صفحات الثقافة

تطويع المخيلة الجمعيّة للسوريين/ حازم صاغية

 

لم تعرف “سوريا الأسد” أندريه جدانوف، ولم تطور للآداب والفنون “واقعية اشتراكية” كتلك التي أنشأها سوفياتيو العهد الستاليني. فالسياسة الثقافية للبعث فقيرة فقر البعث نفسه، وأغلب الظن أن عناوين عامة وخطابية عن العروبة والوحدة وفلسطين، مقرونةً بمديحٍ للطوطم الفرد يواصل تاريخ المدائح في التراث الشعري العربي، كانت كافيةً لتشكل المعيار الذي بموجبه يجري الفرز: أي التقريب، امتيازاتٍ وحظواتٍ، والتبعيد، عزلاً واستبعاداً.

لكنْ حين وصل حزب البعث إلى السلطة في 1963، كان “الشقيق الأصغر”، لبنان، يعيش المحاولة الشهابية التي ساورها بناء وطن ودولة، ومن ثم تطويع النشاط الثقافي للمهمة هذه. وليس سراً أن الأخوين الرحباني، ومعهما فيروز، كانوا بمثابة الفصيل المتقدم على الجبهة الثقافية للشهابية. وما دام أن المحاولة الشهابية اتسعت لـ “علاقات حسن الجوار” مع “الأخوة العرب”، لا سيما “الشقيق الأقرب”، بدا الغناء لسوريا هامشاً متاحاً على متن الغناء للبنان. وفي الحساب الأخير، وعملاً بمبدأ الربح التجاري، لم يحل غناء لبنان دون الغناء للأردن ولمكة أيضاً، وطبعاً لفلسطين.

غير أن قصة الحب مع سوريا أطول فصولاً وأعقد. فهنا، فضلاً عن إفراط فيروز في التغني بدمشق والنرجسية التي يدغدغها ذاك التغني، وجدت الطبقات المدينية الوسطى والعليا في الغناء الفيروزي ما يُشبع الحاجة إلى “حداثة” تنجي من الغناء التقليدي العربي، المصري منه والحلبي والبغدادي، كما توحي ببعض الشبه المرغوب بالأغنية الغربية القصيرة والقليلة التكرار. بيد أن الغناء الفيروزي، إذ يفعل ذلك، لا يخون التماهي التقليدي الذي أقامته تلك الطبقات مع العربية والعروبة. فمثل هذا الافتخار بلساننا و”أصالتنا” لبتْه الكلمات الفصيحة، الموزونة والمقفاة، وما تستعيده من صور عن “بستان هشام” و”السيف” و”الأمويين” والتاريخ الذي هو من “فُضلة” الأهل.

وربما جاز لنا، هنا، أن نقيم شيئاً من التوازي بين الأثر الرحباني والأثر الذي تخلفه قصائد نزار قباني في مُتلقيها. فالأخير تمرد على شعر السابقين عليه ووسع القصيدة لشؤون الحياة اليومية فدمقرطَها وشرعها على أعداد أكبر من البشر وعلى ممارسات حياتية أكبر أيضاً. إلا أن قباني، الدمشقي، وصاحب “خبز وحشيش وقمر” التي أغاظت رجال الدين ومؤسسات التقليد، لم يكن قليل الاعتداد بدمشقيته وبلون “حضاري” من العروبة طالما استهوى الطبقات المدينية الوسطى والعليا، فضلاً عن استدراجه صور الأندلس و”بني أُمية” ذوي “الرايات المعقودة والجياد الموصولة بجياد”.

وفي المعنى هذا، عثر النظام البعثي في الأغنية الرحبانية الفيروزية على ضالة وهدف. فهي حين لا ترحل سامعها إلى القرية اللبنانية أو إلى الطبيعة، وهما مفارِقتان متعاليتان على صراعات الأرض، فإنما ترحله إلى “أمجاد” لا تستطيع أن تدعيها “الرجعية” الغارقة في التقليد، والتي أسقطها العسكر البعثي في 1963.

صحيحٌ أن فيروز لم تغن البعث أو اشتراكيته أو قادته وزعماءه، وهو ما يتعدى ضفاف الممكن الرحباني، لكنها غنت عرب الامبراطورية الذين قال حزب البعث إن علة وجوده هي بعثه لهم. وكمثل أي فعل قومي يُموهُ الواقع بتجميل قهره وقسوته، صارت دمشق، في عرف الأغنية التي تمنحها الإذاعة السورية صدارتها، “ذا السيف” و”المجد لم يغب”.

فإذا كان يلزمنا الكثير من التعسف وكي الوعي كي نقبل أن القرية اللبنانية وادعة ومنسجمة، فأي تعسف وكي للضمير نحتاجه كي نقر بأن دمشق البعث، أي الزنازين وأقبية المخابرات وتحكيم القلة بأعناق الكثرة، هي حيث “لا غُصُنٌ إلا شجٍ أو مُستهام”؟، أو أن الواقع الذي ما لبث أن انهار انهياره المريع في 1967 هو الذي يهب “إلى هندٍ وأندلسٍ”؟

وقد لا يكون عديم الدلالة أن صاحب القصائد المغناة للشام (ولمكة وفلسطين…) ليس سوى سعيد عقل المشبع بلبنانية خرافية تُضعف صوفيتُها المطلقة ما يمكن أن يكون صادقاً في خرافياته العربية. والحال أنه هو نفسه لم يحتمل الذهاب بعيداً في خرافيته السورية الشديدة الافتعال والصنعة، فاستدرك كما لو كان يكفر عن ذنب، معلناً مسك ختامه وفصل مقاله:

“أنا حسبي أنني من جبلٍ

هو بين الله والأرض كلام”

وبتوسل للأغنية الرحبانية الفيروزية ولكلمات سعيد عقل، تشاركَ في قمع المخيلة الجمعية للسوريين، قدرٌ مركب من دجل إيديولوجي يحيل إلى التاريخ المزعوم والمجد والطبيعة، ودجل بسيط يعرف صاحبه أن الكلمات مرصودة للبيع أكثر كثيراً من استهدافها المعاني.

بيد أن هذه المحاولة في السيطرة على المخيلة الجمعية للسوريين، وتطبيعها مع الحكم البعثي، لم تقتصر على الأغنية الرحبانية. فقد تزامن تفرد حافظ الأسد بالسلطة البعثية في 1970 مع صعود ما عُرف بـ “شعراء الأرض المحتلة” ممن بدأت أعمالهم تُنشر في بيروت والقاهرة بعد هزيمة 1967.

وكان بعض ما أثمره ذاك الصعود تربع محمود درويش، أبرز “شعراء الأرض المحتلة” الشبان عهد ذاك، على عرش الذائقة الفنية للنخبة السورية. فدرويش إذ يحدث الشعر الوطني الفلسطيني الأقدم عهداً لابراهيم طوقان وهارون هاشم الرشيد، فإنه يغاير الخطابية التي اتسم بها معظم الشعر الوطني السوري ما بين عمر أبو ريشة وممدوح عدوان مروراً بسليمان العيسى.

وهذا، بدوره، لاح قابلاً للاستخدام بوصفه بعضاً من أثاث البيت الإيديولوجي للبعث، حيث تُلصق نُتف من هنا بنُتف من هناك. والراهن أن التوجه المذكور بدا قابلاً للتوظيف الدائم في وجهتين متكاملتين:

فأولاً، هناك الاستعاضة بالقول العاطفي والوجداني، فضلاً عن الحماسي، عن الانخراط الفعلي في الصراع مع إسرائيل. هكذا أبدى نظام الأسد سخاء ملحوظاً مع أدبيات القضية الفلسطينية خصوصاً، وعموماً مع نتاجات المنظومة “التقدمية” العربية التي سمنها العداء “للإمبريالية والصهيونية”. فلم يكن قليل الدلالة أن أعمال الكتاب والأدباء المحسوبين على هذا التيار كانت تُوزع أو تُطبع في دمشق، كما درجت الندوات والمناسبات الثقافية المعقودة تحت صورة الأسد على استضافتهم والاحتفال بهم. وفي وقت لاحق رد سميح القاسم، الشاعر الثاني بين “شعراء الأرض المحتلة”، على تحية الطاغية بأحسن منها، فرثاهُ مُحتجاً على موت “أسد العروبة” فيما “على التخوم فرنجةٌ ومغول”!

والوجهة الأخرى أن الصلة العاطفية التي أقامتها النخبة السورية مع شعر درويش تتجانس مع “النهج” الحاكم لعهد الأسد، حيث رُحلت السياسة إلى الصراع مع إسرائيل وإلى “فلسطين” التي باسم قضيتها أُفرغت سوريا من السياسة إفراغاً تاماً. ويُلاحَظ، من دون مبالغة، أن درويش والتعاطي معه كانا مصغراً عن “فلسطين” والتعاطي معها، الأمر الذي تشارك فيه الحاكم السوري المخدر والمحكوم السوري الخاضع للتخدير.

وكمثل فيروز والأخوين الرحباني، لم يتورط محمود درويش في مديح الطاغية السوري. ومع أن سجله في ما خص صدام حسين لا يوحي بأية حساسية خاصة حيال الاستبداد العربي، فإنه بالطبع لم يُستشَر في إفادة النظام الأسدي من الإقبال النخبوي على شعره والآثار والصور التي يخلفها إقبال كهذا. لكنْ مثلما عملت فيروز وسعيد عقل والرحبانيان على ترحيل السوريين إلى الأمجاد المتوهمة والطبيعة المتعالية، عمل درويش، أو عُمل، على ترحيلهم إلى فلسطين، أي إلى حيث يريد لهم النظام أن يرحلوا. فـ “سوريا البعث”، كما وصفها عقل وكما تجنب درويش وصفها، قاعدة للطوبى. والطوبى، بما هي الكمال أو ما هو فوقه، لا حاجة بها إلى السياسة، فيما العاملون على إقحامها بالسياسة وإقحام السياسة بها مخربون يوهنون نفسية الأمة.

لكن النظام إياه، وعبر أدواته الإعلامية والثقافية، كان قد تورط في حياة محمود درويش وخياراته، وذلك بمعنى الاستحواذ والتمثيل اللذين عامل بهما الشأن الفلسطيني على عمومه. فحين قرر الشاعر الراحل الانتقال للعيش في حيفا، بدا أنه فقد الأهلية المطلوبة لخدمة النظام المذكور ومزاعمه الجذرية.

قبل ذلك، كثيراً ما زار درويش دمشق وحلب وأقيمت له أمسيات شعرية فيهما باركها أقطاب النظام باحتلالهم صفوف كراسيها الأولى، كما تردد أن الأسد عرض عليه الجنسية السورية والإقامة في دمشق. ولئن لم تمنع الحرب على عرفات تسمية درويش للطوطم السوري “قائد الأمل العربي”، فهذا ما لم يحل، بين فينة وأخرى، دون تشنجٍ حيال “قائد الأمل” وحاشيته تنحصر أسبابه في العلاقة الأسدية العرفاتية ومضاعفاتها.

وبدورها ذهبت العائلة الرحبانية أبعد. فوفقاً لرواية النجل زياد الرحباني، اتسع منزل الأسرة، في إحدى سهرات 1976، لأمنيين وعسكريين سوريين، من عيار علي دوبا وعلي المدني، كانوا يحتفلون، بالعربدة المعهودة فيهم، بسقوط مخيم تل الزعتر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى