صفحات الناس

* تفاصيل مجزرة ارتكبها تنظيم «الدولة» بعد فرار الدولة

 

 

الجزء الأول: سجناء بادوش في الموصل : 940 منهم طمروا في مقابر جماعية/ أحمد الهادي

لا تغادر ذاكرته تلك الصرخات المكتومة لرفاقه السجناء المغدورين حين كانوا يتكدسون فوقه جثثاً هامدة.

هو أيضاً لا ينام، فأزيز الرصاصات التي مرّت قرب رأسه يقضّ مضجعه كل ليلة. وحتى الآن، يفزعه أن يتذكر كيف التصق به دماغ السجين الواقف على شماله بينما تناثرت عليه احشاء السجين الواقف الى يمينه.

لم يكن سعيد أنمار هو الناجي الوحيد من مجزرة تنظيم «داعش» بحق نزلاء سجن بادوش صبيحة العاشر من حزيران (يونيو) 2014. فمن تلك المجزرة ذاتها، نجا شاهدنا السجين قاسم حمزة بعد أن القى بنفسه داخل الوادي مع الجثث المتساقطة، وتحامل على جراحه بعد أن عض ساق أحد الموتى، كي لا ينتبه عناصر «داعش» الى انه ما زال حياً.

كلاهما، أنمار وحمزة، ظلا يختبئان تحت جثث الضحايا في وادي بادوش طوال الدقائق العصيبة التي استغرقها وقت تنفيذ الإعدامات، وكلاهما زحف على انفراد، ليفلت من الوادي الذي ترقد فيه الآن، جثث 500 سجين عراقي أعدمهم تنظيم «داعش» صبيحة ذلك اليوم.

عرض تنظيم «داعش» على مراحل، غالبية المجازر التي ارتكبها ضد العراقيين، بما فيها مجزرة سبايكر التي راح ضحيتها قرابة 1700 أسير أعزل في مدينة تكريت، لكنه حتى الآن لم يعرض صوراً او فيديويات عن الإبادة التي ارتكبها بحق سجناء بادوش، ولم يعترف في بياناته التي يطلقها على مواقعه في الإنترنت بأيٍّ من مجازره تجاه السجناء.

يكشف هذا التحقيق من خلال شهادات سبعة ناجين، حراس سجون وشهود عيان وذوي ضحايا سجناء ومصادر حكومية ومدنية، كيف ان أكثر من 940 سجيناً عراقياً من أصل 2700 كانوا مسجونين في بادوش ليلة سقوط الموصل بيد التنظيم، اعدموا على يده، ودفنت جثثهم في مقابر جماعية او تعرضت للتفسخ في اربعة مواقع لم يتمكن كاتب التحقيق من الوصول اليها، لأنها ما زالت تحت سيطرته.

ويكشف التحقيق ايضاً، كيف أن الجيش العراقي وحرّاس وزارتَي الداخلية والعدل انسحبوا من محيط السجن وداخله من دون أن يطلقوا رصاصة واحدة؛ تاركين السجناء الذين كانوا بعهدتهم يتكدسون في زنزاناتهم بانتظار ان يقرر مصيرهم تنظيم «داعش».

بدأت قصة سجن بادوش، كما يقول السجين الناجي رياض منصور، في الثامنة من مساء يوم 9 حزيران. «ساعتها، انتشرت إشاعات عن انسحاب القوات الأمنية المكلّفة بحماية محيط السجن وبواباته وأبراجه، ثم عرفنا لاحقاً أن ضباط وحراس السجن هربوا هم أيضاً».

يؤكد حارس السجن محمد الحيالي أن غالبية حراس السجناء تلقوا اتصالات من ذويهم يطلبون منهم ترك السجن والعودة إلى منازلهم. «بالنسبة إليّ، تلقيت اتصالاً من أخي الأكبر، قال لي فيه إن «داعش» استولت على المدينة وأن الدولة سقطت بالكامل وعلي العودة إلى المنزل فوراً».

يعترف الحيالي أنه لم يكن مستعداً للموت من اجل أحد. لهذا تسلّل الى خارج السجن رفقة بعض زملائه. ومثله فعل ايضاً الحارس أحمد عز الدين الذي يؤكد أن عدد الحراس بعد أن خرج قرابة الساعة العاشرة، لم يكن يتعدّى 15 حارساً من قرابة 100 كانوا موجودين داخل السجن قبل المساء.

يقول الناطق باسم وزارة العدل حيدر السعدي، إن حراس السجن التابعين للوزارة لم يكن باستطاعتهم حماية السجن والسجناء من الداخل، لأن القوات الأمنية التي كانت تحمي السجن من الخارج اختفت فجأة.

كان السجن محمياً قبل الحادث من قوات يناهز عددها الألف جندي ومنتسب أمني، هي مجموع منتسبي الفوج الرابع التابع للفرقة الثالثة في الجيش العراقي، وفوج طوارئ للشرطة المحلية، وسرية من الناقلات التابعة للشرطة الاتحادية، وقوة حماية من موظفي وزارة العدل وفق مسؤولي الوزارة. لهذا يعتقد السعدي أن وزارة العدل لا تتحمل مسؤولية ما حدث، وأن الأحداث حصلت نتيجة انهيار عام للقطعات الأمنية بعد سقوط الموصل بيد التنظيم. وساهمت التأثيرات النفسية لسقوط المدينة والاتصالات التي تلقاها منتسبو السجن من ذويهم في تركهم السجن والعودة إلى منازلهم».

قبل هذا، كان حراس سجن بادوش، وغالبيتهم من مدينة الموصل التي ينشط فيها تنظيم «داعش»، يتعرضون الى تهديدات بأستهدافهم وعوائلهم، وفق وزارة العدل التي أكدت أن 200 حارس قدّموا استقالات جماعية نهاية عام 2013 بعد تلقيهم تهديدات بالتصفية.

ايضاً، لم يكن سجن بادوش محصناً ضد الاختراقات وعمليات الاقتحام. ففي كانون الأول (ديسمبر) عام 2006 هرب أيمن سبعاوي، ابن الأخ غير الشقيق لرئيس النظام السابق صدام حسين، بتواطؤ مع أحد مسؤولي السجن. ثم جرت عملية الاقتحام التي نفذها تنظيم «القاعدة» بمساعدة تنظيمات من حزب البعث في ربيع عام 2007 وأسفرت عن هروب 186 سجيناً «خطيراً»، بينهم اثنان من أبناء أخوي صدام غير الشقيقين، برزان ووطبان، والناطق باسم القاعدة أبو ميسرة العراقي، و36 عنصراً عربياً في تنظيم القاعدة.

الهروب الكبير

يقول السجين الناجي أحمد السلطان، إن السجناء من أهالي الموصل عرفوا في وقت متأخر من الليل، ومن خلال الاتصال بعوائلهم، أن المدينة سقطت بيد «داعش». لكن لم يكن بوسع أحد أن يفعل شيئاً. ومع ساعات الصباح الأولى عرف السجناء أن عناصر التنظيم كانوا في طريقهم الى السجن، وهو ما جعلهم يطرقون ابواب القاعات مطالبين بإخراجهم من الزنزانات، «لكن من دون جدوى، فلم يكن هناك احد غير السجناء انفسهم».

كان الكثير من سجناء بادوش يتواصلون مع ذويهم عبر الاتصال بالهواتف النقالة، حيث لم يكن صعباً على السجناء في بادوش، أسوة بالكثير من سجون العراق، الحصول على هواتف نقالة اذا دفعوا مبالغ جيدة للحراس المتواطئين كما يقول احمد السلطان.

خلال احدى عمليات التفتيش التي نفذتها قوات امنية في آب (اغسطس) من عام 2013، صادرت الأخيرة كما اعلنت حينها، ما مجموعه 750 هاتفاً خليوياً من سجناء حصلوا عليها من طريق ضباط او حراس متواطئين بأسعار تصل الى مليون دينار عراقي (850 دولاراً).

كان سجن النساء هو اول السجون التي فتحت ابوابها. ويقول شاهد حضر الى بادوش مع ابناء عمومته لإنقاذ اخيه السجين، إن عناصر «داعش» وصلوا فجراً بسيارات عسكرية، وتبعتهم حافلات مدنية تحمل رايات التنظيم، ثم خرجت وهي محمّلة بنساء يرتدين الزي الأبيض.

من طريق وسطاء، تمكّن كاتب التحقيق من تأمين اتصال بالسجينة (س. ع) التي تعيش الآن خارج مدينة الموصل. تؤكد السجينة ان عناصر «داعش» الذين كسروا اقفال السجن نقلوا السجينات في ثلاث حافلات الى منطقة قريبة من بلدة تلكيف المسيحية، ومن هناك اطلقوا سراحهن وطلبوا من كل واحدة ان تتدبر امرها للوصول الى بيتها.

وكما تقول الشاهدة ، فإن جميع السجينات اللواتي تعرفهن، وصلن الى بيوتهن سالمات.

قرابة الساعة الثامنة، كما يتذكّر الشاهد محمد عبدالله، نجح السجناء بكسر أقفال القاعات والخروج إلى بوابة السجن متوجهين إلى بوابة الشام (4.5 كم جنوب شرقي بادوش) أملاً بدخول مدينة الموصل والحصول على وسائط نقل تحملهم الى مدنهم في الوسط والجنوب.

يتذكّر الشاهد الناجي أنمار أن العشرات من عناصر تنظيم «داعش» كانوا بانتظار السجناء حين وصلوا الى ما يعرف بتقاطع بادوش. وقالوا لهم انهم سينقلونهم الى مدينة الموصل ليذهبوا من هناك الى مدنهم. وفعلاً، كما يقول أنمار «نقلونا على متن ثلاث شاحنات نقل كبيرة وتوجهوا بنا الى بوابة الشام».

سارت الشاحنات الثلاث باتجاه بوابة الشام رفقة سيارات تابعة للتنظيم، لكنها سرعان ما غيّرت اتجاهها وانحدرت غرباً في طريق زراعي يؤدي الى وادي بادوش. وبعد ما يقارب كيلومترين من الطريق العام، كما يتذكّر أنمار «»توقفت الشاحنات بالقرب من سفح الوادي، وهو مجرى مائي موسميّ تغطّيه نباتات الحلفاء والأعشاب المتيّبسة.

حالما أنزلوا السجناء من الشاحنات، كما يتذكّر الناجون الثلاثة، أنمار وحمزة ووعد الله، بدأ عناصر التنظيم برصفهم على شكل منسّق، ثم طلب قائد المجموعة أن ينقسم السجناء إلى قسمين، الأول يتجمّع فيه السجناء السنة، والثاني السجناء الشيعة.

حينها، كما يقول وعد الله، بدأ النزلاء بالاصطفاف بين المجموعتين، والتحق بالمجموعة السنية عشرات من السجناء الشيعة، منهم شاهدنا وعد الله، لأنهم ادركوا أن المجموعة الشيعية لن تفلت من القتل.

لم يحقّق الحاج علي مع أفراد المجموعة السنية، بل طلب منهم الصعود إلى متن الشاحنات الثلاث لنقلهم الى مدينة الموصل، والتي كانت في ذلك الصباح، المعقل الرئيسي لتنظيم «داعش».

حين بدأت الشاحنات الثلاث بالعودة أدراجها باتجاه الطريق العام، كما يتذكّر الناجيان أنمار وحمزة، قام عناصر التنظيم بجرد السجناء الشيعة وتثبيت كل سجين برقم محدّد، وكان تسلسل شاهدنا حمزة 335 من بين 519 سجيناً، فيما كان رقم أنمار 257.

أمر قائد المجموعة عناصره بتجريد السجناء الشيعة من مقتنياتهم، والتوجه بهم الى حافة الوادي. وهناك قام اثنان من عناصر التنظيم بتصوير السجناء بكاميرات فيديو، قبل ان يبدأ بقية عناصر التنظيم بتنفيذ عملية الإعدام الجماعية.

الموتى الأحياء

بدأ العشرات من عناصر تنظيم «داعش»، في وقت واحد، بإطلاق النار من بنادق الـ «بي كي سي» والرشاشات الأحادية المحمولة على عجلات، على السجناء العزل. وطوال دقائق «كأنها دهرٌ كامل»، كما يقول أنمار، كانت رشقات الرصاص تحصد أجساد السجناء مجموعة بعد مجموعة.

أصيب أنمار برصاصة واحدة في كتفه، ولم يمت، «ساعتها كنت أقف بين سجينين، أصيب الأول في رأسه فتناثر دماغه على كتفي الأيسر، وتطايرت أحشاء الثاني على ثيابي من جهة اليمين».

«حين ألقيت بنفسي في بطن الوادي مع بقية الضحايا»، يتذكر أنمار، «كنت أسمع أصوات الرصاصات المكتومة وهي تخترق الأجساد، وتحطّم عظام الضحايا، تمزّقهم، كنت أسمع الضحايا الذين يتساقطون فوقي أو إلى جانبي، يشخرون قبل أن يتحولوا إلى جثث هامدة».

بالكاد كان أنمار يسيطر على ارتجافة يديه وهو يحركهما واصفاً هذا المشهد، «عندما توقف إطلاق الرصاص، بدأ عناصر التنظيم بإطلاق الرصاص مجدداً على أجساد الضحايا خشية أن يكون بينهم أحياء، لهذا اختبأت تحت الجثث ولم أتحرك».

في بطن الوادي، وعلى بعد أمتار من أنمار، كان حمزة مستلقياً هو الآخر تحت الجثث. وكان ينتظر أن ينتهي عناصر التنظيم من إطلاق الرصاص كي يتخلّص من الجثث التي تكدست فوقه ويهرب من المكان. «لكنهم لم يفعلوا هذا، بل أشعلوا النباتات الجافة في بطن الوادي قبل أن يغادروا وهم يطلقون التكبيرات والأهازيج». وقبل أن ينجح أنمار واثنين من رفاقه في الخروج من الوادي والهرب بعيداً من المكان، كانت النيران تلتهم أجساد الضحايا بالتدريج.

في الطرف الثاني من الوادي، كان حمزة، يزحف هو الآخر فوق الجثث للوصول إلى حافة الوادي. «كنت أنادي الأحياء منهم كي ينهضوا، فـ «داعش» رحل أخيراً، وكلّما كنت أمرّ فوق مجموعة من الجثث، كان بعضها يتحرك، ينتزع نفسه من بين بقية الجثث ثم يبدأ بالزحف معي باتجاه طرف الوادي».

وصل حمزة إلى أنبوب كونكريتي يخترق الشارع الزراعي نحو الجانب الثاني من الوادي، وهناك وجد ثلاثة من الـ «الموتى الأحياء» الذين سبقوه في الهرب من النيران، وسرعان ما وصل إلى المكان ناجون، «لم أميّز عددهم» يقول حمزة. «ولم أستطع أيضاً أن أبقى معهم وهم يموتون تباعاً لأن أجسادهم كانت ممزّقة بالرصاص، خرجت أنا ومعي اثنان من الناجين وتوجهنا غرباً كي لا نضطر إلى العودة إلى الشارع العام».

قبيل وصوله إلى إحدى المناطق الواقعة غرب مدينة الموصل، كان حمزة يسير وحده بعد أن أعياه السير، ونزف رفيقاه كثيراً فتخلّفا عن اللحاق به. لا يعرف حمزة إن كانا تمكّنا من النجاة أم لا، لكنه يرجّح أن يكون هناك آخرون قد لا يتعدّى عددهم أصابع اليد الواحدة خرجوا من الوادي سالمين؛ بعضهم قد يكون وقع في أيدي عناصر «داعش» وقتلوه، وبعضهم قد يكون عبر إلى القرى الواقعة غرب مدينة الموصل، أو التجأوا إلى مناطق في سهل نينوى ووصلوا بعدها إلى إقليم كردستان العراق.

* أنجز هذا التحقيق بالتعاون بين شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» «أريج» www.arij.net وشبكة «الصحافة الاستقصائية العراقية» «نيريج» www.nirij.org، بإشراف محمد الربيعي وميادة داود.

الجزء الثاني:سجناء بادوش أعدِموا على دفعات… والشهود الناجون أنقذتهم جثث زملائهم

طوال الطريق الواصل بين موقع المجزرة الأولى في وادي بادوش، ومدينة الموصل التي توجهت إليها الشاحنات الثلاث وهي تحمل السجناء السنّة ومعهم عشرات السجناء الشيعة المتخفين، كان شاهدنا الناجي مسعود وعد الله، يرفع صوته مع باقي السجناء بشعار تنظيم «داعش» المعروف: «دولة الإسلام… باقية».

ظن وعد الله أن عناصر «داعش» انطلت عليهم الخدعة، وبأنهم سيطلقون سراحه حالما يصلون المدينة. لكن القلق سرعان ما استبد به حين مرت الشاحنات بالقرب من بوابة الشام. فهناك، كان عناصر التنظيم يقتادون مجموعة كبيرة من السجناء باتجاه المنطقة المحاذية للبوابة، وخمن وعد الله أنهم سيعدمونهم مثل سجناء وادي بادوش.

مجزرة عين الجحش

يتذكر وعد الله، وهو الناجي الوحيد الذي خرج من المجزرة ليروي شهادته، أن الشاحنات انحدرت بعد عبورها بوابة الشام إلى الحي الصناعي الواقع غرب الموصل، ومنه إلى حي التنك، وصولاً إلى منطقة السحاجي فـالطريق الخارجي المتجه إلى جنوب غربي الموصل.

بعد نحو ساعتين من السير في الطريق الصحراوي وصلت الشاحنات إلى منطقة عين الجحش، وهناك، بالقرب من مقلع الحجر، توقفت الشاحنات ونزل منها السجناء ليجدوا في انتظارهم العشرات من عناصر «داعش».

السجين 157

يقول وعد الله إن عناصر التنظيم صفوا السجناء على طريقة النسق، كل خط يتكون من عشرة سجناء، ثم بدأوا بإعطاء أرقام متسلسلة للسجناء، ينادي كل منه برقمه حين يصل الدور إليه، «وصل العد إلى 475، وأنا كان رقمي 157».

حينذاك، أمر أحد قادة التنظيم كل السجناء الشيعة المتخفين، أن يخرجوا على الفور من المجموعة والوقوف في الجانب الآخر. وحين رفض السجناء السنة الإشارة إلى السجناء الشيعة، قام قائد المجموعة بقتل اثنين من السجناء، فاضطر السجناء السنة إلى الإبلاغ عن السجناء الشيعة الذين بلغ عددهم 74 سجيناً. لاحقاً، حقق عناصر التنظيم مع السجناء السنة، سألوهم عن عشائرهم ومناطق سكناهم وكيفية إقامة الأذان والصلاة، وعزلوا سبعة من السجناء السنة الذين كان من سوء حظهم أن لهجاتهم كانت قريبة من لهجة أهل جنوب العراق، أو أن أسماءهم كانت «أسماء شيعية».

بعدها، كما يقول الناجي الوحيد وعد الله، صف عناصر التنظيم السجناء الشيعة الـ74 ومعهم السجناء السنة السبعة على حافة حفرة كبيرة، يتجاوز قطرها 7 أمتار وعمقها ثلاثة أمتار.

يتذكر وعد الله أنهم حين وصلوا إلى حافة الحفرة الكبيرة، أصيبوا بالرعب. «ففي تلك الحفرة كانت تتكدس العشرات من جثث الجنود وعناصر الشرطة الذين أعدمهم عناصر التنظيم قبل وصولنا إلى المكان». حين بدأ إطلاق النار، يقول وعد الله، تلقيت رصاصتين في كتفي وظهري، ورميت بنفسي داخل الحفرة مع الجثث المتساقطة، وبقيت ملقى هناك، فوقي جثث السجناء، وتحتي جثث الجنود، مطبقاً بأسناني على ساق أحد الموتى كي لا أصرخ من الألم». يتذكر وعد الله، أنه بقي على وضعه منتظراً ابتعاد عناصر التنظيم كي يخرج من الحفرة ويهرب بالاتجاه المعاكس لبيوت التنظيم الطينية، وبعد ساعات من سيره غرباً، رأى عباس أضواء القرى البعيدة، ومن هناك تدبر أمره في الوصول إلى منطقة الحضر، وفي رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر، بمساعدة أهالي مناطق سنية مر بها، وصل إلى مدينته القريبة من العاصمة بغداد.

مجزرة بوابة الشام

تردد الرجل الستيني حامد الـــبيــجاوي كثيراً قبل أن يقرر الوجهة التي سيسير فيها بعد خروجه من السجن، لم يكـــن قد بـــقي له من محــكوميته سوى ستة أشهر، وجسده ما كان يسعفه على السير لمسافات طويلة.

ما كان البيجاوي يعرف أن خطواته المتثاقلة، ستكون مفتاح نجاته من الموت. فبعد أن وصل إلى تقاطع بادوش، كانت الشاحنات الثلاث التي حملت السجناء إلى موقع المجزرة الأولى، قد غادرت للتو.

 

عند بوابة الشام، كان عناصر تنظيم «داعش» يشخصون السجناء الواصلين إلى البوابة من ملابسهم وطريقتهم في السير ضمن مجاميع غير منظمة، ومشياً على الأقدام. وحالما وصل البيجاوي، ألحقه عناصر التنظيم بمئات السجناء الذين عزلهم وأجلسهم على جانب البوابة.

هناك، طلب أحد قادة تنظيم «داعش» أن ينقسم السجناء إلى مجموعتين، واحدة للسنة، والثانية للشيعة. ولأن البيجاوي كان ينتمي لقبيلة البيجات التي ينتمي إليها صدام حسين، فقد ادعى بأنه من أقارب الأخير، لهذا سمح له قائد مجموعة «داعش» الذي كان يتحدث بلهجة موصلية قروية، أن يقف جانباً لكي يطلق سراحه حين ينتهي من الآخرين.

لم يكن البيجاوي فعلاً من أقارب الرئيس الأسبق صدام حسين. بل كان من الفرع الشيعي من نفس العشيرة التي يتركز سنتها في قرية العوجة، وشيعتها في بعض مناطق الجنوب. لكن هذا اللقب طالما كان ينفعه حين يكون في مناطق الموصل أو غرب العراق، ومنذ ثمانينات القرن الماضي.

كان عدد السجناء الشيعة عند البوابة بعد إجراء التعداد عليهم، باستثناء البيجاوي، 304 سجناء، اقتادهم مسلحو «داعش» إلى الجهة المقابلة للبوابة «وبدأوا بحصدهم برشقات متتالية من الرصاص وسط التكبيرات التي ضجت في كل أنحاء بوابة الشام». كما يقول البيجاوي.

وبحسب شهادة البيجاوي، فأنه شاهد عناصر التنظيم قبل مغادرته باتجاه الموصل، وهم يجمعون مجدداً كل السجناء الوافدين إلى البوابة، وإجلاسهم على جانب الطريق تمهيداً لتنفيذ عملية إعدام جماعي أخرى كما يعتقد.

المصير المجهول

وصل شاهدنا الناجي محمد عبد الله إلى بوابة الشام بعد إعدام الوجبة الأولى (304)، وكان ذلك كما يتذكر بعد العاشرة والنصف تقريباً، حينها، أوقفه عناصر التنظيم وأجلسوه مع مئات السجناء إلى جانب البوابة.

ومثلما كان عليه الحال في الوجبة الأولى من السجناء، طلب قيادي في «داعش» يتحدث بلهجة خليجية أن ينقسم السجناء إلى مجموعتين، سنية وشيعية، حينها، كما يقول عبد الله، «تحركت أنا ومعي بعض السجناء الشيعة الذين أعرفهم إلى الجهة التي تجمع فيها السجناء السنة».

في ذلك الوقت، كان عناصر التنظيم يجرون تعداداً للسجناء الشيعة فوصل عددهم إلى 108 سجناء. لكن قائد المجموعة طلب من السجناء الشيعة الذين التحقوا بالمجموعة السنية أن يكشفوا عن أنفسهم على الفور، ثم قام بذبح اثنين من السجناء الشيعة الذين تعرف إليهم داخل السجناء السنة، ما دفع 60 سجيناً إلى الالتحاق بالمجموعة الشيعية طواعية.

لاحقاً، كما يقول عبد الله، وصل رجل مقنع في سيارة همر عسكرية عليها راية «داعش»، وقام بتشخيص 31 سجيناً شيعياً متخفياً، «لكنه لم يتعرف أيضاً على بعض الشيعة المتخفين، بمن فيهم أنا».

عرف عبد الله لاحقاً أن الرجل المقنع كان من قيادات تنظيم «القاعدة» الذين نقلوا من سجن بادوش إلى سجن أبو غريب قبل عامين، وهو على الأرجح هرب من السجن خلال عملية اقتحام هذا السجن في 22 تموز (يوليو) 2013.

نجا محمد بأعجوبة. وغادر مع باقي السجناء المطلق سراحهم إلى مدينة الموصل، وبمساعدة معارفه وصل إلى محافظته جنوب العراق، لكنه يتذكر أن مجموع السجناء الشيعة البالغ عددهم 199 سجيناً، بقوا في مكانهم حين غادر المكان، ولا أحد يعرف مصيرهم حتى الآن، «لكن على الأغلب أنهم قتلوا أيضاً».

يتذكر عبد الله أيضاً، أنه قبل أن يترك البوابة ويدخل مدينة الموصل، مرت ثلاث شاحنات مكتظة بالسجناء الذين كانوا يهتفون لتنظيم «داعش» «دولة الإسلام … باقية». وهو يشير هنا إلى الشاحنات التي كانت قد عادت لتوها من موقع المجزرة الأولى في وادي بادوش، متوجهة إلى موقع المجزرة الثانية في مقلع الحجر بمنطقة عين الجحش، مارة بموقع المجزرة الثالثة، بوابة الشام.

يتذكر شاهدنا الناجي أحمد السلطان الذي وصل برفقة اثنين من أبناء المناطق القريبة من سجن بادوش، بعد أن انتحل شخصية أحد رفاقه السنة في السجن وأقنعهم أنه ينتمي لعشيرة الندة التي تقطن في محافظة صلاح الدين.

خلال الفترة التي استغرقها هذان في إقناع عناصر «داعش» بأنه سجين سني وهما يعرفان عشيرته وأعمامه، فتح السلطان عينيه ببطء ليراقب الموقف، «حينها رأيت عناصر التنظيم يقتادون مئات السجناء إلى الجهة المحاذية لبوابة بادوش، ويطلقون النار عليهم».

لا يؤكد السلطان، أو ينفي، إن كانت المجموعة التي رأها تتعرض للإعدام الجماعي هي المجموعة الأولى من السجناء (304) أم المجموعة الثانية (199)، لكن قياساً للوقت الذي استغرقه للوصول إلى البوابة «من الأرجح أنها كانت تلك هي المجموعة الثانية من السجناء». كلاهما، محمد عبد الله وأحمد السلطان، وأيضاً السجين الناجي البيجاوي، يعتقدون أن من المستحيل أن يكون تنظيم «داعش» قد أفرج عن المجموعة الثانية، وأنهم لم يسمعوا أبداً عن نجاة هذا العدد الكبير من السجناء الشيعة من موقع واحد.

المجزرة الرابعة، على مشارف تلعفر

نحو الطريق المؤدي إلى مناطق التركمان الشيعة والإيزيديين (تلعفر وسنجار) توجه أغلب أبناء هاتين المدينتين، وبرفقتهم سجناء شيعة وإيزيدون ومسيحيون كانوا يأملون بالخلاص واللجوء إلى منطقة تلعفر الشيعية أو سنجار الإيزيدية (سقطتا لاحقاً بيد تنظيم داعش).

قام هؤلاء، بمن فيهم شاهدنا يونس الشمري، وهو سجين سني من أهل ناحية ربيعة غرب الموصل، بالالتفاف حول السجن ثم دخلوا منطقة بادوش السكنية وساروا بمحاذاة نهر دجلة لأكثر من عشرين كيلومتراً، ومن هناك أخذوا الطريق المؤدي إلى بلدة تلعفر ليتفرقوا منها إلى مناطقهم.

قبل وصولهم إلى البلدة بعدة كيلومترات، قطع عليهم الطريق مجموعة من عناصر تنظيم «داعش» وقاموا بعزل السجناء السنة عن أقرانهم الشيعة، ثم أعدموا 36 سجيناً شيعياً وإيزيديا وألقوا جثثهم على جانب الطريق، وأفرجوا عن 15 سجيناً ثبت للتنظيم أنهم من السنة، من بينهم الشمري نفسه.

لم يتمكن الشمري من تحديد موقع الإعدام بالضبط، فالمنطقة كانت صحراوية وبعيدة عن المناطق السكنية المعروفة، لكنه يؤكد أن موقع الإعدام «كان على مشارف بلدة تلعفر».

الحصيلة

من مجموع 2700 سجين كانوا في السجن قبل الحادثة، هناك 300 سجين سلموا أنفسهم أو ألقي القبض عليهم بحسب ما يكشفه الناطق باسم وزارة العدل، حيدر السعدي. فيما بقي مصير 2400 سجين قيد المجهول. يؤكد السعدي، أن الوزارة لم تصل بعد إلى عدد السجناء الذين أعدمهم تنظيم «داعش»، وأن والتحقيقات جارية لمعرفة عددهم الحقيقي والمواقع التي أعدموا فيها. قبل هذا، قالت الوزارة لجريدة «الصباح» الحكومية إن السجناء تم إعدامهم في مكان قريب من سجن بادوش (الموقع رقم واحد/ وادي بادوش)، من دون الإشارة إلى أية مواقع أخرى. وأن الوزارة تنتظر أن يتم استعادة هذه المناطق من يد «داعش» لمعرفة عدد الضحايا، (يرجح قادة التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش»، أن لا يتم استعادة مدينة الموصل قبل مرور سنة من الآن).

بالعودة إلى شهادات الناجين، تمكن كاتب التحقيق من تحديد عدد تقريبي لضحايا سجن بادوش، لكنه رقم مبني على شهادات ناجين، ولا يرقى إلى أن يكون رقماً دقيقاً تماماً، وليس ملزماً لأي طرف.

فالسجناء الذين تأكد موتهم، بحسب السجناء الناجين، هم قرابة 500 سجين في وادي بادوش، و82 سجيناً في مقلع الحجر بوادي عين الجحش، و306 سجناء في بوابة الشام، و36 سجيناً على مشارف مدينة تلعفر، فيما تسلم الطب العدلي في مدينة الموصل 14 جثة، وعثر على اثنين من الضحايا في مدينة بلد، وهكذا يكون مجموع الضحايا 940 سجيناً. في ذات الوقت، بقي معلقاً، مصير 201 سجين تم تجميعهم وعزلهم في الوجبة الثانية بالقرب من بوابة الشام، ولم يتأكد إعدامهم من عدمه، على رغم ترجيحات السجناء الناجين بأنهم أعدموا قرب البوابة، وهو ما قد يرفع رقم الضحايا إلى 1141 في حال التأكد منه.

بالنسبة للمواقع التي جرت فيها عمليات الإعدام، تظهر الشهادات أن المجازر الرئيسية حدثت في أربعة مواقع، هي: وادي بادوش (صورة رقم 1)، مقلع الحجر في عين الجحش (صورة رقم 2)، بوابة الشام (صورة رقم 3)، ومشارف مدينة تلعفر (صورة رقم 4). وهذه المناطق كلها تقع الآن تحت سيطرة تنظيم «داعش». وهي مؤشرة على الخريطة كما تظهر الصور المرفقة بالتحقيق.

ضحايا درجة ثانية

لم يكشف مكتب القائد العام قبل إلغائه في أيلول (سبتمبر) الماضي، أية تفاصيل عن نتائج التحقيقات التي أجريت حول انسحاب الفوج المكلف بحماية سجن بادوش، ومثلها فعلت وزارة الداخلية الاتحادية التي لم تعلن أية نتائج عن التحقيقات التي أجريت لمعرفة أسباب انسحاب عناصر الشرطة الاتحادية من بوابة وأبراج السجن.

هذا الصمت الذي أحاط بقضية سجن بادوش، كما يقول حامد خليل وهو أحد الناشطين من أهالي الضحايا، بدأ منذ اليوم الأول للمجزرة. «فلم نسمع حينها من رئيس الوزراء أو نائب رئيس الجمهورية أو رئيس البرلمان أو وزير العدل، ولا حتى من البرلمانيين، كلمة إدانة واحدة لما حصل لسجناء بادوش».

يعتقد محمد الكوفي الذي فقد الاتصال بأخيه أحمد منذ وصوله لبوابة الشام، أن هؤلاء، «ربما اعتبروا بأن الضحايا أقل شأناً من أن يكلفوا أنفسهم إدانة عملية قتلهم، أو أن كونهم سجناء يضعهم في مرتبة أدنى من باقي ضحايا داعش».

إلى أن يكشف تنظيم «داعش» بنفسه عما فعله بسجناء بادوش، أو تسارع وزارة العدل والحكومة العراقية في إنجاز تحقيقاتها والكشف عن مصير السجناء المفقودين، ستظل شهادات الناجين السبعة الذين شاركوا في هذا التحقيق، هي التفسير الوحيد لما حصل يوم 10 حزيران (يونيو) لسجناء بادوش.

 

يتحفظ كاتب التحقيق والشهود الناجين، على ذكر أية أمكنة أو شخصيات ساعدت الناجين في الهروب من المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم «داعش»، تجنباً لتعريضهم لأية مخاطر.

* أنجز هذا التحقيق بالتعاون بين شبكة «إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية» («أريج») www.arij.net وشبكة الصحافة الاستقصائية العراقية «نيريج» www.nirij.org، وبإشراف محمد الربيعي وميادة داود.

 

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى