محمد تركي الربيعومراجعات كتب

تفحيط في الرياض و«برشلونة» في غزة وحنين إلى شارع الحمرا البيروتي: اثنوغرافيا الفراغ وسياسات المرح في العالم العربي/ محمد تركي الربيعو

 

 

■ بغية استعراض الحياة اليومية التي يعيشها الشباب العربي، بعيداً عن أماكن العمل والالتزام السياسية، يروم الباحثان الفرنسيان لوران بونفوا ومريام كاتوس (المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية) توجيه أنظارنا نحو أوقات الفراغ، والتسلية واللهو لدى الشباب في العالم العربي. إذ بات الفراغ والكسل يحتلان في الحياة اليومية للعديد من هؤلاء الشباب موقعاً مركزياً، لا هامشياً، جراء اتساع رقعة البطالة. بيد أن الشباب يستخدمون أوقات الفراغ هذه ويدركونها ويتحملونها أو يقتحمونها، كل بطريقته الخاصة، كاشفين بذلك النقاب عن أساليب متفاوتة غالباً، ومشتركة أحياناً في بناء أنفسهم كأفراد.

ومن هذا المنطلق، فإن دراسة أوقات الفراغ تتيح لنا ملاحظة التحولات التي تكاد تكون منظورة أحياناً، وتحرك يوميات المجتمعات العربية.

فالحديث عن وقت الفراغ وفقاً لمحرري كتاب «الشباب العرب: أوقات الفراغ، والتسلية، الثقافات»، الصادر عن الدار العربية للعلوم، ناشرون، لا يعني أن يتصرف الأفراد كما يحلو لهم، إذ أن ثمة مؤسسات عدة تعمل على تأطير وقت التسلية والترفيه، وقد تزودنا العودة إلى تاريخ ظهور الترفيه في أوروبا ببعض المنظورات المثيرة للاهتمام، فقد لعبت مأسسة أوقات الفراغ دوراً رئيسياً، ما أتاح لمختلف الكيانات الاجتماعية والدولية والدينية والنقابية، أو الحزبية، الاهتمام بانضباط الشباب وأوقات الفراغ. ومع ذلك يبقى الوضع في العالم العربي مغايراً، فهنا تبقى مأسسة أوقات الفراغ هشة مقارنة بمثيلتها الأوروبية، فلا يزال التاريخ الاجتماعي لأوقات الفراغ متعثراً، غير أن الشارع والمقاهي والحانات، ومن ثم الإنترنت شكلت أحيازاً مثالية للتفريج عن الميل الكامن إلى الانعتاق والتحرر.

وحيال زحمة هذه الصور، حاول ثلاثون باحثاً دراسة وتبادل ملاحظاتهم ومعرفتهم، لرؤية معاش الشباب العرب حالياً، وفهم أوقات التسلية والفراغ التي يعيشونها بعيد الانتفاضات العربية.

انطلق، إحرق أطر سيارتك:

من بين النصوص الماتعة التي يضمها الكتاب، نعثر على نص للباحث باسكال مينوريه/هارفارد حول حياة التفحيط والديناميات الكامنة وراء هذه الممارسات داخل مدينة الرياض. فعالم التفحيط في الرياض، يجتذب بصورة أساسية الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و30 سنة ممن تسربوا من المدرسة، أو ممن يبحثون عن عمل. وهم ينتمون في معظمهم إلى الطبقات الشعبية والمتوسطة الدنيا، ويشكلون جزءاً من الشريحة البدوية والريفية من سكان مدينة الرياض. وكان تحدرهم القبلي العريق على طرف نقيض مع ظروفهم المعيشية والسكنية. وغالباً، لم تكن الفرص التي وعدوا أنفسهم بها في المدينة الكبيرة سوى أضغاث أحلام، وقد تخلى الكثيرون منهم عن الدراسة وأصبحوا باحثين عن عمل ثابت ودائم.

ولكن ما الذي يدفع المرء ليصبح مفحطاً؟ في هذا السياق، يلتقي جميع المفحطين وفقاً، للمقابلات التي أجراها الباحث، حول إجابة موحدة، يسمونها «الطفش». وهو شعور بافتقار المرء إلى الرأسمال الاجتماعي في مدينة تكون كل الفرص متاحة فيها، شريطة أن يحظى بالدعم. وإذا كان الضجر يعني الفراغ أو العدم، فإن الطفش لا يعني الضجر والفراغ فقط، بل أيضاً الغضب العام الذي يجتاح الشباب عندما يكتشفون عنف الظلم الناجم عن التفاوتات الاجتماعية. وكان التفحيط قد تطور إبان فترة من التحولات الجذرية التي شهدتها المملكة العربية السعودية، نتيجة الطفرة الاقتصادية خلال سبعينيات القرن الماضي، إذ كانت البداية في الضواحي الجديدة لكل من الرياض وجدة والدمام، وهي المدن الثلاث التي سرعان ما طالها التحول نتيجة التدفق الهائل للسيولة في الاقتصاد.

وإثر الطفرة النفطية التي شهدها قطاع العقارات عام 1973، أصبح الأداة الرئيسية لتوزيع الريع، عبر منح الأراضي وتقديم القروض العامة، ففي الرياض، تؤمن مشاريع المخططات العمرانية ديكوراً مثالياً للمفحطين، كما شكلت شبكة الطرق وآلاف الكيلومترات المعبدة الشغل الشاغل للمتعهدين والمقاولين الفرعيين والمستثمرين المتهورين بالباطن الذين جمعوا ثروات طائلة من خلال التشييد الكثيف للأبنية والطرقات، مستفيدين في ذلك من علاقاتهم مع العائلة المالكة.

ويستذكر المفحطون ومناصروهم هذه البنى الاحتكارية في توزيع الريع، وينددون بالحلقة المفرغة المتعلقة بالاستهلاك والديون التي ترهق كاهل معظم العائلات. من هنا يأتي التفحيط، وفق رأي باسكال مينوريه، ليعبر عن تمرد شعبي ضد هذه الأخيرة، من خلال الإطاحة بالملكية الخاصة (سرقة السيارات) ومعارضة النظام العام والساحة العامة (القيام باستعراضات خطيرة، وبأقصى سرعة في الجادات).

مشجعون عن بعد: محب فريقي برشلونة وريال مدريد:

في كل مرة يلتقي فيها برشلونة وريال مدريد في أي بطولة كانت، تعم المظاهرات الاحتفالية أرض فلسطين؛ وبالتالي، كيف يمكن تفسير قدرة كرة القدم العالمية على حشد المشجعين الذين لا ينتمون لهوية هذه الأندية ولا لمكان وجودها. في هذا السياق، يحاول أباهر السقا أستاذ علم الاجتماع في جامعة بير زيت فهم أسباب التشجيع عن بعد، الذي يظهر في المقاهي والملاعب في كل من الضفة الغربية وغزة، كما يهتم بالمراهنات الرياضية والسياسية أيضاً، حتى الأيديولوجية. ففي أثناء الانتفاضة الثانية التي اندلعت عام 2000 بدت هذه الظاهرة بشكل ملحوظ، فقد عزلت تلك الفترة التي اتسمت بتصاعد وتيرة العنف والقمع الإسرائيلي قسماً كبيراً من الشباب الذي فرض عليه حظر التجول لفترات طويلة، هذا إن لم يُعتقل ويُوضع في السجون الإسرائيلية. وفي حين كانت انطلاقة بطولة دوري كرة القدم أمراً متعذراً، اتجه الشباب الفلسطيني، بغية قتل الوقت، نحو متابعة المباريات الأوروبية، فطُوِّرت وسائل الالتفاف على تشفير القنوات التي تبث المباريات وتتطلب دفع اشتراك. وقد لعبت قناة «الجزيرة» على وجه الخصوص، التي انتشرت بشكل واسع في تلك الفترة من خلال برامجها ومعلقيها، دوراً مركزياً في جماهيرية هذين الفريقين، كما سطع نجم معلقها عصام الشوالي، باستطراداته وتعليقاته وحديثه عن التاريخ العربي أو العلاقات الدولية، إضافة إلى المتعة بسماع اللغة العربية الكلاسيكية تجعل المفردات المضحكة والسياسية التي يستخدمها ذلك المعلق الشهير من المرء «يسافر عبر كرة القدم» خارج عالم الحصار الذي يعيشه الشباب الفلسطيني.

حنين في بيروت، وأحلام عولمية في عمان:

أما الشعور بالحنين، فيحتل مكانةً خاصةً في القصص التي قام المؤلفون المساهمون بجمعها، إذ يسأل عدد كبير من الشباب العرب، ممن يواجهون أزمات اقتصادية ويعانون البطالة وعدم الثبات في العمل، أنفسهم عن المستقبل، ويزداد هذا القلق لدى من يواجه اضطرابات سياسية بشكل مباشر أو نزاعات مدنية، أو حروباً طويلة الأمد، كما جرى مع كل من السوريين والجزائريين واللبنانيين والليبيين والعراقيين والفلسطينيين منذ عدة أجيال. فمن القبائل في بغداد مروراً ببيروت، بقيت فئة الشباب في المجتمعات العربية في وارد رفض الحاضر باسم العصر الذهبي المتخيل. ويرى نيكولا دوت بويار في دراسته عن تسكع الشباب في شارع الحمرا البيروتي، أن ما يميز هذا الشارع تاريخياً هو ارتباط فن التجول اليومي فيه بالبيئة الاجتماعية التي توفرها المقاهي هناك، لاسيما تلك التي تطل مباشرة على الأرصفة، إضافة إلى كونه أحد رموز الاستهلاك التجارية، وتشعل المصارف والمحال التجارية الراقية الحيز العام للمنطقة برمتها.

ففي ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، كانت المقاهي في الشارع عبارة عن حاضنات لجيل ذي توجه راديكالي يساري، وباقترابه أيضاً من الحركة الوطنية الفلسطينية. وقد أسهم اندلاع الحرب الأهلية في لبنان وعسكرة السياسة في إزاحة مقاهي الحمراء عن موقعها، كملتقيات ثقافية لليسار وللحركة الوطنية اللبنانية، وشكلت حوادث متلاحقة نهاية اللعبة كالاحتلال الإسرائيلي لبيروت في سبتمبر/ايلول 1982 وما رافقه من انسحاب فلسطيني من لبنان، إضافة إلى صعود حركات مقاومة لبنانية ذات صبغة إسلامية. وكشاهد على فلول نجم هذه القوى وعلى الأزمة الممتدة آنذاك، أُغلقت معظم المقاهي الرائدة التي كانت تحسب على اليسار العالمي ومنها، مقهى المودكا والأكسبرس، وحل مكانها مع مطلع التسعينيات مقاهي ومطاعم البرغر الأمريكي. لكن مما يلاحظه بويار اليوم، هو أن بعض الشباب اللبنانيين، عاد ليستمع من جديد في شارع الحمراء إلى موسيقى السنوات المشرقة للفكر اليساري، وباتت إعادة إحياء الإرث اليساري والتقدمي أمراً ملموساً، فعلى سبيل المثال، تضع حانة أبو إيلي، الواقعة في حي كاراكاس في نزلة شارع الحمراء باتجاه الواجهة البحرية، صوراً لكل من ماوتسي تونع وغيفارا وكاسترو وتوليفة من مختلف المدارس الماركسية التي كانت في ما مضى تتعارض في ما بينها. ويدرك المرء عند الاستماع إلى نقاشات الشباب الناشط في الحزب الشيوعي اللبناني، وهو هيئة مصغرة من اليسار المتطرف التي أُنشِئت في فترة ما بعد الحرب، عدم سعي هؤلاء إلى إعادة هيكلة العالم بقدر محاولتهم الدفاع عن تراثهم. وانطلاقاً من هنا تبدو سياسة الحنين المتبعة في بعض مقاهي شارع الحمراء وحاناته، كما لو كانت إحدى آخر الوسائل المتبعة لإحياء تراث قد اندثر، في وقت تكثر فيه الانقسامات السياسية.. من هذا المنطلق تمثل هذه السياسات الحنينية فشلاً بالنسبة إلى جيل يجد من الصعوبة بمكان على زمانيته السياسية الخاصة به، وبالتالي تكمن الطوبى الوحيدة التي توحد الصفوف في غياهب الأساطير الغابرة، سواء أكانت سياسية أم فنية.

وخلافاً لحالة الحنين السابقة، يحاول سيريل روسيل/المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، الأردن/ دراسة الأحلام العولمية للشباب المتسكع في شارع «الرينبو» في مدينة عمان.

وهو شارع يسيطر على المدينة القديمة في عمان وسوقها الشعبي الصغير. وعندما تغلق محلات المدينة، يبدأ نشاط مؤسسات جبل عمان، لاسيما تلك التي في شارع الرينبو، العمود الفقري للحي. ومن خلال مراقبة الشباب المتحدرين من الطبقات الاجتماعية كلها، الذين يتقابلون في شارع الرينبو، يلاحظ روسيل أن هناك ميلا إلى التعلق بتمثيلات وصور نموذجية مستوردة من الخارج. ولاسيما أن السلطة لديها ذعر من الأنماط التي تظهر في أماكن أخرى من العالم العربي/الثوريين أو الليبراليين أو الإسلاميين. واللافت هنا هو أن الدولة الأردنية باتت تعزز من عدم التسيس الواضح للشباب بالسعي لمواصلة الانخراط بالنموذج الغربي الاستعلامي، أو بنموذج الخليج المحافظ وليس بنموذج الدول المجاورة لها: سوريا ولبنان وفلسطين المفرطة في التسييس التي تعيش حياة من اللااستقرار السياسي وحتى الاجتماعي.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى