صفحات الرأيمازن كم الماز

تعليق على مقال حازم صاغية (الجهاديون الإرهابيون في أوروبا)/ مازن كم الماز

 

 

يقول كاتب المقال أن العنف الداعشي هو امتداد للعنف الفوضوي أو العدمي في أواخر القرن التاسع عشر و أوائل القرن العشرين , أعتقد أن هذا حكم متعجل و غير دقيق .. من المغري طبعا تشبيه العنف بالعنف , و الأكثر إغراءا استخدام أوصاف مثل فوضوية و عدمية لوصم معارضين أو خصوم أو لتبسيط ظاهرة معقدة , تماما مثل الإغراء الذي دفع البعض لإطلاق مثل تلك الأوصاف في الأصل .. لكن إذا استثنينا استخدام العنف كوسيلة فإنه لا يوجد ما يربط داعش بالفوضوية أو العدمية..

أولا و قد يكون هذا هو الأهم , لم يمارس الفوضويون و لا العدميون العنف أبدا ضد “المدنيين” أو الناس العاديين كما قال كاتب المقال إلا في حالات نادرة جدا استفزت جدلا حادا بين الأناركيين أنفسهم .. حتى أن التاريخ سجل لنا أن العدميين الروس قد أجلوا تنفيذ إحدى محاولاتهم لاغتيال القيصر عندما سمعوا أصوات أطفال تأتي من عربة الطاغية الروسي.. بالفعل استهدف الفوضويون (الذين سأسميهم بعد الآن بالأناركيين لأنه لفظ أكثر حيادية و لا يتضمن أحكاما مسبقة , بل مجرد ترجمة حرفية للكلمة الأجنبية مثل الليبرالية و نيوليبرالية و فاشية و نازية) , و قبلهم العدميون الروس , الكثير من الملوك و الرؤوساء و الجنرالات منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين , لكنهم لم يقتلوا مدنيا , أو شخصا عاديا , خلافا لعنف داعش و أخواتها..

و يمكن أن نقول نفس الشيء عن أنه وجد تصور واحد و نهائي للجهاد في الممارسة التاريخية “للمسلمين” أو للدولة أو للدول “الإسلامية” في القرون الوسطى .. في القرون التي كانت فيها المجتمعات الإسلامية في حركية دائمة تتلاطمها الصراعات من كل نوع , سياسية و فكرية و عقائدية الخ , أنتج ذلك الحراك مفاهيم مختلفة و متناقضة عن الجهاد .. كان أبرزها رفع شعار “الجهاد” ضد “ولي الأمر” نفسه لا دفاعا عنه , ضد السلطة المركزية في الدولة الإسلامية نفسها..

لقد رفض الخوارج أي تبرير لاهوتي للملك العضوض (السلطة الفردية الوراثية) و ثاروا ضده و قتلوا في سياق ثوراتهم التي لم تتوقف لقرن و نصف من الزمان عددا من كبار الصحابة كعثمان و علي.. كما ساوى الخوارج العدالة بالمقدس ..

تقول الأساطير المتداولة في كتب التراث و التأريخ أن أسلاف الخوارج طالبوا النبي محمد نفسه بالعدل و انتقدوا قراراته (توزيع الغنائم) التي اعتبروها مخالفة لمبدأ العدل.. هذا يتناقض بشكل جذري مع ما قاله ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول و في السياسة الشرعية في إصلاح الراعي و الرعية و غير ذلك مما يشكل أساس النظرة الداعشية لفكرة الإمامة (بالنسبة للسلفيين و الدواعش , فإن كل ما فعله النبي و صحابته هو العدل بالتعريف).. مع ذلك فإن عنف الأناركيين غالبا ما جاء ردا على عنف السلطة..

اغتال الأناركي غايتانو بريشي الملك الإيطالي أومبرتو الأول انتقاما لمجزرة العمال في ميلان على يد شرطة الملك , و اغتال الأناركي الأرجنتيني سيمون رادوفيتسكي رئيس شرطة بيونس آيرس ردا على مجازر الشرطة بحق العمال المضربين .. هذا هو النموذج الأكثر تواترا للعنف الأناركي تاريخيا.. من المفارقات الغريبة هنا أن الأناركيين هم بشكل شبه مطلق أعداء ألداء للحروب و للنزعة العسكرية أو النزوع إلى عسكرة المجتمعات .. كما أن العنف السياسي ليس اختراعا عدميا أو أناركيا..

الحقيقة أن من قتل , ليس فقط من البشر العاديين أو “المدنيين” , بل أيضا من الملوك و الجنرالات و الأمراء و السلاطين و الأباطرة و الرؤوساء الخ الخ , على يد منافسيهم على السلطة ( من إخوانهم أو أقاربهم في أحيان ليست قليلة ) أكبر بكثير ممن قتل على يد الأناركيين أو العدميين أو الخوارج و أشباههم..

إن العنف في الأساس ممارسة سلطوية .. ليس فقط أن الدولة تقوم على فكرة احتكار العنف و أدواته .. إن علاقة العنف بالدولة كمؤسسة هيمنة و إكراه عنفية توجد فوق المجتمع وثيقة و قديمة ترجع إلى لحظة ظهور الاثنين في التاريخ الإنساني .. هناك فرق كبير جدا بين العنف للعنف أو العنف للبقاء كما هو في مملكة الحيوان أو المجتمعات المشاعية البدائية (الأناركية) الأولى و بين العنف كوسيلة للسيطرة والهيمنة في المجتمعات الطبقية..

يؤكد الكثيرون أن الدولة ظهرت منذ البداية لحماية الملكية الخاصة ممن لا يملكون شيئا .. الأغلب أنه لم توجد سرقة قبل أن توجد ملكية خاصة , و لا شرطة و لا جيش نظاميان ( محترفان ) في المجتمعات قبل التاريخية أو التاريخية الأولى .. حتى في صدر الإسلام احتاج الأمر لعدة عقود قبل ظهور هذه المؤسسات في الدولة الإسلامية..

لم يصبح كل شيء مباحا مع موت الإله كما قال تورغينيف و دوستويفسكي .. إن كل تاريخ البشرية , بما في ذلك شرقنا نفسه , منذ ظهور الدولة و الملكية الخاصة , يقوم على فكرة واحدة : كل شيء مباح في سبيل السلطة و المال .. لا شك أن عوامل عديدة قد غذت الظاهرة الداعشية , منها الاجتماعي و منها السياسي, لكن هذا لا يكفي بالفعل لتفسير الظاهرة الداعشية كما يقول الكاتب..

صحيح أن التعذيب الرهيب الذي تعرض له الإسلاميون مسؤول جزئيا عن ظواهر سيد قطب و شكري مصطفى, لكن هذا لا يفسر مثلا كيف خرج باكونين و ماخنو و ستالين من نفس السجون القيصرية , خرج منها الأولان أناركيين أو لا سلطويين بينما خرج الأخير ليبني ديكتاتوريته المرعبة على أشلاء خصومه و الملايين من عبيده …

كلنا شركاء

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى