتى يكون وقف التصعيد أكثر قابلية للاستمرار.

على الرغم من أن روسيا دعّمت الأسد منذ بدء الحرب وبذلت جهدًا كبيرًا لمنع سقوطه، فليس من المرجح أنها ستسلم البلاد إليه. ولا يرجع السبب في هذا إلى أن روسيا ليست قادرة على تأمين انتصار شامل به، بل عوضًا عن هذا يعود السبب إلى رغبتها في الوصول إلى تسوية من خلال المفاوضات تسيطر عليها موسكو وتستمر في أن تجعل مصالح البلاد الأخرى تمكّن روسيا من تقديم نفسها قوة عظمى. تحمل المخاوف من أن موسكو تستخدم سوريا لتعزيز مكانتها مبرراتها القوية، غير أن البدائل -سواء كان انتصارًا ساحقًا للأسد أو مزيد من الأعمال العسكرية المباشرة ضد النظام عن طريق المعارضة وداعميها- سوف ينتج عنها تصعيد دراماتيكي للعنف في الصراع وسيناريو ستكون سوريا معه محطمة باستمرار. وعلى الرغم من مواطن الضعف الحالية، فيُرجح أن التماشي وفقًا للخطوط التي ترسمها اتفاقية روسيا للمنطقة الآمنة هو الطريق الوحيد الذي يمكن المضي قدمًا فيه فيما يتعلق بسوريا.

==============================================

فريق الترجمة

مجموعة من المترجمين

الموضوع مترجم عن: هذا الرابط

 

http://www.defenseone.com/ideas/2017/07/russia-really-assad-syria/139575/

 

 

 

موسكو تستعين بالقاهرة على دمشق… ولأميركا «جيشها»!/ جورج سمعان

اتفاق الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين في هامبورغ ماض في سورية. ثمة حرص ثنائي على مواصلة التفاهم ومراعاة المصالح، بعيداً عما يحصل بين واشنطن وموسكو من تدهور كبير للعلاقات. وحرص على خلق وقائع على الأرض، بعيداً عن مشاريع وخطط للاعبين آخرين في الأزمة. وستشكل هذه الوقائع محركاً أساسياً لمفاوضات جنيف الشهر المقبل. القوات الأميركية وشركاؤها شرق بلاد الشام وشمالها يعملون على بناء «جيش وطني» ينطلق من مناطق الكرد للانخراط في الحرب على «داعش» والفصائل المتشددة الأخرى. يعني ذلك أن وقف برنامج البنتاغون لتدريب وتسليح عناصر معارضة استعيض عنه بمشروع آخر. فالقوى التي رفضت حصر المواجهة بالتنظيم الإرهابي دون النظام ستكون خارج صفوف «الجيش» الجديد. ويعني ذلك أيضاً أن الصراع على الحدود السورية – العراقية يظل مفتوحاً. وستحدد معركة دير الزور التي يعد لها الأميركيون، بعد الرقة، مآل هذا الصراع. وقد ينخرط فيه الكرد وعشائر الفرات نزولاً إلى مثلث التنف عند الحدود مع الأردن حيث القاعدة الأميركية – الأوروبية. وقد تشكل هذه الواجهة الشرقية «منطقة آمنة» إضافية تساهم في ترسيخ الهدنة في الجبهة الجنوبية. ولا يستبعد تأهيل هذا «الجيش» لاحقاً ليشكل مع الفرق النظامية التي يبنيها الروس المؤسسة العسكرية الجديدة.

لذلك من المبكر التسليم نهائياً بتواصل الميليشيات العراقية والسورية عبر الحدود المشتركة بين البلدين الجارين. وقد تكون السيطرة على مساحة ليست واسعة بين شمال التنف ومنطقة الفرات الداخلية، أو الشامية، عنوان المواجهة المقبلة مع الميليشيات التي تدعمها إيران. وهذه المنطقة ضيقة يمكن ان يتمدد إليها الكرد أو الفصائل العربية التي تدربها وتسلحها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى. عندها يمكن القول إن واشنطن ضبطت الحدود الشرقية لبلاد الشام. وإذا صح ذلك ينتفي ما أشيع من كلام على اتفاق مع موسكو يسلمها الأميركيون بموجبه قاعدة التنف.

بموازاة هذا التوجه الأميركي، يجهد الروس لترسيخ خريطة «مناطق خفض التوتر» وتوسيعها. لم يبق سوى شمال البلاد، أي إدلب وريفها. ومع هذا التوسع يزيد انتشارهم في معظم نواحي البلاد وجبهاتها، على أن يبقى الشرق والشمال الشرقي بأيدي الأميركيين وحلفائهم من عرب وكرد. مرد هذه السهولة أو السرعة في تبديل المشهد على الأرض اغتنام اللاعبين الكبيرين تعب السوريين. فإذا كان المتصارعون وبعض رعاتهم الإقليميين لم يتعبوا، فإن الناس العاديين تعبوا. وعبروا عن ذلك بأكثر من صورة وموقف. اعترضوا في الغوطة الشرقية لدمشق وبعض نواحي إدلب على الفصائل المقاتلة، خصوصاً «جبهة فتح الشام» (النصرة). تظاهروا ضدها فأذعنت وحلت تشكيلاتها.

اللافت في بناء خريطة «مناطق خفض التوتر» التي أقرتها اللقاءات الثلاثية في آستانة، أن النظام السوري لم يكن حاضراً أو فاعلاً في مرحلة التنفيذ، بخلاف ما كان يحصل في «نظام المصالحات» السابق. ويؤشر هذا إلى الهوة التي تتسع بين ما تريده موسكو وما تصر عليه دمشق. والجديد اللافت أيضاً أن شركاء آخرين غابوا عن العاصمة الكازاخية، كانوا حاضرين. بالطبع روسيا هي القاسم المشترك في الميدان، بينما غاب شريكاها الإيراني والتركي. ففي اتفاق الهدنة في الجنوب حضر الأميركيون والأردنيون، وكان الإسرائيليون الغائب الحاضر. فهذه الخطوة، كما قال الرئيس فلاديمير بوتين «ليست لمصلحة سورية فقط، بل تخدم مصلحة الأردن وإسرائيل، مما يعني أنها لمصلحة الولايات المتحدة أيضاً، آخذين في عين الاعتبار أن هذه المنطقة منطقة مصالح أميركية». وفي اتفاق الغوطة الشرقية للعاصمة ثم في ريف حمص الشمالي كانت مصر هي الشريك.

بالطبع يستجيب هذا التطور ميل القاهرة إلى إداء دور في أزمة بلاد الشام. يعنيها أن تستعيد دورها في الإقليم من الباب الذي يوفر لها هذه العودة. فهي لم تقطع العلاقة، السياسية والأمنية، مع النظام في دمشق. لكنها في المقابل أفسحت مجالاً لطيف من المعارضة سمي باسمها («منصة القاهرة»). وهي تعرف أنها لاعب يرغب فيه طرفا الصراع الداخلي، فضلاً عن اللاعبين الدوليين، الولايات المتحدة وروسيا التي أيدت تدخلها. ومنذ إطاحة نظام «الأخوان» في مصر، نقل الرئيس عبد الفتاح السيسي خطواته بدقة حيال الأزمة في سورية. أبقى الخطوط مفتوحة مع دمشق، لكنه لم يفتح الباب نحو إيران. وازن بين علاقاته مع دول الخليج العربي وموقف هذه من النظام ومن تمدد طهران. ولكن طرأ كثير على المشهد العام اليوم. فالحوار لا يزال قائماً خصوصاً بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وروسيا. لم يعكره أن هذه وسعت انتشارها، وأضعفت الفصائل المعارضة وساعدت النظام على الثبات وتحقيق انجازات ميدانية. لم يعد لخصوم الجمهورية الإسلامية تحفظات كبيرة عن مواقف موسكو، خصوصاً ان ثمة اقتناعاً في أوساطهم بأن هذه ستصل في نهاية المطاف إلى إضعاف دور طهران. ولا يضير هؤلاء، في حمأة الأزمة بين دول الخليج الثلاث ومصر من جهة وقطر من جهة ثانية، أن تتولى القاهرة دوراً ينهي وجود تنظيمات سورية تتلقى الدعم من الدوحة وأنقرة. وبات واضحاً أن الدولتين الخليجيتين منخرطتين في دفع الأزمة نحو تسوية. وقد دعت الرياض أخيراً «الائتلاف الوطني» المعارض إلى لقاء سيشمل أطيافاً أخرى من المعارضة لتوحيد الموقف والرؤية والتعامل مع المعطيات الجديدة على الأرض والانخراط جدياً في المفاوضات السياسية.

يبقى أن هناك واقعاً آخر هو أن روسيا التي لم تقطع هي الأخرى لقاءاتها وتفاهماتها مع شريكيها في آستانة، تبني علاقات موازية مع أطراف أخرى. هدفها توسيع دائرة المعنيين بالأزمة في سورية لتظل لها الكلمة العليا. شاركت وتشارك إسرائيل والأردن والولايات المتحدة. وها هي اليوم تستعين بمصر طرفاً يحل منطقياً محل النظام الذي كان يفترض أن يضع يده على الغوطة الشرقية ما دام أن أهلها ضاقوا ذرعاً بالمقاتلين وحروبهم. وكان يفترض أن تكون تركيا شريكتها في اتفاق شمال حمص. لكنها أدركت من الأعلام الروسية التي رفعها الناس العاديون تعني أنهم لا يرغبون في عودة النظام إلى مناطقهم. وهم مستعدون لاستقبال أي طرف باستثناء قوات النظام. بل هي تعمدت اللجوء إلى القاهرة بديلاً من النظام الذي لا يزال يعاند في تسهيل المفاوضات السياسية والقبول برؤية الكرملين للحل. كما أنها توجه رسالة واضحة إلى كل من طهران وأنقرة أنها قادرة على تغيير قواعد اللعبة بما يناسب أجندتها وليس أجندة كل منهما. وهو ما سيؤدي في النهاية إلى إضعاف دورهما في الأزمة ورسم صورة سورية الجديدة التي تسعى إليها.

إضافة إلى ذلك، يأتي إشراك مصر في إطار الهدف الاستراتيجي الواسع لروسيا. فهي رمت من تدخلها في سورية تثبيت أقدامها شرق المتوسط، ثم تحويل قاعدتيها في حميميم وطرطوس منطلقاً إلى الشرق الأوسط كله. لذلك جمعت في كلتا يديها أطرافاً متناحرة أو متنافسة لا يمكن الجمع بينها، من إيران وإسرائيل وتركيا إلى دول الخليج ومصر. وخرجت من فضاء المشرق إلى شمال أفريقيا، إلى ليبيا التي كانت يوماً مستودعاً للترسانة السوفياتية في القارة السمراء كلها. وأعادت تحريك ديبلوماسيتها للانخراط في أزمة اليمن لئلا تكون بعيدة عن أي تسوية سياسية في هذا البلد. يريد الكرملين بوضوح استعادة ما كان للاتحاد السوفياتي أيام الصراع بين «الجبارين». لا يريد بالطبع مواجهة مع الولايات المتحدة، لكنه يريد تقديم بلاده قوة يعتد بها تماماً كما الصين التي باتت شريكاً سياسياً وعسكرياً يعينه على المواجهة مع الغرب عموماً، وإن اختلفت أهداف الطرفين.

في النهاية إن المشهد الذي ترسمه الشراكة الأميركية – الروسية على الأرض لا بد أن يترجم في المفاوضات السياسية قريباً. ولا بد من «تطويع» النظام وحلفائه والمعارضة ومن بقي لها من سند. فلا هزيمة كاملة لطرف ولا انتصار حاسم لطرف. لا بد من تنفيذ القرار الدولي 2245 والقرار2118 بقيام هيئة الحكـم الانتقالي من أعضاء في الحكومة والمعارضة ومجموعات أخرى تمـارس الــسلطات التنفيذيــة الكاملة. ولا يسع المعارضة اليوم، كما لا يسع النظام، المعاندة والوقوف بوجه الرغبة الدولية في وقف القتال. صحيح أن الفصائل لم تحقق مبتغاها في التغيير الجذري، ولكن يكفي أن الظروف الحالية وموازين القوى على الأرض لا تسمح بأكثر من اقتسام السلطة في نظام فيديرالي نادت به موسكو منذ اليوم الأول، ولا يخالفها الغرب في ذلك… لكنه قد لا يكون الفيديرالية التي ينادي بها الكرد في شرق البلاد. فما يعارض المجتمع الدولي قيامه في كردستان العراق لا يمكن أن يسمح به في قطعة من أرض سورية.

الحياة

 

 

 

 

«سورية الروسية» هل تختلف عن «سورية الأسد» ؟/ عبدالوهاب بدرخان

النتيجة التي تتوخّاها روسيا من الإقرار الدولي- الإقليمي بتفرّدها في إدارة المرحلة التالية من الأزمة السورية، وفي ربط المتغيّرات الميدانية (مسار آستانة) بتغييرات في مفاهيم الحل السياسي (مسار جنيف)، هي أن تتكيّف الأطراف الداعمة للمعارضة مع الأمر الواقع المتمثّل أولاً بأن روسيا، بمؤازرة إيران وميليشياتها، حسمت عملياً الصراع المسلّح وهي ماضية في إسكات ما تبقّى من جبهات عبر اتفاقات «مناطق خفض التصعيد»، بل إن هذه الأطراف مدعوّة أيضاً للتكيّف مع الأمر الواقع الروسي- الأميركي، كما تجلّى في هدنة جنوب غربي سورية، وكما استُكمل باتفاق أولي على خريطة توزّع القوى في محافظة الرقّة وعلى حدودها، وكما يمكن أن يتبلور أيضاً في تقاسمٍ محتملٍ لمحافظة دير الزور.

ثمة مشكلتان في هذا الأمر الواقع، تكمن أولاهما في أسباب تسليم الدول الغربية بالدور الروسي ودوافعه مع علمها أن شرطه الرئيسي إبقاء الأسد ونظامه، وترتبط الثانية بالعقل الروسي الذي لا يفهم السياسة سوى نتيجة لمعادلات عسكرية- أمنية، وبالتالي فإن أي حل يمكن التوصّل اليه لا يفضي الى سلم تحصّنه السياسة، بل يحميه تمكين الغالب من مواصلة قمع المغلوب. وللسهر على هذا القمع المستدام عمدت موسكو الى «تشريع» وجودها في سورية لخمسة عقود مقبلة.

أما الدول الغربية فعانت منذ بداية الأزمة من عدم وجود مواطئ أقدام لها في سورية ولا منافذ اليها، ومن محدودية مصالحها على الأرض. لذلك راوحت مواقفها بين الإقلاع عن مهادنة نظام بشار الأسد لإعادة إشهار رفضها المزمن لاستبداده وعنفه، وبين تأييد تلقائي للانتفاضة الشعبية السلميّة ثم تأييد متقطّع وملتبس لـ «الجيش السوري الحرّ» في بواكير عملياته. وخلال مراحل لاحقة، بعد 2014، واجهت هذه الدول كبرى موجات اللجوء ثم ظهور «الدواعش» وارتكابهم عمليات قتل في عواصمها بالتزامن مع بدايات التدخّل الروسي، فباتت هذه الدول مؤيّدة ضمنياً لأي حل يجنبها التداعيات السيئة للأزمة حتى لو كان الثمن أن يبقى الأسد ونظامه، وهو ما كان الروس يصرّون عليه بحجة «الحؤول دون انهيار الدولة».

قبل ذلك كانت فرنسا وبريطانيا وألمانيا تبيّنت أن الولايات المتحدة لم تؤيّد يوماً إسقاط نظام الأسد عسكرياً، عندما كان ذلك متاحاً، وعُزي موقفها هذا الى أسباب عدة: عدم وجود بديل جاهز لدى المعارضة، وخطورة «البديل الإسلامي» بالنظر الى التركيبة الديموغرافية المعقّدة، وضرورة تجنّب تكرار الفوضى العراقية بعد إسقاط نظام صدّام حسين وما انتجته من ظواهر إرهابية، ومراعاة إسرائيل بأخذ متطلّبات أمنها في الاعتبار وكذلك تعايشها السلمي الطويل مع النظام… لكن سياسة «التفاهمات» الظرفية مع روسيا لم تتمكّن من انتاج حلول للأزمة، على رغم «توافق» ظاهري على «بيان جنيف» (2012) الذي أرّخ للحظة التي بات فيها النظام غير قادر على استعادة زمام المبادرة، حتى مع تغاضي إدارة باراك أوباما عن توسّع التدخّل الإيراني، ثم قبولها في ما بعد بالتدخل الروسي وتأييدها الضمني لحسمه العسكري لمصلحة النظام. ويمكن القول إن إدارة أوباما كانت مهّدت للمهمة الروسية بوضع سلسلة طويلة من القيود والشروط التي ساهمت في تعقيد الأزمة وضرب طموحات الشعب السوري، إذ أدّت سياستها المتقلّبة الى نتيجتين: من جهة إفشال كل المحاولات لتوحيد المعارضة أو لجمع وحدات «الجيش السوري الحرّ» تحت قيادة واحدة، ومن جهة أخرى تغطية خطط النظام وإيران لاستشراء الإرهاب وانتشار «داعش» في استهداف مركّز لـ «الجيش السوري الحرّ» بدل مساعدة هذا الجيش على البقاء والصمود لمنع «أسلمته» ولتمكينه من دعم أي «انتقال سياسي».

وأما بالنسبة الى الاعتماد على روسيا لإنهاء الصراع وإعادة سورية الى وضع طبيعي فإن المشكلة فيه تكمن في نقطة الانطلاق نفسها، إذ إن روسيا لم تجد يوماً في سلوك نظام الأسد ما يستوجب الإدانة أو المحاسبة، وبعدما أصبح تدخّلها على الأرض شاركت النظام وإيران ارتكاب جرائم الحرب بل تجاوزتهما. وكما أدّعت في مجلس الأمن أنها تنفّذ القانون الدولي، بطريقتها التي يتيحها لها «الفيتو»، فإنها بررت كل مخالفاتها للقانون الدولي على الأرض السورية بـ «شرعية» تدخّلها المستمدة من «شرعية نظام الأسد». وأصبح في الإمكان القول الآن أن موافقة روسيا على «بيان جنيف 1» كانت مراوغة لمنح النظام وقتاً لتحسين وضعه الميداني، وأن إجهاضها عام 2013 مناورة «الخط الأحمر» الأوبامي بسبب استخدام السلاح الكيماوي شكّل في ما بعد أساساً للدفاع عن الجرائم الكيماوية و «شرعنتها»، وحتى موافقتها على القرار 2254 بعدما صيغ بعنايتها ووفقاً لشروطها كانت مجرد خدعة لتمرير جريمة تدمير حلب، ولم تكن أبداً للسعي الى حل سياسي بين طرفين أحدهما النظام وهو حليفٌ تحوّل الى بيدق في لعبتها الدولية والآخر معارضة لم تعترف بها يوماً بل اصطنعت لنفسها معارضات هي الأخرى أدوات ودمى في تصرّفها.

أي حل سياسي يمكن توقّعه من روسيا التي لم تغيّر شيئاً من مواقفها وأفكارها وأهدافها طوال أعوام الأزمة؟ لقد حرصت أخيراً على إبلاغ مختلف العواصم أن موقف الولايات المتحدة من الأسد بدأ يتغيّر. وقبل ذلك حصلت على موقف مختلف من الرئيس الفرنسي الجديد، وباشرت باريس تأهيل سفارتها في دمشق استعداداً للعودة. أما بريطانيا وألمانيا فكانتا على الدوام مستعدتين للتكيّف مع وجود الأسد. ويبقى الأهم أن قمة فلاديمير بوتين – دونالد ترامب في هامبورغ أرست أساساً لـ «تعاون» في سورية حتى لو بقيت الخلافات الأميركية – الروسية حادة في الملفات الأخرى. وهكذا لم تجد الدول الأخرى، ولا سيما الداعمة للمعارضة، خياراً آخر غير التعامل مع ما أصبح واقعاً. فروسيا لن تنقذ النظام لتتخلّص من رئيسه الذي تحتاج الى توقيعه على املاءاتها، وإذ لم يتوقف بوتين أبداً عن الترويج لبقاء الأسد فإنه بالتالي لا يتصوّر حلاً سياسياً لا يكون متمحوراً حول الأسد.

لم تمتلك أي دولة أخرى، ولا حتى إيران، إمكان التأثير في الأزمة السورية وتغيير وجهتها كما فعلت روسيا وتفعل. فهي توشك أن تغطّي المناطق كافةً بـ «اتفاقات خفض التصعيد» متعاونةً مع تركيا وإيران ومصر، وفيما يعمل المبعوث الأممي ستافان دي ميستورا في خدمة مخططاتها فإنها تتحيّن الفرص لإعطاء دفع لمفاوضات جنيف حينما تحصل على وفد مفاوض معارض وفقاً لمعاييرها. ومع ذلك فإن الوقائع أظهرت حاجة روسيا الى دعم أميركا لتقلّص احتمالات التخريب عليها، وإلى استقطاب دول اخرى لعلمها بأنها تساند نظاماً واقعاً تحت عقوبات دولية ومهدّداً بالملاحقة القضائية يلزم الكثير لإعادة تأهيله دولياً ويمكن استخدام عقود إعادة الإعمار لتنظيف سجله الإجرامي وشراء سمعة جديدة له.

أسئلة كثيرة تُطرح هنا في شأن الدول التي تبدّل مواقفها. فهي لا تفعل ذلك براغماتياً ولا مجّاناً، وطالما أنها لم تكن/ أو لم تشأ أن تكون قادرة على التأثير في تطوّرات الصراع العسكري فهل أنها استطاعت تحسين شروط الحل السياسي عندما سلّمت ببقاء الأسد، وهل أن روسيا مستعدّة لتوفير «ضمانات» أو تعهّدات مسبقة في شأن هذا الحل، أم أنها تترك الأمر لمساومات ستكون متأخرة وغير مجدية. ففي الشؤون الاستراتيجية مثلاً ليس هناك ما يشير الى أن «وحدة سورية» ركيزة أساسية لـ «الحل الروسي»، ولا ما يشير الى أن الدول التي فوّضت روسيا اشترطت ذلك. وليس واضحاً اذا كانت أميركا حريصة فعلاً وقادرة على إلزام الروس بتحجيم الوجود الإيراني أو حظر تداخل الميليشيات الإيرانية بين سورية والعراق. أما بالنسبة الى الشروط الضرورية لأي حل سياسي فإن مبادرات روسية مبكرة لمعالجة ملفَي المعتقلين والمهجّرين أو لتسهيل وصول مساعدات الى مناطق محتاجة يمكن أن تكون لها مساهمة حيوية، وأن تضفي شيئاً من الصدقية على النيات والأهداف الروسية، فلماذا تهتمّ موسكو بدسّ هذا المفاوض أو ذاك في وفد المعارضة ولا تهتمّ بهذه المتطلبات الانسانية، إلا اذا كانت تريد إخضاعها للتفاوض لمقايضة المعتقلين والمهجّرين بتنازلات سياسية؟

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى