صفحات الثقافة

تظاهرات المصالحة

 


عبده وازن

كان المثقفون السوريون يعترضون عندما يسمعون اللبنانيين يتحدثون عن هيمنة السوريين على لبنان أو «احتلالهم» إياه. كان أولئك المثقفون يرددون على مسامعنا أن على اللبنانيين أن يميزوا بين النظام السوري والشعب السوري، فالنظام هو الذي يسيطر على لبنان أو «يحتله» إن جاز القول وليس الشعب السوري. وكان بعض هؤلاء المثقفين يقول من غير خشية إن النظام السوري يهيمن أيضاً على شعبه و «يحتل» بلاده. وكان هؤلاء يتألمون كثيراً لخضوع لبنان لهذه الهيمنة التي يعلمون جيداً ماذا تعني.

تذكرت هذه المسألة الشائكة عندما اندلعت حركات الاحتجاج في سورية وعمّت التظاهرات شوارع مدنها وارتفعت الأصوات منادية بالحرية والإصلاح، بجرأة لم تكن مألوفة سابقاً. شعر معظم اللبنانيين أنهم معنيون بما يحصل في سورية، سواء كانوا من مؤيدي النظام أم من مؤيدي المعارضة وحركة الاحتجاج. وهذا الانقسام في لبنان شأن داخلي مثلما هو خارجي أو إقليمي بالأحرى. ومؤيدو النظام سيظلون أوفياء له حتى اللحظة الأخيرة، مثلما أن مؤيدي المعارضة سيظلون على حماستهم حتى اللحظة الأخيرة، أياً تكن تلك اللحظة. قلّة قليلة من اللبنانيين لجأت الى «الشماتة» وفي ظنها أنها تبادل قلّة من السوريين «شماتتهم» التي ظهرت خلال الحرب اللبنانية الطويلة.

لكن هاتين القلّتين، هنا وهناك، تعبّران عن حال السوء التي اعترت العلاقة بين الشعبين وهي كانت أصلاً في الحقبات الماضية، علاقة ودّ ومؤازرة ونضال وقرابة… لكن السياسة الرسمية التي سادت ساهمت كثيراً في تعميم حال من الكراهية وسوء الفهم بين البلدين والشعبين، على رغم الأصوات التي ارتفعت في البلدين داعية الى ردم هذه الهوة الطارئة والمشينة.

الآن يشعر الكثيرون من اللبنانيين بأنهم سوريون كما لم يكونوا يوماً، حماستهم للشعب السوري لا حدّ لها ومناصرتهم له تشبه مناصرة الأهل والأقارب، يعيشون هذه اللحظة التاريخية وكأنهم هناك، في الشوارع والأزقة، يتظاهرون ويهتفون مواجهين الرصاص والهراوات والعصي. لكن لبنانيين كثيرين أيضاً يشعرون بأنهم من أتباع النظام وجنوده ويتمنون لو أنهم يلتحقون بصفوف الأمن أو الجيش ليدافعوا عن النظام الذي يعدّونه رمز التصدّي والصمود، في وجه إسرائيل وحلفائها الغربيين.

اللافت أن الأقلام اللبنانية المعارضة للهيمنة السورية السابقة التي لا تزال قائمة بنظرهم، كسرت جدار الخوف وراحت تكتب بحرية، على غرار الأقلام السورية المعارضة التي باتت تكتب الآن جهاراً ضد النظام وآليته، منتصرة للثورة الشعبية وحركة الاحتجاج، بلا خوف ولا تردد. يقرأ اللبنانيون اليوم مقالات ما كانوا ليقرأوها سابقاً، أيام الهيمنة السورية، إلا نادراً ونادراً جداً. ومثلهم يقرأ السوريون اليوم مقالات ما كانوا يظنون أنهم سيقرأونها، وبعض الذين يكتبونها يقيم في الداخل. ما عاد الكتّاب السوريون المعارضون يهابون السجون وآلات التعذيب والإقصاء… وما نقرأه لهم لا يقلّ جرأة وصراحة عمّا يكتبه رفاقهم وإخوتهم في منافيهم. أما الكتاب اللبنانيون «المعارضون» فيكتبون مقالات جريئة جداً ما كانوا يتصوّرون أنهم سيكتبونها في مثل هذه اللحظة التاريخية التي تحياها المعارضة السورية ويحيونها هم ولو عن بعد.

لكن النظام السوري لم يتوانَ عن تعبئة كتّابه وصحافييه، سواء كانوا سوريين أم لبنانيين، مفسحاً لهم المجال إعلامياً للرد على زملائهم «المناوئين»، عبر الصحافة والشاشات السورية. وقبل أيام أطل الكاتب اللبناني رفيق نصرالله في الفضائية السورية وراح يتحدث طوال ثلاث ساعات عن سورية والنظام السوري والإنجازات التي حققها وعن ثقافة الصمود والتصدي، وبدا أشد حماسة للنظام من أهل النظام. وفي الليلة التي أطل فيها كانت شاشات عربية تعرض الشريط المأسوي الذي وزّعته منظمة العفو الدولية وفيه يطلّ الفتى الصغير الذي قتل في إحدى التظاهرات وتمّ «التنكيل» بجثمانه، علاوة على الرجل الأعزل الذي انهال عليه رجال الشرطة والبلطجية ضرباً مبرحاً ودوساً على مرأى من قريبات له رحن يصرخن ويولولن. لا أعلم إن كان رفيق نصرالله شاهد هذه اللقطات التي لا يمكن «تركيبها» أو اصطناعها من شّدة قوّتها المأسوية. ورفيق نصرالله ليس الشاعر اللبناني الوحيد الذي يكيل المديح للنظام السوري، ففي الأعوام الأخيرة برز «فريق» من الشعراء اللبنانيين الذين لم ينثنوا عن كيل المدائح للرئيس الراحل حافظ الأسد وسواه، وفي مقدمهم جوزف حرب الذي منحه الرئيس بشار الأسد وساماً يحلم به عادة الشعراء السوريون «الرسميون». ولا يسعني هنا إلا أن أتذكر الشاعر سعيد عقل الذي كتب أجمل القصائد في سورية ودمشق وكيف طلب منه العماد مصطفى طلاس أكثر من مرة أن يزوره في بيته فكان يرفض بإصرار قائلاً إنه لن يستقبله إلا عندما ينسحب الجيش السوري من لبنان.

سألت مرة الكاتب السوري وليد إخلاصي في جلسة: متى يتصالح الشعبان، اللبناني والسوري، بعضهما مع بعض؟ أجابني بحسرة: سيتطلب الأمر أعواماً، فالشرخ الذي وقع بينهما أعمق مما نتصور. ترى هل ستتمكن ثورة الشارع السوري من التعجيل في المصالحة بين هذين الشعبين اللذين يحتاجان فعلاً الى المصالحة الحقيقية التي تسقط كل الحواجز التي تفصل بينهما؟

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى