صفحات سورية

تفكيك سوريا/ طاهر سعود

 

تعاملت حكومات دول الغرب بالكثير من الاستهتار واللامبالاة مع ما يتعرض له شعب سوريا من مجازر جماعية مروّعة، على يد نظام توتاليتاري مافياوي، ومعه قوّتي احتلال أجنبيتين (روسية وإيرانية)، وعشرات الميليشيات الطائفية المتعددة الجنسيات، الممولة من طهران. وبدعم سياسي مباشر من الصين.

وبدت تلك الحكومات الغربية وكـأنها قد تخلت عن ضميرها الإنساني تجاه المأساة السورية. فالنظام وحلفاؤه يواصلون تدمير المدن السورية غير الخاضعة لسيطرتهم؛ عبر قصفها بالطائرات الحربية، والصواريخ البالستية، والقنابل المحرّمة دولياً، ويلقون عليها من الجو البراميل المحشوة بالمتفجرات. ويستهدفون تجمعات المدنيين السكنية بالأسلحة الكيماوية السامّة على نطاق واسع، ويمارسون ضدهم سياسة الحصار والتجويع والتهجير القسري، وكذلك التطهير الإثني والمذهبي في العديد من المناطق. ويتعمدون قصف المرافق الطبية، وقوافل الإغاثة الإنسانية، والمخابز، ومحطات مياه الشرب، والأسواق التجارية.. يفعلون كل ذلك طوال الوقت على مدى ست سنوات، أمام سمع وبصر المجتمع الدولي، دون أي رادع.

ولم يقدّم الغرب للسوريين في محنتهم تلك من مساعدة غير عبارات التعاطف اللفظي، متجاهلاً مأساتهم الإنسانية الرهيبة، والتي هي أسوأ ما عرفته البشرية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد شجّع تواطؤ الغرب هذا استمرار القتلة في حربهم القذرة ضد الأبرياء في سوريا.

لقد ثار السوريون سلمياً قبل ستة أعوام من أجل استعادة حقوقهم في الحرية والديمقراطية. لكن النظام الحاكم واجههم بالسلاح والعنف المفرط. ولم يجد شعب سوريا من يناصر فعلياً قضيته العادلة من بين حكومات دول الغرب. فقد تناسى أقوياء المجتمع الدولي واجباتهم الأخلاقية، التي تحتّم عليهم حماية حياة المدنيين في أي مكان من العالم. والمحزن أن الأمريكيين والأوروبيين لم يجدوا بأن شعب سوريا المسلم يستحق منهم التدخل لإنقاذه من محرقة الموت التي القي بها وما زال منذ عدة سنوات. والخشية من أن يكون مؤشر بوصلة الغرب الإنسانية لا يتجه صوب المجتمعات الإسلامية أبداً؟!!!..

لقد سمحت الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد أوباما، لروسيا وإيران باحتلال سوريا عسكرياً، ومنع إسقاط النظام الدموي فيها. وما كان للروس والإيرانيين أن يقدموا على تلك الخطوة لولا موافقة واشنطن المسبقة عليها. ويتأكد هذا بمؤشر واضح الدلالة؛ يعبّر عنه سلوك المسؤولين الأمريكيين، الذين اتخذوا من الاحتلال العسكري الروسي والإيراني لسوريا ذريعة في عدم تدخلهم بهذا البلد، وإغاثة شعبه الذي يتعرض للإبادة. فالإدارة الأمريكية السابقة قد اعترفت بحقيقة أن المشكلة في سوريا سببها النظام الذي يقتل شعبه. لكنها بررت تقاعسها عن ردعه بحماية روسيا وإيران له؟!!!. متعمدة بهذا الإيحاء تصوير الولايات المتحدة الأمريكية على أنها لم تعد الدولة العظمى الوحيدة المتحكمة بالعالم؛ عبر منح روسيا دور المنافس اللاجم لها سياسياً وعسكرياً. وإظهار إيران بالقوة العالمية التي تخشاها واشنطن. وتبدو حجة الأمريكيين تلك في منتهى السخف والسذاجة؛ باعتبار أن روسيا ليست دولة عظمى إلى الحد الذي يجعلها تواجه أمريكا، وتأثيرها في هذا الشأن مقتصر على امتلاكها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، وهي تعاني من مصاعب اقتصادية؛ نتيجة العقوبات الأوروبية المفروضة عليها، ومن مآزق سياسية كبرى؛ بفعل احتلالها العسكري لسوريا، ولأجزاء من أراضي جيرانها. وهو ما انعكس ضيقاً على وضعها الداخلي، وضعفاً على دورها الخارجي. أما إيران فقوّتها الإقليمية مضخمة بالأوهام. وهي رغم غناها الاقتصادي عاجزة عن توفير المستلزمات الأساسية لمواطنيها الغارقين بالفقر؛ فكيف يمكن لدولة فاشلة كتلك أن تقلق الدولة الأقوى في العالم؟.. ويبدو أن من غايات هذا التصرف الأمريكي الغامض؛ إضعاف روح المقاومة والصمود عند معارضي النظام في سوريا، ودفعهم إلى اليأس؛ عبر إشعارهم بأن لا سند أو داعم لهم، وأن مصيرهم معلّق بيد من لا يرحم..

واقع الأمر أن روسيا وإيران وميليشياتها الطائفية، والنظام في سوريا، ومعه تنظيم (داعش) الإرهابي؛ جميعها هي أدوات تعمل في خدمة المشروع الأمريكي بالمنطقة، والهادف إلى تفتيتها وتقسيمها إلى كانتونات قومية وطائفية. ولقد استطاعت الإدارة الأمريكية السابقة بواسطة تلك الأدوات تحويل الثورة السورية إلى حرب أهلية؛ ساهمت من خلالها بإدخال البلد إلى الفوضى، وأشاعت الكراهية والأحقاد بين مكونات المجتمع فيه.

تلك الأحقاد والضغائن المتولدة عن الحرب الداخلية لدى بعض من طوائف المجتمع السوري تجاه أخرى منه تم تغذيتها من قبل الأمريكيين والغرب عبر النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، كي تشكل عنصر فصل وعزل بين الطوائف السورية؛ بحيث تنكفئ كل منها عن الأخرى بحيز جغرافي محدد لها على شكل إمارة حرب قابلة للتحوّل لاحقاً إلى دويلة مستقلة. إذ لم يكن من العبث دعم النظام وتقويته لتمكينه من الاستيلاء على مناطق معينة، وإضعافه في أخرى لصالح ثوار المعارضة، ضمن لعبة توازنات تشكل من خلالها بواسطة آلة الحرب حدود كانتونات إثنية ومذهبية تتطابق على أرض الواقع مع المرسّم على الورق في خرائط مشروع التقسيم الأمريكي، التي كان نشر بعضها في وسائل الإعلام الأمريكية قبل سنوات عديدة. وما يمارسه النظام والإيرانيون اليوم من تغيير للتركيبة الديموغرافية في العديد من المناطق السورية، وخصوصاً في مدينتي دمشق وحمص وريفيهما؛ ينسجم تماماً مع هذا التوجه التقسيمي.

لقد تعاون الأمريكيون، في عهد إدارة أوباما، مع الروس والإيرانيين بتصنيع تنظيم (داعش) الإرهابي في سوريا والعراق؛ وجعلوا وظيفته، مع النظام، وإيران وميليشيات الأخيرة إشاعة الدمار والإرهاب والفوضى في البلدين العربيين المهمين؛ تمهيداً لتفكيكهما إلى كانتونات كردية وعلوية وشيعية وسنّية. وبدا النظام السوري من المتحمسين لتقسيم بلاده، بعد أن وجد فيه ما يضمن له بقاء سلطته الدموية، وإن على نطاق جغرافي محدود. فبعد اندلاع الثورة السورية في ربيع العام 2011 تيقّن هذا النظام المارق من استحالة استمرار حكمه على كامل أراضي البلاد؛ فلجأ قادته من العلويين إلى طائفتهم مستنجدين بها لإنقاذ النظام، الذي زعموا أنه (يمثّل) الطائفة. وناشدوا رجال الدين والمثقفين فيها بتبني خيار الانفصال عن سوريا؛ باعتباره (سيحمي) الطائفة بدعم دولي من مجازر ثأرية قد يتعرضون لها على يد طائفة الأكثرية الثائرة، بحسب إدعائهم.

فمع بدء انطلاق الثورة السورية، هرع المسئولون الأمنيون العلويون إلى طائفتهم محاولين استمالة رجال الدين، والنخب الفكرية والمثقفين فيها لصالح مشروع التقسيم في سوريا. مؤكدين لهم وجود إرادة دولية داعمة بقوة قيام (دولة) علوية في الساحل السوري، وضمانات غربية أكيدة بشأن حمايتها، ورعايتها مستقبلاً. وبأن لروسيا دور فاعل في تأسيسها. وبدا كشفهم هذا عن وجود دور روسي قادم في إنشاء كانتون علوي في ساحل سوريا أمراً مثيراً للاستغراب؛ كونه يأتي بعد أشهر قليلة من اندلاع الثورة السورية، ووقتها لم يكن الانخراط الروسي العملي ظاهراً في الأحداث السورية. وفي هذا مؤشر واضح على أن روسيا، كما النظام؛ هما جزء أساسي من مؤامرة التقسيم الدولية التي تستهدف سوريا، وفيه يكمن سر الإبقاء على هذا النظام المستبد، رغم كل ما أرتكبه ويرتكبه من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق شعبه. وهناك أمر هام آخر فيما تناوله المسئولون الأمنيون العلويون في حوارهم الداخلي مع أبناء طائفتهم؛ تمثّل بإدعائهم أن تركيا مقبلة على أحداث عاصفة، وعلى تغييرات كبرى؛ ستسمح بتوسيع رقعة مساحة (دولة) الطائفة شمالاً بعد قيامها. ويقصدون بذلك إلحاق إقليم (هاطاي) التركي بدولتهم المنتظرة. وهذا الإقليم كان في الماضي جزءاً من سوريا، وسكانه الأصليون هم من العرب العلويين.

وكان الإيرانيون الممسكون بالأرض التي يتواجد عليها النظام، قد استغلوا فرصة استفرادهم بالساحة السورية، قبل التدخل العسكري الروسي المباشر فيها؛ وعملوا على محاولة تأسيس مشروعهم الخاص بهم في سوريا، والذي يقوم على فكرة استبعاد الكانتون العلوي في المنطقة الساحلية، واستبداله بـ (دولة سوريا الغربية) الشيعية، فوق مساحة من الأراضي السورية يتصورون أنهم قادرون على الدفاع عنها، وتمتد من الحدود مع الأردن جنوباً، وحتى الحدود التركية في الشمال. وتضم دمشق، والمنطقتين الجنوبية والساحلية، وحمص (التي استولوا رسمياً على مناجم الفوسفات الضخمة الموجودة فيها؛ بموجب اتفاقيات موقعة مع حكومة النظام). و(الدولة) الشيعية هذه، هي التي كان رئيس النظام قد تحدث عنها في السابق؛ وأسماها (سوريا المفيدة)..

لكن التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، قد جاء ليحجّم من دور وطموحات إيران في هذا البلد. إذ استولى الروس على الساحل السوري بالكامل وأقاموا فيه العديد من القواعد العسكرية الخاصة بهم، وحرموا الإيرانيين بذلك من شريان حيوي لمشروعهم الاستيطاني في سوريا. وبدا الشريكان الروسي والإيراني وكأنهما في حالة صراع مصالح علني، يسعى كل منهما للاستئثار دون الآخر بمغانم الدولة السورية، ونهب ثرواتها. ولا يبدو بأن العقبة الروسية، وخسارة الساحل قد أثرت كثيراً على سعي الإيرانيين في إقامة مشروع دولتهم المذهبية في سوريا. وهم ماضون في عمليات التهجير القسري لأبناء العديد من مناطق دمشق وحمص، واستقدام شيعة الشمال السوري للحلول فيها مكانهم. كما وأنهم يعملون بالتعاون مع النظام على تجنيس آلاف المقاتلين الشيعة، المتعددي الجنسيات، الذين يحاربون بهم شعب سوريا، وتوطينهم في تلك المناطق السورية التي تخلى اليوم من سكانها الأصليين؛ ضمن عمليات واسعة لتغيير التركيبة الديموغرافية فيها. ويوحي الصمت الدولي حيال تلك الجريمة، التي ترقى لجرائم الحرب؛ على أن ما تفعله إيران من إفراغ مناطق سورية بأكملها من أهلها، واستبدالهم بآخرين من طائفة معينة؛ إنما هو من ضمن المهام المكلفة القيام بها لصالح مشروع التقسيم الجاري تنفيذه الآن في سوريا. والذي يسمح لإيران بإنشاء كانتون شيعي محاذي للبنان، ويكون جزءاً من دويلة (حزب الله) الإيرانية، القائمة فعلياً ضمن الدولة اللبنانية، والتي تصادر قرار الأخيرة الرسمي لمصلحة طهران. وإذا ما نجح الإيرانيون بتنفيذ مشروعهم هذا في سوريا يكونون قد اجتازوا بذلك المرحلة الأصعب في تحقيق مشروعهم الإقليمي الكبير الذي يحلمون به، والمتمثّل بالهلال الشيعي الممتد من طهران شرقاً وحتى شاطئ المتوسط غرباً، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. والذي كان حذر منه ملك الأردن عبد الله الثاني قبل سنوات عديدة.

إن ما يجري في سوريا اليوم؛ إنما هو تنفيذ عملي، بلغ شوطاً متقدماً من مخطط تقسيم سوريا. فالقوت الأمريكية تعمل في شمال سوريا، تحت غطاء محاربة تنظيم (داعش) الإرهابي؛ على تثبيت كيان (دولة) كردية، تسطو فيه على مساحات شاسعة من الجغرافيا العربية، بما فيها من ثروات بترولية، ومياه، وأراضي زراعية غنية جداً.. والروس، الذين احتلوا ساحل سوريا عسكرياً، أيضاً بذريعة محاربة (داعش)؛ يضعون الترتيبات الأولى في إنشاء (دولة) علوية في الساحل السوري، تؤمّن مصالحهم. وهم يستعينون في هذا الشأن بخبرات إسرائيلية، ربما تنتج كياناً مستنسخاً عن التجربة الإسرائيلية؛ دولة علمانية بجذور دينية طائفية.. بينما الإيرانيون منهمكون بمحاولاتهم المتعثرة إرساء أساسات مشروعهم الشيعي في وسط وجنوب غرب سوريا. ويبدو أن همّهم الأكبر فيه هو الظفر بحدود (إسرائيل) الشمالية مع سوريا ولبنان؛ بحيث يترتب على توفير الاستقرار لها ثمن على حكومات دول الغرب دفعه لطهران. وكذلك سيتيح للأخيرة إمكانية التلاعب بأمن واستقرار الأردن. إذ أعتاد الإيرانيون على ممارسة لعبة خلق أدوات وأذرع لهم داخل الدول المستهدفة من قبلهم، أو على حدودها؛ ومحاربة وابتزاز هذه الدول بواسطة تلك الأدوات المحلية. فالإيرانيون لا يحبذون مواجهة الخصوم مباشرة وجهاً لوجه؛ تجنباً للخسارة، وتحمّل التبعات السياسية والقانونية المترتبة على ذلك. وهم يفضلون محاربة الآخرين عبر أدوات محلية لا تكلفهم شيئاً.

إن أولئك المنخرطون بمؤامرة تقسيم سوريا، هم أنفسهم أكثر من (يحذّر) من خطورة حصول ذلك.. فالروس والإيرانيون والنظام السوري والغرب جميعهم يطالبون بضرورة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ومنع تقسيمها. محاولين خداع العالم بشعارات مضللة، ومبادرات غامضة لا جدوى منها (لحل) القضية السورية. بينما يكرسون في ممارساتهم العملية واقع التقسيم فوق الأرض السورية..

وإلى أن يصل السوريون إلى حالة من الإنهاك واليأس التامّين، ويظهروا استعدادهم للقبول بأي حل من شأنه إنهاء الحرب في البلاد، ووضع حد للمأساة الإنسانية فيها؛ ستستمر حرب التدمير العبثية في سوريا. ولن يسمح لأي طرف فيها بحسم المعركة لصالحه ضد الآخر. فالمجتمع الدولي لن يتدخل جدياً لإحلال السلام في سوريا قبل أن يستكمل المخطط الغربي ـ الروسي أبعاده في هذا البلد؛ وحينها سيفصل ما بين المتحاربين بحدود تبدأ مؤقتة، وتنتهي مقدسة.

■ طاهر سعود

خاص بـ (صفحات سورية)

▐رسام كاريكاتور، وكاتب سوري معارض، وسجين سياسي سابق. (من الطائفة العلوية).

–       ملاحظة: كتبنا هذه المقالة قبل شهرين، ولم يقبل أحد بنشرها لنا. فقد تجاهلها الجميع، ولم يكلف أحد ممن أرسلناها له عناء الرد على استفساراتنا بشأنها، باستثناء موقع (كلنا شركاء) الذي تحفظ عن نشرها، مطالباً بتهذيب بتعديلها وحذف الاشارة الواردة فيها إلى صلة أمريكا بتنظيم (داعش)..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى