صفحات الثقافةعلي جازو

تغطية الجريمة/ علي جازو

 

 

عالم اليوم هو عالم تغطية الجريمة بأخرى ثانية تدفن الأولى وتلهم الثالثة، مما يفضي إلى توسّع الجريمة وألفتها ثم التعايش معها كما لو كانت حدثاً عابراً وعادياً! يسري رعبٌ في الأوصال من هكذا حالة مزمنة وهكذا ألفة مستشرية، لكننا نحتال على الرعب بأن نقول مُدّعين إنه عابر وسينقضي يوماً ما، وإنها لحظة ضعف أو ما شابه من الأوصاف التي لا تغير شيئاً من واقع الحال.

باسم محاربة «الإرهاب» أو «التكفيريين» مثلاً، تُبرَّر حروبٌ وغزوات. مثل هذا الأمر يسري تحت ادعاء حماية «السيادة» أيضاً. لكن دولاً عدة لم تعد تشبه الدول ولا جيوشها تشبه الجيوش، فيما هي تدعي حماية الدول. تنعدم الخطوط الفاصلة بين ما هو شرعي وغير شرعي، ويسهل لذلك تخطي الحدود والموانع.

ما يحدث بين دولة وأخرى، يحدث داخل الدولة ذاتها. طالما استسهل تصنيف جماعة أو فئة، يمكن أن يشكل تعدادها الملايين داخل بعض الدول، بوصم يستحق القتل أو الاعتقال أو الإقصاء، صار من الهين القبول بالقتل والاعتقال والإقصاء.

مع حال كهذه، يبدو العالم كله محكوماً بنوعٍ من الأحكام العرفية. سيقال إن الحالة الدولية تشهد طوراً انتقالياً عسيراً، وإن الأزمات الطاحنة تفرض مخارج عملية وسريعة، صفقات هنا وتسويات هناك، وعلى هذا يكون للتبرير حجة المنطق الظاهرية ومكانته الكابحة التي تدفع أحدنا إلى القبول والقناعة.

لا يُحصر ضحايا تغطية الجريمة بالضحايا فحسب، وليس المجرمون وحدهم المجرمين. الأجدر بنا التفكير بالضحايا المقبلين أو الضحايا الذين تتكون في دواخلهم بذور الرضا عن الجرائم وتنمو وتقوى، إزاء من يستعد منذ الآن لأخذ دور القاتل أو الخاطف أو المعتقِل.

هكذا تتعدى أخطار الجرائم محطيها المباشر، وهي إذ تتحول إلى شيء يشبه قدوم الصباح، تكون قد صارت جزءاً من دوام طبيعة الحياة واستمرارها المستبد، أي أنها شيء في مقام القدر المتعالي، شيء له من القوة والخفاء والنفاذ ما يمس مستوى السحر والأسطورة.

هنا تلتقي الأوهام مع الحقائق لقاء الخرافة مع العلم، والسراب مع الدم. فعندما تتكاثر المصائب تسقط كلها. لن يفيد قولنا الناصح أحداً: «كن بحراً لا تنتن»، إذ إننا نلقي به في البحر رمزاً وحقيقة، كمن يلقي به في نفاية الأمثال والنصائح.

خارج حدود القسوة التي توزع المجرمين والضحايا خبط عشواء، يجري وضع حدود أخرى أخطر. حدود لا ترسم بالدم غير أنها تستعد للقبول به، جرائم لا مرئية غير أنها تكمن في طرق التفكير والاستعدادات الآلية لأخذ دور المجرم، فنحن إذ لا نجد حداً فاصلاً، نكون كمن يهرع إلى أي جهة ظناً منه أنه اختار الجهة الآمنة.

عندما تضيق بنا السبل وتختنق لا نكون نحن من يختار، بل من يجبر على الخنوع، وحينها لا يمكننا التمييز إن كان ردّ المخنوق والمحاصر طلقة أو انفجاراً أو محض صراخ. غير أنه ربما نسينا أن من لم يأبه بالصرخة أولاً سيتعامى عن الطلقة ولن يأبه بالانفجار لاحقاً، وفي هذا كله إنما الرعب عينه، وتغطية الجريمة بما يشبهها.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى