راتب شعبوصفحات مميزة

تفكك سلطة الدولة في سوريا: راتب شعبو

 

    راتب شعبو

يتجلى تفكك سلطة الدولة في سوريا في شكلين: الأول هو خروج مناطق كاملة من تحت سيطرة سلطة الدولة لصالح سلطة أو سلطات الثورة، أي نشوء ما يمكن تسميته ازدواجية جغرافية للسلطة. الثاني هو تضعضع سلطة الدولة، بصفتها دولة، في مناطق سيطرتها.

في الحال الأولى، نحن أمام صراع جبهي بين قوتين ترتسم خطوط الجبهة بينهما وتتحرك وفق تكتيكات الصراع العسكري ونتائجه. ما يعني وقوع عبء كبير على الأهالي ولاسيما مع استخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات من جانب النظام. ويعني أيضاً تبادل السيطرة على مناطق التماس بين قوات الطرفين وما يحمله هذا من مشقات على الأهالي تدفعهم إلى النزوح أو التكيّف بحسب لون القوة المسيطرة على الأرض عندهم، أو، وهو الأكثر مأسوية، وقوعهم ضحية مجازر انتقامية.

في الحال الثانية، نشهد استعانة سلطة الدولة الرسمية بسلطات أهلية طارئة (لجان شعبية) تلتزم الدفاع عن سلطة الدولة (النظام) مستفيدة لصالح وظيفتها هذه من “شعبيتها”، أي تحررها من أي التزام رسمي أو قانوني، ما أدى إلى نشوء سلطة ميليشيات متخلفة عن فكرة الدولة ولاسيما أن غالبية عناصر هذه الميليشيات وزعاماتها هي من فئات فقيرة ثقافياً مما يجعلها هشيماً لنار الطائفية التي تجتاح المشهد السوري اليوم. يغطي هذه اللجان سياسياً القولُ إن الوطن في خطر، وإن الضرورات الأمنية لها أولوياتها، وما إلى ذلك. وهو قول له قبول واضح لدى عامة الموالين للنظام، الذين يشكلون مصدر عناصر “اللجان الشعبية” وبيئتها الحاضنة. على هذا، باتت المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام خاضعة لسلطتين متضافرتين إحداهما رسمية قانونية معهودة، وأخرى “شعبية” طارئة وخارج أي إطار قانوني. هذه الوحدات (الميليشيات) تستمد شرعيتها الضمنية (القبول بها) في أماكن وجودها من وظيفتها كقوة صد في وجه هجمات الوحدات العسكرية المعارضة بتلاوينها. أي إن شرعيتها في مناطق الموالاة ناجمة عن معاداتها للثورة (التي لها صورة بشعة في ذهن الموالين لا تقل عن بشاعة صورة النظام في ذهن المعارضين) وذلك على الضد من مبدأ الشرعية الثورية التي تستند إليها المعارضة في أماكن سيطرتها. إن تراكب الصراع وتعقده في سوريا خلق مشروعيات متصارعة ومتواكلة (ذات اعتماد متبادل) في الوقت نفسه. ذلك أن مقاومة النظام وثباته أمام المعارضة المسلحة مستخدماً أشد أشكال البطش الممكنة، زاد من حاجة هذه المعارضة للمشروعية الثورية كي تقوم بالأعباء الثقيلة لمواجهة النظام، وزاد أيضاً من استهلاك المعارضة هذه لمشروعيتها جراء إقدامها (تحت ضغط الضرورة أو بفعل التخلف الفكري الثقافي) على أعمال لا تلقى قبولاً شعبياً. زاد تقدم المعارضة المسلحة من حاجة النظام ومعينيه إلى قوة أكبر لصد هذا التقدم مما زاد الطلب على “المشروعية” المضادة للثورة للقيام بأعباء “حماية النظام والوطن”. زيادة قوة طرف وتعزيز مشروعيته (قبوله الشعبي)، تستدعي تلقائياً زيادة قوة الطرف الآخر وتعزيز مشروعيته المضادة. ومع طول أمد الصراع وما يتطلبه من تضحيات من جانب الأهالي، تتآكل المشروعية (القبول) ويصبح لا بد من فرضها بالقوة.

كأن المجتمع السوري، بعدما تفككت، أو كادت، سلطة الدولة المركزية، يعيد تشكيل نفسه بما يهيئ شروط حرب طويلة الأمد تتحول بسرعة فائقة من ثورة لإسقاط نظام فاسد يحمي فساده بالاستبداد، إلى حرب عدمية طائفية تدار من الخارج وتخضع لشروط الخارج، على الشاكلة اللبنانية.

في هذا الصراع المزمن الذي اتخذ مع الوقت طابعاً عبثياً، تراجعت قيمة حياة الفرد وستر الفعل العسكري السياسي اللامسؤول والمهووس بالبقاء والكيد، أصنافاً شتى من الأفعال الجرمية، في مقدمها جرائم القتل والخطف التي باتت تتلطى في الثنايا الكثيفة للأعمال العسكرية والأمنية. بات كل مواطن يدرك أن النظام (الذي ماهى نفسه بالدولة) مشغول في الدفاع عن نفسه وأن أمن المواطن مسألة مؤجلة أو على الرف. لا بل يدرك المواطن في سريرته أن أمن المواطن ربما يصبح في كل لحظة قرباناً على مذبح أمن النظام. في دوامة هذا الصراع العدمي، ترتفع تكاليف صيانة الحياة وتنخفض عتبات انعدام الأمان فلا يمكن المرء أن يطمئن على أمنه وأمن أسرته. تبرز المفارقة بين الاستنفار الأمني الكبير والتضخم الهائل في الأجسام الأمنية والعسكرية وبين انعدام الأمن الشخصي للأفراد.

الخطف من أجل الفدية والقتل على الهوية والإكراه والتسلط والسلبطة، هي من النبتات الشريرة التي نمت في هذا المستنبت الأمني السياسي الفاسد. فمن جهة تطغى أولوية حماية النظام على ما سواها، فتتحلل الدولة من كل وظيفة لها تتعارض مع هذه الأولوية، وتتساهل مع، أو تشجع، أي انتهاكات تصب في مصلحة الأولوية هذه. من جهة أخرى تسيطر على المناطق الخارجة عن سلطة الدولة وحدات عسكرية متعددة بمرجعيات مختلفة فكرياً وثقافياً وسياسياً يغلب عليها الطابع الإسلامي الذي بات يشكل متن الإيديولوجيا السياسية لها في صراعها مع  النظام، ما يعني تهميش فكرة الديموقراطية التي كانت مضمون انتفاضة السوريين وغايتهم. هذه الوحدات في حالة حرب تعطيها الذريعة للتحلل من الالتزامات الأخلاقية التي ينتظرها المرء ممن يثورون على الاستبداد والظلم. فللحرب أولوياتها التي لا تكترث كثيراً لحقوق الناس، بما فيها الحق في الحياة. وعليه، باتت اللوحة السورية بعد ما يقارب السنتين على انطلاقة الثورة: نظام يقاتل بجنون وبلا احترام لأي مبدأ يتعارض مع مبدأ استمراريته في الحكم، ومعارضات مسلحة تجبرها الحرب مع النظام على إعلاء مبدأ استمراريتها أيضاً فوق أي مبدأ آخر، وتقوم، في الفعل نفسه وفي الوقت نفسه، بإزاحة أشكال الصراع غير العسكرية وبتهميش الطابع الديموقراطي للثورة. ما يجعل الصراع في سوريا صراعا عدميا مدمرا، ويجعل السوريين بين حجري رحى لا ترحم. رحى تستهلك في دورانها الشرير أمان السوريين وثقتهم بعضهم بالبعض، والروابط المشتركة بينهم من دون أن تبني شيئاً، اللهم سوى عبرة لمن تقودهم الأقدار إلى مقاليد الحكم تقول: إن شعباً يضيق بالاستبداد والظلم يمكن أن يُقدم على أي شيء للخلاص من مستبديه.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى