سمر يزبكصفحات الثقافة

تفرّجي عليَّ


    سمر يزبك

وأنتِ تبتعدين في الغابة، لا تنظري إلى الخلف، ثمة أصوات للريح يفتعلها احتكاك أضلعكِ بحفيف الورق، ستصيرين يا بنت حجراً!

تفرّجي عليَّ. انظري وأنا أراقبني، كيف تتعلم الأصابع أن ترتّب تجويفها في الصدر. تتلمس أبعد من عشر أضلاع، ومسافة سنتيمترات قليلة.

تفرّجي عليَّ: كيف تركتِ السعادات الموقتة، صانعة سجادة العيش تلك، كيف غزلتِ منها هدوءاً من بعد غضب، وشرعتِ في نسل خيط رفيع، عندما تذكرتِ أنك كنت يوماً، امرأة!

ربما كنت طفلة! هل كنت؟

أين يختبئ الأطفال عندما يكبرون، كيف تضيع شيطنتهم في مسارب الزمن؟

هكذا بقيتِ تتفرجين، ونسيتِ أن تكبري. فجأةً كنتِ في الغابة، من حولك الحفيف والفحيح! هل سرقتِ الطفلة من المرأة أم المرأة من الطفلة؟ أيّ خداع توهمين به من حولك، وأنتِ تولين الغابة ثقة الحمقى! لقد صدّقتِ تلك الآلام، وخرّبتِ رأسك. صارت أنتِ.

أنتِ تشاكل سؤال يدقّ عنقكِ، أنتِ البسيطة كغيمة، المركّبة كمجرّة! هذا سبب كافٍ لتكسري المرآة، وتصنعي غابة من زجاج، لا تكفيكِ الحكمة في أول الأربعين. تفرّجي كما يتأمل الثلج صقيعه الحارق، لا تندبي قطعة الفحم.

كيف عادت بكِ أنّات القهر إلى دهشة الخوف، وجرت الدماء فجأة من سلام الأرصفة؟ وكنت تتأملين مشهداً  يكبر عن لوحة شخصيات تنمو في عقلك المريض، بانتحار على طريقة ساموراي فاشل، أدمن العيش في ظلال الورق. تعرفين أن لا شيء يرضي هوسكِ الغريب بصناعة حكايات أزمنة وتخاريف. أنتِ المتخفية بظلال مخاتلة عن سيرة حياة غريبة عنكِ، تُوشي بصلف! ترغبين معرفة ماذا يعني مرور التفاصيل التي تجعلكِ تنسكبين من عينيك، وتمرّ أمام الأخرين كريشة؟ ما نوع الحراشف المدوّرة على استطالات البشر؟ ما نوع مجسّاتهم؟

كنتِ تعرفين أنك لا تحلمين بصعود نبتة في الفضاء، تصل بكِ بيت الغول. كنتِ واثقة أنك أردتِ الوصول الى أبعد نقطة في الفراغ، لتتركي جسدك للعماء، وتسبحي في بهجة الصعود، ثم تتركي روحكِ ملقاة في ترف الصورة والحلول.

تفرجي عليَّ: قالت أمكِ، إنها ستعيد تدوير بطنها من جديد، وإنك منذورة للتعب، وإنك تمشين على الأرض بألف قدم، ثم تطيرين بغمضة عين. قالت قبل الرحيل؛ إن الأمهات يحلمن بتناسل الحياة، وإن روحك ستحمل إلى سابع جيل في أزمانها اللعنات، وإن قطعة الفحم، لن تتحول الى نثار، ستظل شاهداًعلى ذعركِ، وقلق أصابعكِ، حين تصير خناجر كفيكِ.

تفرّجي عليَّ، وقد صار العالم فرجة من صيحات الموت والعويل، وقطعة الفحم في الضلوع، لا تحتمل ثقل من خلفتهم وراءكِ للموت! كلما شهقت روح، كنتِ ترتعشين كمصاصة دماء، أنت القاتلة يا شقية!

كيف تركتِ الموتى في العراء؟

كيف تركتِ الأجساد المشقوقة المنزوعة الأحشاء، بين ضجيج آلات الحديد وقرقعة الجنازير فوق الإسفلت؟

هل تخيفكِ دبّابة؟ لِمَ كلما لمحتِها ارتجفتِ كطير ذبيح؟ لِمَ كلما يمّمتِ وجهكِ شطر وطن من صور، انقصفت ركبتاك، وخرّ ظهركِ عن جذعكِ، وفحّت بوابات الجحيم داخل روحكِ المغلقة على متاهات الوجع؟

تفرّجي واصمتي، فكل ما تلهثين به يخطفه العدم.

تفرّجي، لأني أنا أيضاً، أتفرّج عليكِ، وأراكِ: حفرة سوداء، تمشي بقدمين نحيلتين.

حفرة لا يردمها سوى الموت.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى