صفحات سوريةياسين الحاج صالح

تعليق على رسالة باسم خزام

 


ياسين الحاج صالح

الأخ باسم

تحية طيبة…

أرجو ألا تتوقع أن أرد على ما كتبته نقطة نقطة. لقد طرحت قضيتك وعبرت عنها بطريقتك، وسأفعل مثلك، أشرح قضيتي بطريقتي. لكني سأتناول بعض نقاط ردك بصورة مباشرة.

بداية، أنت تحملني عبئا كبيرا لا أستطيع ولا أريد أن أقوم به. لست ممثلا للمعارضة في سورية، ولا ناطقا باسمها. أنحدر شخصيا من المعارضة التقليدية، التي اعتنقت في أوقات سابقة عقائد يسارية وقومية وإسلامية. اليوم هناك معارضة جديدة، هي هذه التي تحتج وتنتفض على الأوضاع القائمة في بلادنا. أشعر نفسي على قرب من هذه المعارضة الجديدة لأن أراها متفوقة أخلاقيا ووطنيا على النظام، ولأن احتجاجها يمثل إنصافا متأخرا لقضية الحرية والديمقراطية في البلاد التي دفعت من أجلها سنوات شبابي في السجن. أو ببساطة لأنها تعلن أن قضيتنا لم تمت، ومعاناتنا لم تضع. وهذه القضية هي حرية الشعب السوري ونهوضه والمساواة بين أفراده. وما يحول دون ذلك أساسا هو هياكل سلطة قامعة، لا تعترف بمحكوميها كمواطنين متساوين في بينهم ومساوين للمتحكمين بتلك الهياكل، وتتعامل معهم بقسوة وغل. وإلى امتلاك السلطة كلها ينفرد الطاقم الحاكم في البلد باحتكار الإعلام كله المخصص كما تعلم لعبادة النظام، ويجمع إليهما في السنوات الأخيرة أكثر الثورة الوطنية. ولا ينكر هذا “النظام” حقوق أمثالنا، بل ينكر وجودهم أصلا. لم يجر التعامل معنا في أي يوم كقوى سياسية بل كمشكلة أمنية. وبعد السجن وحرمان مديد من الحقوق المدنية، لديك المنع من السفر، ومن العمل أحيانا. وحال عموم السوريين ليس أفضل.

هل لك علم بهذه الأشياء يا باسم؟ وهل حصل أن استنكرتها يوما؟ وهل طالبت بالمساواة لمواطنيك وأدنت إذلالهم وطالبت بحصانتهم؟ هذا لأنه، بصراحة، حين لا تكون دافعت عن حرية وحقوق مواطنيك في أي يوم فإن هذا ينال من صدقية انتقادك لهم اليوم.

ليس خلفي مريدين. لا بالآلاف ولا المئات. ولست عرابا لأحد. أنا مجرد كاتب. كنت واضحا دوما في هذا الشأن. لست مفكرا ولا قائدا سياسيا. وإذا كنت أتدخل، وأحيانا بكثافة في الشأن السياسي، فلأن السياسة لا تتركك في بلدنا حتى حين تتركها. ولا أستطيع في أيام مصيرية كهذه بخاصة أن أنأى بنفسي عما يجري في بلدي. أحاول التعليق عليه وشرحه واقتراح مخارج سياسية وطنية وعامة منه. إذا كنت تتابع مقالاتي وتدخلاتي في بعض وسائل الإعلام فستجد أنه لا أساس لما تقول من أني كنت داعية لإسقاط النظام منذ اليوم الأول. في اليوم والأول وفي هذا اليوم أكتب وأتكلم داعيا إلى الخروج من دائرة العنف والتفرقة بين السوريين إلى دائرة السياسة والمواطنة المتساوية للسوريين. هل هذا كثير؟

لا أحمل أي ود تجاه النظام. مع ذلك كنت ولا أزال أتمنى مخرجا سياسيا وتفاوضيا من الأزمة الوطنية الحالية. لكن السياسة التفاوض بحاجة على طرفين. والنظام يتصرف ويفكر أنه الأطراف كلها. نحن من طرح التوافق ومن يمثل التوافق في البلد، ومنذ مطلع القرن، يا باسم. وحالنا كذلك اليوم. وهناك غيرنا هو من يرفضه. احزر من؟

ولست وحيدا في هذه المواقف. هذا في تقديري هو الميل العام للانتفاضة، ولأكثر الكتاب والناشطين السياسيين والحقوقيين السوريين. لكن كلما أسر النظام البلاد في دائرة الدم والعنف غابت أصوات في الجلبة. وكلما اتجهت الأمور في البلاد إلى الانفلات من أية سيطرة، كان محتملا أن يجري الكلام على تدويلها من قبل البعض. لا تستطيع أن تنسب لأحد منا، نحن المثقفين والمعارضين السوريين، دعوة كهذه. لكن إداناتنا لأصوات هامشية توجه هذه الدعوة، بينما يجري الفتك بشعبنا، ودون أن يكلف المهولون بالتدويل أنفسهم إدانة عنف النظام بلغة صريحة، هو بمثابة رضخ لمنطق التخوين والابتزاز بالوطنية. خائن من يتعاون مع جهات خارجية ضد وطنه، وخائن بالقدر نفسه من يقتل شعبه، وقد كان هذا شعارا متواترا من شعارات الانتفاضة كما تعلم.

بلى، أنا متشكك جدا في “مبادرات النظام”.هي فارغة أصلا ولا تحتاج إلى جهد مني لتفريغها، حسب تعبيرك. نحن أولاد بلد، ولدينا شيء من التجربة والإدراك. وهما يكفيان للقول إن من يجرب المجرب عقله مخرب. مشكلتنا ليست قانونية حتى يكون حلها قانونيا (إلغاء حالة الطوارئ ومحكمة أمن الدولة)، ولا هي أمنية حتى يكون حلها أمنيا. ولا هي مطلبية ومعاشية حتى تعالج بتلبية مطالب وتحسين معاشات. هي مشكلة سياسية ووطنية وعامة، تطال نمط وهياكل ممارسة السلطة في البلد: نظام الحزب الواحد، وسلطان الأجهزة الأمنية كلية الحصانة، والحكم الأبدي، وهو ما اقترن على الدوام بإهانة عدد كبير من السوريين، ومعاملتهم باحتقار. هذا غير مقبول إنسانيا ووطنيا في رأيي، وينبغي أن يتغير. ما رأيك أنت؟

وتعرف أن الحرية والكرامة هما أبرز ما هتف من أجله قطاع متسع من شعبك. وتعرف من يستبد بالسوريين ومن يهينهم. الأمر ليس استنتاجا. أنت على علم بالشعار المضاد لشعار: الله، سورية، حرية وبس!

لم تسمع مني شجبا للعنف الذي تعرض له الجيش والقوى الأمنية؟ الواقع أني متشكك كثيرا في الرواية الرسمية. لكني قلت مرارا وتكرارا إن العنف والطائفية محرمان وطنيان. هل توافق على ذلك؟ ودون تمييز بين “نحن” و”هم”؟ وكتبت على صفحتي على الفيسبوك التي يبدو أنك تتابعها جيدا أنه إذا ثبت أن هناك عنفا مارسه محتجون فينبغي أن يدان دون غمغمة أو تردد. العنف ليس ملعبنا (أنت تعرف هو ملعب من)، والطائفية ليست لعبتنا.

أكتب لك هذه السطور وأنا غير آمن على نفسي ولا أستطيع قول كل ما في قلبي. لقد تركت بيتي منذ أسابيع كي أستطيع الكتابة والتكلم بحرية نسبية. لا أريد أن أدوّر الزوايا بينما سورية في أزمة وطنية كبرى. حرصت مع ذلك على أن أتكلم واكتب بلغة تحليلية وليس بلغة تحريضية.

ولا ينبغي أن يفاجئك، في مثل هذه الظروف، أني لا أشاركك هذا النوع من العدالة الذي يضع نفسه بين نظام لم ينتقده يوما وبين معارضة مسحوقة لم يتعاطف معها يوما. بل بين نظام هو من الأشد قسوة في العالم كله، ومحكومين فاض كيلهم، فصار كثيرون، يؤسفني أنك منهم، يتصيدون زلات حقيقة أو متخيلة في احتجاجاتهم العادلة. أنا منحاز للشعب السوري، لكل الشعب السوري، وليس لجزء منه، ولا لمضطهديه بالطبع. ولن تجد في ما أكتبه منذ 10 سنوات ونيف، وفي سيرتي الشخصية، ما ينقض هذا الزعم. ولقد تقبلتُ منحك لنفسك حق امتحان وطنيتي وتقريعي على مواقفي، لأن الأمر يتعلق بقضية وطنية عامة، لا بشأن خاص كان يمكن أن أتصرف بصدده بطريقة مغايرة.

القتلة الذين وصفهم صديقي الذي اقتبست عبارته، فارس البحرة، ليسوا بالقطع فئة أو طائفة. ولا هم عصابة أيضا. هم للأسف الجهات المخولة بضمان أمن السوريين، والتي هي مصنع إنتاج الخوف في البلاد كما تعلم. هل يعقل أنك لا تعلم؟

وأرى عموما أن تصفي قلبك تجاه مواطنيك، وتثق بهم، دون أن تتخلى عن حقك في نقدهم والتحفظ على أفكارهم ومواقفهم. نحن إخوتك مواطنيك، وعليك أن تتدرب على تقمصنا ووضع نفسك في مواضعنا، والشعور بما نشعر به. نطالبك فقط بأن لا ترضى لنا ما لا ترضاه لنفسك.

دمت بسلام، والحرية لسورية والشعب السوري.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى