صفحات الناس

تغطية لعورة الخوف في وجوهنا: أقنعة الثورة غير الممسرحة/ عباس علي موسى

 

 

ربما مفردةُ القناعِ تشي أكثر ما تشي بالنِّفاق، وترتبط به في وعي القراءة الأولى للمفردة مجرّدةً عن سياقها، إذ غالباً ما نقوّلها الزورَ والزيفَ أيضاً، وهي ما تقنّعُ به المرأةُ وجهها؛ كما يرد في معاجم اللغة العربية. وترتبطُ الأقنعة في الثقافة المعاصرة بالأقنعة المسرحية؛ وهي الملامح المختلفة التي يضعها الممثل على الخشبة.

لكن، ماذا عن الأقنعة التي كان الثوّار السلميّون يضعونها في التظاهرات، في دمشق مثلاً؟! يأخذ القناعُ ثيمةً ثوريةً، كونه من أدواتها التي تشكّل مع أدوات بسيطة أخرى عُدّةَ الثائر (مكبّر الصوت، أقلام تخطيط، يافطات، أقلام، أقنعة، بخاخات …إلخ). كان ذلك في بدايات العام 2012، حين حللتُ ضيفاً على صديقي (الثائر حتى نقيّ عظامه)، عرضَ عليَّ يومها الاشتراك في تظاهرة، في حي الأكراد/ ركن الدين، وكانت تلك تجربتي الأولى في التظاهر، مدّ إليّ قناعين وخيّرني ما بين أحدهما (قناعٌ أبيض وآخر أسود)، لم يكن للألوان سمة الخير أو الشرّ، لا أتذكّر اللون الذي اخترته لكنني وضعتُ القناع في النهاية، دامت التظاهرة عشرون دقيقة، في إحدى الساحات، في عمق الحي العريق والغارق بين البيوت، كان من شأن الأقنعة تلك أن تضيّع البوصلة؛ في التعرف إلينا من قبل العيون الكثيرة المنتشرة في الحي.

حي الأكراد/ ركن الدين، هو الحيّ الذي حملَ معه أكثر ما حمل من أملٍ بالغد، حيث تعرّف السوريون إلى دلالات الكلمة «آزادي»، وكيف أنّها تعادل الحرية، بكلّ ما تحمله من دلالات من شأنها أن قوّضتْ جدران الخوف، لكنّها أظهرت الجانب المسعور من الديكتاتورية، تلك التي قرأ عنها السوريون لكنّهم لم يعايشوها، وذلك لأنها – الديكتاتورية، أحرقت دمشق من دون أن يكون ثمة نيرون في الحكاية. هكذا يغدو القناع ذا ثيمة أخرى؛ فهو يخفي الشخصية الخائفة في ذواتنا ويُظهر الجانبَ المغامر فيها، الجانبَ الذي يُجابه الخوفَ بالهُتاف، والذي تتنقل خلاله مفرداتٌ تدور كلها في فلك الحرية. كان من شأن الأقنعة أن تحمي الجانب الآخر من شخصيتك، التي تمشي كمعظمِ الناس في الشارع، ومن دون أن يرتفع أدرينالينُك أو ينخفض. يُدمن الإنسان الخوفَ ويغدو من طباعه إذا ما زاد الاستبداد المُمارَس عليه عن ثلاثين عاماً. هو القناعُ يصرخُ ويهتفُ عوضَاً عن الجميع، الذين لم يتقنّعوا، بل فضّلوا البقاء على سجيّتهم، والاحتفاظ بكمية الخوف المعتادة لأي مواطن سوري قبل الثورة.

يذكرُ صديقي أنّ صاحب المكتبة ارتعد، حينما أخبره بأنّه يريدُ كرتونة وبضعة أقلام تخطيط، لأنّ ذلك كان ليلة الخميس، حينها لم يجرؤ على بيعها، فعاقبه صديقي بقوله، وهو يمضي: إنّها لأجل التظاهرات. كم من الأدرينالين قد اندلق في جسد صاحب المكتبة العجوز!

لم يكن ليحصل هذا في حين شراء الأقنعة، لأنها لم تكن إلاّ عبارة عن أقنعة، لا يطلق عليها الناس هذا الاسم، فالنسوة الشاميات، مثلاً، يستعملنه لتوضيب شعورهنّ، وبذلك كان في إمكان أي متظاهر الحصول على قناعه الأنثوي.

الأقنعة كانت أيضاً مما يتداخل من الذكر والأنثى، في فعل التغطية لبعض العورة، فتغطية الوجه هنا عورةُ الخوف، كما هي تغطيةٌ لِعورة الشعر لدى النسوة، لذا كان من المتظاهرين من لم يغطِّ وجهه/عورته، كما لا يغطّي بعض النسوة شعورهنّ/عوراتهن.

أقنعة كثيرة مرّت في شوارع دمشق الخائفة لكثرة ما أزّ فيها الرصاصُ، أقنعة كثيرة قنصها القنّاصة ونفوسٌ أُرديتْ شهيدةً، في شوارعها الشجاعة لكثرة ما هدر فيه الصوتُ حريةً/ آزادي.

أقنعة كثيرة في إمكانك رسمها: قناعٌ لهتّافي الثورة، الذين كانوا يصرخون أعلى من مكبرات الصوت الهزيلة أمام مفرداتهم الهادرة. قناعٌ لحاملي الرايات والأعلام، يلوّحون بها، حيث ما لا يلوّحه الهواء تلوّحه أياديهم الثائرة. قناعٌ لحاملي اليافطات، الذين يحملون الكلمة مرسومةً على الكرتون كرسائلَ إلى العالم؛ حين كان السوريُّ يعوّلُ عليه خيراً. قناعٌ لحاملي اللافتات القماش مثقوبةً لعبور الهواء، يحملون عليها الحريةَ كلمةً كلمةً كحمائم طائشة من سرب مستكين. قناعٌ لحاملي الكاميرات، التي توثّق المشهد لترسله إلى الآخر الخائف، ربّما بيته إلى جانب الساحة تلك التي تنطلق الهتافات منها. قناعٌ للرجل البخّاخ، يبخُّ حمائمَ بيضاءَ بيضاءَ، في العتمة التي تطلي الجدران.. في الليل إذ يُجَنّ. قناعٌ ليبرز الوجهُ الحقيقيُّ لطلّاب الحرية ومريديها، فالأقنعة ليست زيفاً دوماً. وكأنّها القناعة بالاستلاب الحياتي للمواطن السوري، وقد شقّت عن نفسها وآثرت الخروج إلى الحياة ذاتها، كذلك كانت تقول الصورُ.

ومن مشاهد الأقنعة غير الممسرحة؛ تبادلَ متظاهران في عتمة أحد أزقة حي الأكراد/ركن الدين، أقنعتهما، القناع الأول مرسوم عليه علَمُهُ الكردي الثوري، الآخر يحملُ رسم علم الثورة السورية بنجماته الثلاث، كما يتبادل اللاعبون قمصانهم في نهاية المباراة، وكان من أحداث نهاية التظاهرات أن تنثر النسوةُ غيرَ مقنّعاتٍ الأرزَّ صوب المتظاهرين، وكان من هذه المباريات أن تُحسَمَ النتيجةُ فيها للمتظاهرين ببونط الحرية/ آزادي؛ وهي تنتشرُ في شرائط اليوتيوب الحمراء القصيرة.. وعلى شاشات التلفزيون.

بعد مضي ما يقرب من أربع سنوات، تغيّر كل شيء، صارت لغة السلاح هي الأعلى، ووسط الأزيز ضاع هديرُ المتظاهرين، وصار القنّاصة يضعون الأقنعة تلك لإطلاق جنونهم. بعد مضي ما يقرب من أربع سنوات، ثمة حنينٌ ذو شقّين إلى الماضي، الحنين الأول هو للبسطاء من الناس ممن سمعوا هتافات الحرية، لكنّهم لم يجرؤوا على الخروج والهتاف معها؛ لكنّهم لمسوا بصيص الأمل، وكانوا يرشقون الأرز إن قيّضَت لهم العتمةُ أن يعبّروا عن أملهم المختبئ في جوانحهم، وهم – بعد الصمت المريع للعالم للوقوف مع أمانيهم وكرامتهم المسلوبة ووقف نزيف الدم المستمر – صاروا يحنّون إلى الخوالي من الأيام، حين كلّ شيء يبدو هادئاً، راضياً، ساكناً، قنوعاً، وخنوعاً بكلّ شيء، الحنينُ إلى الصمت المريع، ذاك الصمت الذي لم يجرؤ على البوح به أبداً، الحنين إلى مشاهدة ثورات التاريخ عبر عدسة مقعرة؛ للذهاب بها بعيداً.

أما الحنين الآخر، فهو حنين المتظاهرين الأوائل الذين جازفوا بحياتهم، وخاضوا مغامرة حياتهم عبر قول الكلمة الفصل للسكون بأن ينتفض، حيث ملأوا الجدران بالكتابات التي تنذرُ بختام تلك المرحلة. هو حنينُ هؤلاء للعودة بالثورة إلى ثوريتها الخيّرة بعيداً عن لغة الرصاص، هو العودة بها إلى مرمى واحد – فليكن الديكتاتورُ في الطرف الآخر وليكن الرامي، ولتكن أجسادنا متصالبةً في دريئته، وليندلق الأدرينالين في أجسادنا أنّى شاء.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى