أحمد عمرصفحات الناس

تفضيل النباح/ أحمد عمر

 

 

 

عرض صديقي نوري فيلماً للداعية المصري، خالد الجندي، وهو يدعو إلى أكل لحوم الكلاب، عن جنب، مع الكراهة؟

واستنكر: لحوم الحمير يمكن أن تؤكل لأنها نباتية، أما لحوم الكلاب فهي أكثر حرمة عندي من لحم الخنزير، معقول؟

قرأت فتاوى وآراء فقهية في صفحة صيد الفوائد، فلم أجد ما دعا إليه الجندي، قال الجندي إنه لا يفتي، بل يذكّر بفتوى الإمام مالك، والمصريون أحناف. والضروراتُ تبيح المحظورات في المخمصة. فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه، وقد اضطر إليها أهل الغوطة، لكن مصر تشتري الرافال والغوّاصات، وتبني السجون، ويمشي رئيسها “تاتي تاتي” على السجاد الأحمر بالسيارة للنكاية، الفتوى غرضها الأول هو التشتيت والدوشة.

قال نوري: لم أسمع في حياتي بقومٍ أكلوا لحم الكلاب؟

هناك أقوام في الصين والفيليبين تأكله؟ لحوم الحمير الأهلية محرّمة شرعاً بالنص، وللفتوى أهلها، وذكرت له كتاب ابن المرزبان المحولي “تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب”، وفيه كثير من الوقائع والقصص في فضل الكلاب على البشر. وقلت: إن لحم الكلب لا يؤكل، لأنها من السباع وذوات الناب، لكني سأفتيك ثقافياً. الكتاب يذكر قصصاً كثيرة عن وفاء الكلب للإنسان، يمكن الرجوع إليها، لكني سأذكر قصتين معاكستين عن غدر الإنسان بكلبه الوفي، ويمكن وضع هذا العنوان لهما: “تفضيل النباح على كثيرٍ ممن حرّم وأباح”.

كان لجاك لندن صاحب رواية العقب الحديدية قصة عنوانها “إشعال النار”، يروي فيها أنه ضاع في صحاري أميركا الثلجية، وانقطعت به السبل، وجاع، وأوشك على الموت برداً، وحاول إشعال النار للتدفئة، وأعواد الثقاب تأبى الاشتعال، فأصابعه متجمدة، والأعواد رطبة، والخشب مبلول، فنظر نظرة غدرٍ إلى كلبه، فأدركها بغريزته، فنبح وزمجر، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم من صاحبه؟ عرف أن صاحبه يريد قتله، ليتدفأ بجلده.

ومن ذلك أن لي زميلاً بخيلاً، درس في موسكو، وكان له كلبٌ يعيش معه في الشقة، وعرضت له رحلة إلى البحر الأسود المنيّل بستين نيلة، مع الزميلات، فرحل وقضى الأوطار مع حوريات الروس، وتذكّر أنه ترك كلبه محبوساً في الشقة من غير طعام، لكن عسل الرحلة أنساه الكلب، وعاد بعد أسبوع، ليجد كلبه قد ضوى وهزل من شدة الجوع، ويَلْهَثُ، يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ.

ماذا تتوقع، يا نوري، أن يفعل بكلبه؟

قال نوري: أن يعتذر منه، ويطعمه فوراً من غير إبطاء.

فعلا، ألقى الكلب بنفسه في حضنه، وبدأ يلعق وجهه، ويبكي من الشوق، لكن زميل البحر الأسود انتبه إلى أن كلبه قد أكل نصف شحاطته المطاطية، فرمى الكلب من حضنه غاضباً، وبدأ يقتصّ منه ويضربه ضرباً مبرحاً، ثم أمسكه ورماه أمام الباب، وقال: انقلع من هنا، أنت كلب غدار وخائن.

نظر الكلب إليه، والكلب جائع، وفهم أنه أخطأ، ودمعت عيناه، وخرج ولم يعد.

وقلت: ذكر غابرييل ماركيز في رواية “خريف البطريرك” أنّ لكل دكتاتور عداوة مع أحد الحيوانات، وعبد الفتاح السيسي عداوته مع الحمير والكلاب المحلية، ويصادق الكلاب والحمير الغربية البشرية.

قال: شخصياً عندما أكون على جُنُب، أشعر أني نجس، وكأني في جلد كلب.

قلت: كان لي صديق عراقي يعبّر عن حزنه العراقي التليد، فيقول: “فاطس بقلبي كلب”.

عملت فترة مع عمالٍ من الفيليبين، ولاحظت أنهم يحبّون الكلاب، وسمعت نباحاً مستغيثاً في ليلة عيد الميلاد، فقصدت مخيمهم الذي كانت تفوح منه روائح عجيبة، فوجدتهم يذبحون الكلاب التي سمّنوها، وطفقوا يشوونها على السفود.

قال نوري: خال، أخشى أن يبيح هؤلاء الشيوخ التضحية بالكلب في عيد الأضحى.

قلت: لن تبلغ شجاعتهم إباحة لحم الجزمة التي أكلها شارلي شابلن في فيلم البحث عن الذهب. الجزمة طوطم ومقدسة.

قال نوري: يفضّلونها على الرؤوس. فهمت خال، الفتوى للرؤوس، وليست للبطن.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى