مراجعات كتب

“تفكّر”» للباحث سايمن بلاكبرن الى العربية: مدخل أخّاذ الى الفلسفة

 

 

 

صدر كتاب مهم لسايمن بلاكبرن بعنوان «تفكّر» مدخل أخّاذ الى الفلسفة» ترجمة د. نجيب الغادي (عن هيئة البحرين للثقافة والفنون».

انه أول كتاب تصدره الهيئة ضمن «مشروع نقل المعارف»، كما جاء في تصدير الكتاب بقلم مي بنت محمد آل خليفة رئيسة هيئة البحرين للثقافة والفنون» ومن كلمتها: «لا حاجة الى تكرار التشكي من أوضاع الترجمة نوعاً وكماً في الوطن العربي. فهناك جهود تنامت منذ عقدين ولكنها في الأغلب، وابتغاءً للربح، تخضع لطلب السوق، خارج أي تخطيط أو تنسيق على صعيد اقليمي أو وطني (…)، و»ان مواكبة الانتاج المعرفي المتزايد، تفريعاً وسرعة ونقله الى العربية نقلاً دقيقاً وأميناً، وسدّ الهوة أو الفجوة، كما يقال، هي مهمات تاريخية أكبر من أن تترك للارتجال والتنافس في الأسواق(…) و»ان يكون «التفكر» موضوع الكتاب الأول، فهذا من قبيل الكتاب المناسب في الوقت المناسب والوضع المناسب. هذا «التفكر هو دعوة الى إعمال الفكر واعتماد العقل في ما نواجهه من ظواهر وسائل كبرى. وهو أيضاً دعوة الى التأمل الذاتي مع نَفَس تفاؤلي بقدرتنا عليه. وهو إذ يعرض وجهات نظر شهيرة لا ينزع الى فرضها على القارئ وإنما يترك له حرية التفكير فيها للأخذ بما يراه منها».

هنا مقدمة الكتاب.

هذا كتاب لمن يرغب في التفكر في المسائل الكبرى: المعرفة، والعقل، والحقيقة، والفكر، والحرية، والمصير، والهوية، والله، والخير، والعدالة. ليست هذه مناطق خفية لا تخص سوى المتخصصين، بل أمور يتساءل بشأنها الرجال والنساء طبيعياً، فهي تشكل سبل تفكيرنا في العالم وموضعنا فيه. وإن لدى المفكرين ما يقولونه عنها. إنني أحاول في هذا الكتاب طرح سبل التفكر في المسائل الكبرى، كما أعرض بعضاً ما يقوله المفكرون عنها. إذا تسنى للقراء فهم هذا الكتاب، فسيكونون أقدر على التعامل مع مثل هذه المسائل، وسيكون في وسعهم أن يقرأوا باستمتاع وبقدر مناسب من الفهم أعمال كثير من المفكرين المبرزين، ما كان لها في غياب ذلك الفهم إلا أن تكون مدعاة للإرباك.

تحمل كلمة «فلسفة» دلالات غير مناسبة: انها غير عملية، ولا تهم عالمنا، وغريبة. وأحسب أن لحظة صمت محرجة تمر على كل الفلاسفة وطلاب الفلسفة حين يسألهم شخص ما ببراءة عما يقومون به. أما أنا فأفضل أن أقدم نفسي بأني أمارس هندسة مفهومية. تماماً كما أن المهندس يدرس بنية الأشياء المادية، فإن الفيلسوف يدرس بنية الفكر. ويتضمن فهم البنية الدراية بالكيفية التي تعمل بها الأجزاء وترتبط وفقها. إنه يعني معرفة ما سوف يحدث في مختلف الظروف حال إجراء تغييرات بعينها. هذا ما نسعى الى القيام به حين نتقصى البنى التي تشكل رؤيتنا العالم. ذلك أن مفاهيمنا أو أفكارنا تشكل البيت الذهني الذي نقطن فيه، وقد نصبح في النهاية فخورين بالبنى التي شيدنا، وقد نعتقد أنه يجب علينا تفكيكها والشروع في تشييد بنى بديلة، غير أنه لزام علينا أن نتعرف أساساً الى ماهيتها.

الكتاب مكتف بذاته ولا يفترض توافر أي مصدر آخر للقارئ، غير أنهي قبل الإضافة. مثال ذلك أنه يمكن أن يُقرأ مرفقاً ببعض المصادر الأولى التي اقتبس مراراً منها. هذه كلاسيكيات ميسرة، من قبيل عمل ديكارت (Descartes) التأملات (Meditations) وعمل بركلي (Berkeley) ثلاثة محاورات (Three Dialogues) أو أحد عملي هيوم (Hume) بحث في الذهن البشري (Enquiry Concerning Human Understanding)، ومحاورات في الدين الطبيعي (Dialogues Concerning Natural Religion). غير أنه في الوسع أن يُقرأ بنفسه من دون الاطلاع على مثل هذه الأعمال. وعقب الانتهاء منه، يجب أن يطلع القارئ بذهن مهيأ على الكلاسيكيات، وأعمال أخرى في المنطق وعلم الأخلاق مثلاً.

[ فيمَ سنتفكر؟

إليك بعض الأسئلة التي قد يطرحها أي منا حول ذاته: من أنا؟ ما الوعي؟ هل يمكنني البقاء بعد فناء جسدي؟ هل في وسعي أن أتيقن من أن خبرات الآخرين وأحاسيسهم تشبه خبراتي وأحاسيسي؟ إذا لم أستطع أن أشارك الآخرين في خبراتهم، فهل يتسنى لي التواصل معهم؟ هل نتصرف دوماً خدمة لمصالح خاصة؟ وهل يمكن أن أكون مجرد دمية بُرمجت بحيث تقوم بأشياء أحسب أني أقوم بها بإرادة حرة؟

إليك أيضاً بعض الأسئلة عن العالم: لماذا وجدت الأشياء ولم يكن ثمة عدم؟ ما الفرق بين الماضي والمستقبل؟ لماذا تسير السببية دوماً من الماضي الى المستقبل، وهل يصح الاعتقاد في إمكان أن يؤثر المستقبل على الماضي؟ لماذا تستمر الطبيعة بطريقة منتظمة؟ هل يفترض العالم خالقاً؟ واذا كان كذلك، فهل يمكن لنا أن نفهم لماذا خلقه (أو خلقته، أو خلقوه)؟

وأخيراً، إليك أمثلة على أسئلة عن ذواتنا وعن العالم. كيف يمكن لنا أن نتأكد من أن العالم يتماثل في حقيقته مع ما نحسب أنه كذلك؟ ما المعرفة، وما القدر الذي نحوزه منها؟ ما الذي يجعل مجال بحث ما علماً؟ (هل التحليل النفسي علم؟ هل الاقتصاد علم؟) كيف نعرف بخصوص المواضيع المجردة، كالأعداد؟ كيف نحصل على معرفة بالقيم والواجبات؟ وكيف نعرف ما إذا كانت آراؤنا موضوعية أو ذاتية؟

الغريب في هذه الأسئلة أنها لا تبدو من الوهلة الأولى مربكة فحسب، بل تتحدى عمليات الحل البسيطة. إذا سألني شخص متى يبلغ المد والجزر أوجّهما، أعرف كيف أبدأ في الإجابة. ثمة جداول دقيقة للمد والجزر في وسعي الرجوع إليها، وقد أعرف على وجه التقريب كيفية إعدادها. وحتى إذا فشل كل ذلك، أستطيع أن أقيس مد البحر وجزره بنفسي. ترتهن مثل هذه الأسئلة للخبرة: إنها أسئلة إمبيريقية يمكن حسمها عبر اجراءات متفق عليها، تتضمن البحث والنظر، والقيام بقياسات، وتطبيق قواعد سبق اختبارها بالخبرة واكتشف أنها ناجحة. في المقابل، أسئلة الفقرة السابقة ليست كذلك. يبدو أنها تستدعي المزيد من التفكر. إننا لا نعرف بشكل مباشر أين نبحث، بل قد نشعر أننا لا نعرف تماماً ما نعنيه حين نطرحها، أو ما يشكل الحصول على أجوبة عنها. مثال ذلك، ما الذي يبين لين ما اذا كنتُ مجرد دمية بُرمجت بحيث تقوم بالأشياء التي أعتقد أنني أقوم بها بحرية؟ هل يجب علينا أن نسأل علماء متخصصين في الدماغ؟ ولكن كيف يتأتى لهم أن يعرفوا ما ينبغي عليهم البحث عنه؟ وكيف لهم أن يعرفوا أنهم عثروا على اجابة؟ تخيل عنواناً يتصدر الصحف: «علماء الأعصاب يكتشفون أن الكائنات البشرية ليست دُمّى. كيف؟

إذاً، ما الذي يثير مثل هذه الأسئلة المحيرة؟

بكلمة واحدة، إنه التأمل الذاتي، فلدى الكائنات البشرية قدرة لا تكل على التأمل في ذواتها. قد نقوم بشيء بسبب العادة، ولكننا نستطيع آنذاك الشروع في التأمل في هذه العادة. نستطيع بشكل اعتيادي التفكير في الأشياء ثم تدبر ما نفكر فيه. نستطيع أن نسأل أنفسنا (وقد يسألنا آخرون) ما إذا كنا نعرف ما نتحدث عنه. والإجابة عن هذا تستدعي التأمل في مواقفنا، وفي فهمنا ما نقول، وفي مصادر المرجعيات التي نركن إليها. قد نبدأ في التساؤل عما إذا كنا نعرف ما نقصد، إذا كان ما نقوله صحيحاً «موضوعيًّا« أو مجرد نتاج لمنظورنا وأسلوبنا في معالجة الموقف. بالتفكير في كل هذا نواجه مقولات من قبيل المعرفة والموضوعية والحقيقة، وقد نرغب في التفكر فيها. في هذه المرحلة يتأمل المرء في مفاهيم وإجراءات ومعتقدات كان دأب على مجرد استخدامها. سوف ننظر في سقالات فكرنا، ونمارس الهندسة المفهومية.

قد تطرأ مرحلة التأمل هذه اثناء نقاش عادي جداً. في مرحلة ما، يُلزَم المؤرخ بدرجة أو أخرى أن يتساءل عما تعنيه «الموضوعية»، أو «البداهة» أو حتى «الحقيقة» في علم التاريخ. كذلك، يجب على عالم الكوزمولوجيا أن يتوقف عن حل المعادلات التي تشتمل على «الزمان» مثلاً، وأن يسأل عما يعنيه الحديث عن تدفق الزمان أو مساره أو بدايته. غير أن الواحد منهما سوف يصبح آنذاك فيلسوفاً، بصرف النظر عما إذا كان قد لاحظ ذلك، وقد يشرعان في القيام بشيء ما بطريقة جيدة أو رديئة. والمرجو هو أن يقوما به بطريقة جيدة.

ولكن، كيف تتعلم الفلسفة؟ ثمة سؤال أفضل: كيف يتسنى اكتساب مهارات التفكر؟ يتضمن التفكر في أي سؤال تعهد بنى الفكر الأساسية، ويمكن القيام بهذا بطريقة جيدة أو رديئة، بشكل بارع أو أخرق. غير أن القيام به بطريقة جيدة لا يتوقف أساساً على اكتساب مجموعة من المعارف. الأمر أشبه بعزف البيانو بطريقة بارعة. إنها «معرفة الكيفية»

بقدر ما هي «معرفة المعلومات». والشخصية الفلسفية الأشهر في العالم القديم، سقراط في محاورات أفلاطون، لم يفتخر بمقدار معرفته. على العكس تماماً، لقد كان سقراط يتباهى بأنه الوحيد الذي يعرف الى أي حد تعد معارفة قليلة (التأمل مرة أخرى). ما كان يحسنه، افتراضاً، فتقديرات نجاحه مختلفة، هو عرض مواطن ضعف مزاعم الآخرين بالمعرفة. إن معالجة الأفكار بطريقة جيدة مسألة قدرة على تجنب الخلط واكتشاف حالات الغموض، والحفاظ على الأشياء في الذهن متمايزة، وتأمين حجج جديرة بالثقة، ووعي بالأبدال، وأمور أخرى من هذا القبيل.

خلاصة القول، يمكن أن نقارن أفكارنا ومفاهيمنا بالعدسات التي نرى عبرها العالم. وفي الفلسفة العدسة نفسها هي موضع البحث. أما النجاح فمسألة لا تقدر وفق ما نخلص الى معرفته في النهاية، بل بما نستطيع القيام به حين تصبح الظروف صعبة: حين تضطرب أمواج الحجج، ويطفو الخلط والارتباك على السطح، فإن النجاح يعني حمل ما تستتبعه الأفكار على محمل الجد.

[ ما المقصود؟

كل ذلك جيد، ولكن لماذا نثقل أنفسنا بهذا العبء؟ وما الغاية من التأمل أصلاً؟ ليس في وسعه أن ينجز أي مهمة. إنه لا يخبز الخبز ولا يجعل الطائرات تحلق في السماء. فلماذا لا نتجنب الأسئلة التأملية، ونكتفي بالاهتمام بسائر الأشياء؟ سوف أوجز ثلاثة أنواع من الأجوبة تطرح على ثلاثة مستويات: عالٍ، ومتوسط، ومتدنٍّ.

في أعلى المستويات يتعرض السؤال نفسه للتشكيك وهذه حيلة فلسفة نمطية، فهي تتضمن الصعود الى مستوى أعلى من التأمل. ما الذي نعنيه حين نسأل عن المقصود من شيء ما؟ لا يخبز التأمل خبزاً، ولكن كذا شأن العمارة والموسيقى والفن وعلم التاريخ والأدب. كل ما في الأمر أننا نريد فهم أنفسنا، ولا نريد من وراء ذلك شيئاً آخر، تماماً كما يرغب من يمارس العلم البحت أو الرياضيات البحت في فهم بداية الكون، أو نظرية الفئات، أو يرغب بالموسيقي في حل مشكلة في التناغم أو مزج الألحان، من دون أن يريد أي منهم من وراء ذلك شيئاً آخر، ليست هناك عناية بأي تطبيقات عملية. صحيح أن كثيراً من أمور الحياة تتعلق بتربية المزيد من الخنازير، أو شراء قطع أراض أخرى، بحيث تتسنى لنا تربية عدد أكبر من الخنازير وإضافة أراض أخرى الى ممتلكاتنا، وما إلى ذلك. الوقت المستقطع، أكان خصص للرياضيات أم الموسيقى، أم قراءة أعمال أفلاطون أو جين أوستن (Jane Austen)، وقت عزيز، فهو ينفق في الاهتمام بصحتنا الذهنية التي هي خير في ذاتها، تماماً مثل صحتنا البدنية. ثم إن هناك مكسباً آخر نحققه: الاستمتاع. حين تكون صحتنا البدنية جيدة، نستمتع بالتمارين البدنية، وحين تكون صحتنا الذهنية جيدة، نستمتع بالتمارين الذهنية.

هذه إجابة مجردة تماماً. مشكلتها ليست في كونها خاطئة، بل في أنها لا تروق في الغالب إلا لأشخاص نصف مقتنعين أصلاً، أشخاص لا يطرحون السؤال الأصل بنغمة عدائية.

لهذا السبب، ثمة إجابة تطرح على مستوى متوسط. التأمل مهم لأنه يستمر بالممارسة. كيفية تكفيرك في ما تقوم به تؤثر في كيفية قيامك به، أو في قيامك به أصلاً، فقد توجه بحثك أو موقفك من الأشخاص الذين يقومون به بطريقة مختلفة، بل قد توجه حياتك بأسرها. مثال ذلك، إذا جعلتك تأملاتك تعتقد في وجود حياة تعقب الموت، فقد تكون مستعداً لمواجهة مضايقات ما كان لك أن تواجهها لو أنك اقتنعت، كما يفعل كثير من الفلاسفة، بأنه لا معنى لفكرة الحياة بعد الموت. الجبرية، أو الاعتقاد في أن المستقبل محتم بصرف النظر عما نقوم به، اعتقاد فلسفي صِرْف، لكنه قد يشل الفعل البشري. بعبارة سياسية، قد تعبّر الجبرية عن رضا بالأوضاع المتدنية التي تعيشها بعض قطاعات المجتمع، وقد يفيد أصحاب الأوضاع الأعلى مرتبة من هذا الحال فيشجعون عليه.

لنفحص أمثلة أكثر شيوعاً في الغرب. كثير ممن يتأملون في الطبيعة البشرية يعتقدون أننا في نهاية المطاف أنانيون تماماً، فنحن لا نبحث إلا عن مصالحنا، ولا نُعنى حقيقة بمصالح الآخرين. الاهتمام الظاهر الذي قد يبديه بعضهم إنما يخفي الرغبة في الحصول على منافع مستقبلية. البراديغم المهيمن في العلوم الاجتماعية هو الانسان الاقتصادي (Homo economicus). هذا إنسان معني بنفسه، يخوض صراعاً تنافسياً مع الآخرين. لو اعتقد الناس أننا كلنا كذلك، في جميع الأوقات، لأصبحت العلاقات في ما بينهم مختلفة. سيغدون أقل ثقة في الآخرين، وأقل تعاوناً معهم، وأكثر ريبة فيهم. ومن شأن هذا أن يغير طريقة تفاعلهم، ويجعلهم يدفعون أثماناً باهظة. سيجدون أنه يصعب عليهم، وأحياناً يستحيل عليهم، إقامة مشاريع تعاونية: وقد يتورطون في ما يسميه الفيلسوف توماس هوبز (1588 1679) Thomas Hobbes)) «حرب الكل ضد الكل». في السوق، سوف ينفقون كثيراً على صفقاتهم التجارية، لأنهم يتوقعون أن يتعرضوا للغش. إذا كان موقفي «أن العقد اللفظي لا يساوي ثمن الورقة التي كتب عليها»، فسوف يكون لزاماً علي أن أدفع للمحامين وأكلفهم بإعداد عقود توقع على من يخل بها بعض العقوبات، وإذا كنت لا أثق في أن يقوم المحامون بشيء إلا مقابل ما يحصلون عليه من أجور، فقد اضطر الى أن أطلب من محامين آخرين معاينة تلك العقود، وهكذا. غير أن كل هذا يكون مؤسساً على خلل فلسفي رؤية الحوافز البشرية عبر مجموعة خاطئة من المقولات، ومن ثم إساءة فهم طبيعتها. قد يكون في وسع البشر أن يرعى بعضهم بعضاً، أو أن يهتموا بالقيام بنصيبهم من الرعاية أو البر بوعودهم. لو كانت هناك صورة للذات أكثر تفاؤلية، فقد يحاول الناس العيش وفق معاييرها، وتصبح حياتهم أفضل. لهذا السبب، فإن هذا القدر القليل من التفكر الذي يسعى الى فهم المقولات الصحيحة المناسبة للدراية بالحوافز البشرية، مهمة عملية خطيرة. إنها لا تقتصر على الدراسة، لكنها تنبثق منها.

[ كوبرنيكوس

إليك مثالاً مختلفاً تماماً. كان عالم الفلك البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (1473 1543) (Nicholas Copernicus) قد تأمل في الكيفية التي نعرف بها الحركة، فلاحظ أن كيفية إدراكنا إياها منظورية: أي إن رؤيتنا الأشياء تتحرك أو لا تتحرك إنما تنتج عن الموضوع الذي نكون فيه، وهي تنتج خصوصاً عما إذا كنا نحن أنفسنا نتحرك. (تعرض معظمنا لهذا الوهم في القطارات أو المطارات، حين يبدو القطار المجاور أو الطائرة المجاورة كأنها تتحرك، ثم نلاحظ عند الاهتزاز أننا نحن الذين نتحرك. غير أن الأمثلة المتوافرة في عهد كوبرنيكوس كانت أقل عدداً).

لهذا السبب، فإن حركة النجوم والكواكب الظاهرة قد لا تكون ناتجة عن حركتها الظاهرة، بل عن حركتنا ونحن نلاحظها، وهذا ما ثبت فعلاً. هنا أدى التأمل في طبيعة المعرفة، ما يسميه الفلاسفة البحث الإبستيمولوجي، المشتقة من كلمة episteme اليونانية التي تعني المعرفة، الى أول قفزة مدهشة في العلم الحديث. وعلى نحو مماثل، اتخذ تأمل إينشتاين (Einstein) البنية نفسها في كيفية معرفتنا ما إذا كان حدثان مخصوصان متزامنين. لقد لاحظ أن نتائج القياس تتوقف على طريقة تحركنا نسبة الى الوقائع التي نقوم بتوقيتها، وقد أفضى هذا الى نظرية النسبية الخاصة (اعترف إينشتاين نفسه بأهمية الفلاسفة السابقين في فهمه للتعقيدات الإبستيمية التي ينطوي عليها مثل هذا القياس).

ومثال أخير، لنا أن نفحص مشكلاً فلسفياً يخوض فيه كثيرون حين يتفكرون في الفكر والجسم. يتصور كثيرون أن هناك فصلاً حاسماً بين الفكر بوصفه شيئاً، والجسم بوصفه شيئاً مختلفاً. حين يبدو هذا حساً مشتركاً سليماً، قد يشرع في التأثير في الممارسة بسبل جد مغرية. مثال ذلك، سوف يبدو من الصعب رؤية كيف يتفاعل هذان الشيئان المختلفان تماماً. قد يجد الأطباء أنه لا مناص من فشل علاج الحالات البدنية الذي يركز على الأسباب الذهنية أو النفسية، وسرعان ما يستعصي عليهم فهم كيف أن التلاعب بذهن المرء قد يحدث تغييرات في النظام البدني الذي يشكل جسمه. في النهاية، يخبرنا العلم الجيد ان إحداث تأثيرات فيزيائية وكيميائية يتطلب أسباباً فيزيائية وكيميائية. وهكذا قد نخلص الى يقين قبلي في أن نوعاً من العلاج (أدوية وصدمات كهربية مثلاً) محتم بأن يكون «صحيحاً» وأن سبلاً أخرى في العلاج (مثال التعامل مع المرضى بطريقة انسانية، والإرشاد، والتحليل) محتم أن تكون «خاطئة»: أي غير علمية وغير صحيحة، ومآلها أن تفشل. غير أنه لا مراء في أن هذا اليقين ليس مؤسساً على العلم، بل على فلسفة خاطئة. بمقدور تصور فلسفي أفضل في العلاقة بين الفكر والجسم أن يغيره. ويجب على مثل هذا التصور أن يمكننا من رؤية كيف أنه لا غرابة في حقيقة التفاعل بين الجسم والفكر. كلنا يعرف مثلاً أن التفكير في أشياء (وهذا وضع ذهني) قد يجعل وجه المرء يحمر خجلاً (وهذا وضع بدني). كذلك، فإن التفكير في خطر قادم قد يسبب كل أنواع التغيرات الجسدية: خفقان القلب، إطباق الأصابع، انقباض الأمعاء. وقياساً على ذلك، يجب ألا يصعب علينا فهم أن يسبب وضع ذهني كالتفاؤل المفرط وضعاً بدنياً كاختفاء البقع أو حتى الشفاء من السرطان. سوف يصبح حدوث مثل هذا الأشياء مجرد واقعة إمبيريقية، وهكذا يظهر أن اليقين القبلي باستحالة حدوثها ناتج عن فهم رديء لبنى الفكر. بعبارة أخرى، فإنه يتوقف على فلسفة رديئة، وهو بهذا المعنى علم رديء. وإنه بمقدور هذه الملاحظة أن تغير مواقف وممارسات طبية كثيرة وتجعلها أفضل حالاً.

هكذا تذكرنا اجابة المستوى المتوسط بأن التأمل يشكل مواصلة للممارسة، وبأن ممارستنا قد تصبح أسوأ أو أفضل حالاً بحسب قيمة تأملاتنا. إن نسقاً فكرياً ما لهو شيء نعيش فيه، تماً كما نعيش في بيوتنا، وإذا كان بيتنا الفكري ضيقاً، فإننا نحتاج الى معرفة ما إذا كانت هناك بنى أوسع.

[ ونحوياً

تحسّن إجابة المستوى المتدني هذا الأمر بعض الشيء، ليس نسبة الى مواضيع جميلة وصافية مثل علمي الاقتصاد والفيزياء، بل الى مواضيع أدنى من ذلك واقل تأدباً. من ضمن أساليب الهجاء التي كان يخطها الرسام الاسباني غويا (Goya) عبارة تقول «غفوة العقل تخلق وحوشاً». لقد اعتقد غويا أن كثيراً من أخطاء الجنس البشري تنجم عن «غفوة العقل». هناك دائماً أناس يخبروننا عما نريد، وكيف يزمعون توفيره، وما يجب علينا اعتقاده. الاعتقادات معدية، وبمقدور الناس أن يجعلوا الآخرين يعتقدون في أي شيء. عادة ما نكون مهيئين للاعتقاد بأن سبلنا، ومعتقداتنا، وديننا، وسياستنا أفضل من سبلهم ومعتقداتهم ودينهم وسياستهم، أو أن الحقوق التي وهبها لنا إلهنا أسمى من حقوقهم، أو أن مصالحنا تستدعي ضربات دفاعية او استباقية ضدهم. في النهاية، يتقاتل الناس على افكار. بسبب افكارنا عن الاخرين، او عن هوياتهم، او عما تتطلبه المصالح او الحقوق، نذهب الى الحرب، او نقمع الاخرين بضمير راض، وقد يحدث احيانا ان نقبل باضطهادهم لنا. وحين تنتج هذه الاعتقادات عن غفوة العقل، يصبح الصحو النقدي ترياقا. التفكر هو الذي يمكننا من الرجوع الى الخلف، من رؤية منظورنا الى الموقف الذي قد يكون مشوها او اعمى، او في الاقل رؤية ما اذا كانت هناك حجج تفضل سبلنا على غيرها، او ما اذا كانت هذه السبل ذاتية صرفا. ويعد القيام بهذا بشكل مناسب مثالا اخر على الهندسة المفهومية.

ولأنه لا سبيل الى معرفة مسبقة بالمطاف الذي سوف يأخذنا اليه التأمل، قد يكون خطرا، وثمة دائما افكار مخالفة له. كثيرون يقلقون، او يستنفرون، بسبب الاسئلة الفلسفية. بعضهم يخشى الا تصمد افكارهم كما يرغبون لها ان تصمد اذا شرعوا في التفكر فيها، في ما قد يرغب اخرون في التشبث «بسياسة الهوية» اي مناصرة موروث بعينه، او جماعة او هوية قومية او اثنية، تطلب منهم ان يديروا ظهورهم للغرباء المشككين في انماط عيشهم. سوف يستخفون بالنقد، متحججين بأن قيمهم لا تقبل المقارنة بقيم الغرباء. لن يفهمهم الا اخوتهم واخواتهم ضمن الطائفة التي ينتمون اليها. وهكذا يرغب الناس في اللجوء الى مجموعة من سبل التفكير التقليدية والمريحة والمتينة الرائجة في مجتمعهم، من دون ان يحفلوا كثيرا ببنيتها، او اصولها، او حتى بالنقد الذي تستحق. التأمل يفتح باب النقد، لكن سبل التفكير الرائجة في اي جماعة قد لا ترحب بالنقد. وعلى هذا النحو، تصبح الايديولوجيات حلقات مغلقة، تستثار حين تواجه عقولا مرتابة.

على مدى ألفين وخمسمائة عام عادى التقليد الفلسفي هذا النوع من الرضا المريح. لقد اكد ان الحياة التي لا تمتحن ليست جديرة بالعيش، كما اكد قدرة التأمل العقلاني على تنقية العناصر الرديئة في ممارساتنا، والاستعاضة عنها بعناصر افضل. فضلا عن ذلك، ما هي التقليد الفلسفي بين التأمل الذاتي النقدي والحرية، فنحن لا نستطيع السيطرة على المسارات التي نبتغي التحرك صوبها الا اذا كان بمقدورنا ادراك انفسنا بشكل مناسب، ولا نستطيع الشروع في التفكر في ما ينبغي علينا القيام به في موقفنا الا اذا ادركناه على نحو منتظم وشامل. يقول ماركس ان اسلافه من الفلاسفة رغبوا في فهم العالم، في حين ان الامر المهم هو تغييره، وهذه ملاحظة من اشهر الملاحظات السخيفة في كل العصور (تفندها ممارسة ماركس الفكرية نفسها). لقد كان يحسن به ان يضيف انه ما كان لنا ان نعرف كثيرا عن كيفية تغيير العالم الى الافضل لو لم يتسن لنا فهمه. يعترف روزنكرانتز (Rosencrantz) وغولدنسترن (Guildenstern) بالعجز عن عزف المزمار، لكنهما يرغبان في التلاعب بهاملت (Hamlet). حين نمثل من دون فهم، يكون العالم مهيأ لان يردد مع هاملت: «بالله عليك! اتحسن انه ايسر عليك ان تلعب بي من ان تلعب بمزمار»؟.

هناك تيارات أكاديمية في عصرنا تناهض هذه الافكار. ثمة اناس يضعون مفهوم الحقيقة او الفكر او التأمل المتجرد موضع سؤال. في معظم الاحوال، تمارس هذه التيارات فلسفة رديئة، غالبا من دون معرفة ان هذا ما تقوم به: هندسة مفاهيم عاجزة عن رسم خطة، ناهيك بتصميم بنية. سوف نتطرق الى ذلك في مواضع مختلفة من الكتاب، غير انني استطيع ان اعد الان بأن هذا الكتاب يناصر التقليد الفلسفي دونما خجل ضد اي تشكيك حداثي أو بعد حداثي في قيمة التأمل.

شعار غوبا بأكمله يقول: «ملكة المخيلة (Imagination) التي يتخلى عنها العقل تخلق وحوشاً مستحيلة: وحين يتحد العقل بها، تصبح ام الفنون ومأتى عجائبها»، وهكذا يجب علينا ان نباشره.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى