صفحات سوريةماهر الجنيدي

تعالوا نتخيّل هذا السيناريو لسوريّة


ماهر الجنيدي *

تختلف الصور المستقبلية التي يرسمها المحللون والكتاب لسورية، باختلاف عوامل عدة تحكمها الرؤية السياسية لراسم الصورة، أو قراءاته لموازين القوى السياسية والاقتصادية وربما الطائفية والتسليحية على الأرض، أو حتى آماله وأمنياته. وتتوافر في هذا الإطار سيناريوات وصور عدة ترسم ملامح سورية في حال سقوط النظام. فيرسمها البعض بألوان وردية، ويرسمها البعض الآخر بألوان قاتمة، وآخرون بتدرجات الرمادي.

في المقابل، لم أعثر على رسم واحد لصورة الأوضاع داخل سورية في ما لو تسنّى لنظام الحكم إخماد الانتفاضة ووأدها، بالطريقة التي نجح فيها الراحل حافظ الأسد في الثمانينات من القرن الماضي، من حيث القضاء بدءاً على الحركة المسلحة لطليعة الإخوان المسلمين، ومن ثم إخضاع المعارضة غير المسلحة، بل ووأد كل مظاهر المجتمع المدني.

لست هنا في معرض التكهّن باحتمالات نجاح الانتفاضة أو نجاح النظام، وهما الخياران الوحيدان اللذان يلوحان حتى الآن من دون ثالث، تسووياً كان أم ترقيعياً. لكن ما أريد عرضه هنا هو صورة لسورية الداخل، في حال استتب الوضع للقيادة، بتركيبتها الحالية، وعلى النحو الذي تأمله، بعد أن اختارت الأسلوب الأمني منهجاً لها في التصدي للتظاهرات.

لقد بينت الأحداث أن القيادة السورية متماسكة إلى درجة كبيرة، وأن إطاحتها ستتطيح كامل تركيبة النظام، الأمر الذي لم تشهده مصر ولا تونس من قبلها، وهما البلَدان اللذان استمر فيهما جزء من النظام كعمود فقري في الدولة. كما بينتْ الأحداث أن الحديث عن وجود أجنحة متناقضة في التركيبة الحالية للقيادة هو مجرّد أمنيات، أو إسقاطات لحالات أخرى، على الواقع السوري. فالجناحان اللذان تراءيا لبعض المتابعين كجناحين متعارضين، ليسا سوى خليّتي أزمة لنظام واحد، تتخذ إحداهما من فاروق الشرع وبثينة شعبان واجهة إعلامية لها، وتتخذ الأخرى من الجيش وأجهزة الأمن والشبيحة واجهةً ميدانية. لذا، فاستتباب الأمر لأي من خليّتي الأزمة، هو في المطلق استتباب للأخرى.

تبدو الصورة الحالية سوريالية في التظاهرات السورية، إذ يهتف معظم السوريين المنظمين في حزب البعث لإسقاط النظام، في مدن مثل درعا وحمص وحماه واللاذقية وبانياس ودير الزور وغيرها من المناطق المشتعلة، فيما يتعرض هؤلاء «البعثيون» وغيرهم من المنتفضين لقمع أجهزة النظام الثلاثة، الجيش والأمن والشبيحة، والمسلحة تسليحاً متنوعاً ومتفاوتاً. ويضطلع الشبيحة بدور أساس في قمع التظاهرات، والاعتداء عن قرب على المتظاهرين.

وإذا كان قوام الشبيحة في مدن «هادئة» مثل طرطوس وصافيتا يتألف من بعض «نشطاء» القوميين السوريين وغيرهم من البعثيين المنتمين إلى طوائف وأديان متعددة؛ فإن قوام الشبيحة في حلب «الهادئة» يتكون من فئات عشائرية تقيم قرب حلب منذ زمن طويل، تتداخل اجتماعياً مع أبناء مدينة حلب وريفها، لكنها أجرت مصالحة «تاريخية» مع النظام في الثمانينات، وطّدت لها اقتصادها «المستقل» القائم على الجريمة المنظمة، تهريباً وتشبيحاً.

تؤكد التجربة السابقة والوقائع الراهنة أن هؤلاء الشبيحة سيكونون شركاء النظام في مغانم انتصاره، إذ لن تعود الأمور في هذه المدن إطلاقاً إلى ما قبل 15 آذار، كما لم تعد في الثمانينات إلى ما قبل مجزرة مدرسة المدفعية. ففي حلب مثلاً، من المنتظر أن يفتك الشبيحة بها، فيتولى أحدهم منصب رئيس البلدية، وآخر منصب رئيس فرع من فروع الأمن، وثالث منصب أمين فرع حزب البعث العربي الاشتراكي، وهكذا… وبالتالي فالصورة التي تبدو عليها المدينة الآن لن تبقى في أية حال على ما هي عليه، بل ستتفاقم سوءاً وقتامة، حين تستبيح عشائر الشبيحة المدينة، وتصبح دورياتها المشتركة، مثلاً، من يحتك يومياً بأبناء المدينة في معاملاتهم المدينية وفي طقوسهم الدينية، بل بالتأكيد في طريقة تأبّط الزوج يد زوجته في الشارع.

كما يمكن تصور القوميين السوريين، المدججين بروحانياتهم الطازجة في الشارع السوري كلاعبين جدد فيه، وهم يؤطّرون مجتمعاتهم ومدنهم وقراهم، في محافظتي حمص وطرطوس، ضمن أطر عقائدية، تصنّف الأهالي في صنفين: موالٍ لسورية «الأسد»، وخائن لها.

وإذا استطردنا في رسم بعض ملامح الصورة القاتمة على الصعيد الثقافي، فالصورة كارثية أيضاً. لنتصور ما اصطلح على تسميته «أبواق النظام» وقد باتوا الملهم الثقافي للأمة. لنتخيّل على الأقل الدكتور بسام أبو عبدالله يفوز على الدكتور طيب تيزيني بتثبيت الكتفين، وخالد العبود يهزم ميشيل كيلو شرّ هزيمة، وشريف شحادة يفتك بالدكتور عارف دليلة، وطالب ابراهيم ينتصر على برهان غليون، ومحمد الآغا وحده يقضي بالضربة القاضية على سمير عيطة وياسين الحاج صالح ولؤي حسين معاً… ترى أية طامة كبرى ستنتظر مشهد سورية حينذاك إذا بزغ فجر الأبواق وأفلت شمس الفكر؟

قد تكون الصورة التي رسمتها أعلاه أكثر وردية بكثير من وقائع الأمور في ما لو تحقق ما تخيلته. بيد أن تخيّل سورية وقد عادت إلى ما قبل 15 آذار، ما هو إلا مضيعة للوقت، يمارسه بعض الواهمين بعودة الأمور إلى سابقها، أو الذين يتوقعون أن يساهم صمتهم في عودتها تلك، عودةً هي حتماً من رابع المستحيلات.

* صحافي سوري مقيم في الإمارات

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى