صفحات سوريةمصطفى كركوتي

تقدّم «الملف النووي» يُفقِد «حزب الله» ملاءمته الإقليمية/ مصطفى كركوتي

 

 

 

للعلاقات السياسية ديناميكية لا لبس فيها تحكمها دائماً، وهي قابليتها للتغير بما يتلاءم مع ظروف اللحظة. جميع المناقشات والتحليلات العامة في عواصم الغرب اللاحقة لإعلان اتفاق المبادئ في شأن الملف النووي بين إيران ودول مجلس الأمن الدائمة العضوية وألمانيا، عكست هذا الواقع، إذ ما يصح اليوم في السياسة يصبح باطلاً في الغد. فمن كان يعتقد في الأمس أن التنسيق الحيوي بين طهران وواشنطن بات ممكناً من الناحية الاستراتيجية اليوم.

فـــقبل بدء الحوار بينهما عام 2007 اعتقلت القوات الأميركية في العراق خمسة إيرانيين قيل إنهم من أعضاء «الحرس الثوري» الإيراني دخلوا ســـــراً إلى العراق بتهمة تدريبهم لعناصر تعمل لصالح ذاك التنظيم. ولكن الآن، وبعد سبع سنوات، نرى كيف أن قائد قوات «فيلق القدس» الذي يعتبر جزءاً من «الحرس الثوري»، الجنرال قاسم سليماني، يستطيع أن يعمل علناً ومن دون قيود داخل العراق بمعرفة الأميركيين، بل بالتفاهم معهم، حتى قبل أن يبدأ انسحاب قواتهم في شكل رئيسي من العراق. فإدارة الرئيس باراك أوباما وجدت في سليماني وطهران المنقذ الذي هبط من السماء لتحقيق الخروج الهادئ لقوات أميركا من ذلك البلد المنكوب.

ولأن السياسة محكومة بدينامية جملة المصالح والظروف المتغيرة، تخلت طهران سابقاً عن شخصية مثيرة للجدل نوري المالكي مثلما تخلت قبل ذلك عن حـكومة نجيب ميقاتي في لبنان من دون حتى استشارة دمـشق. فهذه الأخيرة وفي ظل انحسار سيطرتها على الأراضي السورية منذ نهاية 2012، خسرت القرار النهائي في شأن الورقـة السورية إقليمياً ودولياً لمصلحة طهران، حيث أصبحت في حوزتها أدوات عدة فعالة بما في ذلك تحريك ميليشيا «حزب الله» في هـذا البلد أو في جواره. فتفاقم الأزمة في العراق بدءاً من 2007 و2008، أفسح في المجال أمام نشوء تعاون إستراتيجي مهم بين العدوين اللدودين السابـقيـن: الولايـات المتحدة وإيران. ويجب أن لا يبدو ذاك التعاون غـريـبـاً في ضـوء تـفاهم سابق بـيـن البـلدين في شأن العراق وأفغانستان. فلإيران الفضل الكبير في تسهيل مهمة الولايات المتحدة في غزو أفغانستان وإطــــاحة نـــظام «طالبان» عام 2001، إثر تزويــــــدها واشنطن معلومات استخباراتية عسكـــرية مهــــمة حول الوضع هناك. كذلك فعلت طهران في شأن الوضـــع في العراق أثناء المفــاوضات الثنائــيــة مــــع واشنــــطن في شأن الوضع الأمني المتدهــور فيـــه عام 2007. تم ذلك في عهد الرئيس الأميركي السابـق جورج دبليو بوش ولم يتوقف في عهد خلفه أوباما.

وعلى رغم ما يتردد حول موقف المحافظين في إيران المعارضين لسياسة التعاون مع الولايات المتحدة في شأن الملف النووي وجملة القضايا ذات الطبيعة الإستراتيجية في المنطقة، فذلك لم يردع الجنرال سليماني عن الظهور العلني في العامين الماضيين في الإعلام المحلي والإقليمي، إذ بات من المسموح أن تبث قنوات التلفزيون الإيرانية برامج وثائقية عنه كما ظهرت صوره في الصفحة الأولى لأكثر من صحيفة إيرانية.

فقد خرج رجل إيران القوي (على الأقل حتى الآن) من الظل كي يحصد ما كان يزرعه سراً من جهود في المشاركة في صوغ سياسة بلاده الخارجية في الإقليم، لا سيما العراق وسورية ولبنان. فهو كان له، وليس «حزب الله»، الرأي الأول في تسهيل عودة الرئيس سعد الحريري القصيرة في الشهر الماضي إلى بيروت للمشاركة في ذكرى اغتيال والده الرئيس الراحل رفيق الحريري قبل عشر سنوات. كما أنه المسؤول عن التنسيق في صوغ سياسة مواجهة هجوم ميليشيات تنظيم الدولة «داعش» ووقف تمدده في العراق كما فعل قبل ذلك في سورية.

كما يعرف عن الجنرال سليماني على نطاق واسع، وبالتفاهم أيضاً مع الخارجية الأميركية، كيف نجح في وضع إستراتيجية ساهمت في إنقاذ الرئيس السوري بشار الأسد من السقوط على يد قوات المعارضة السورية حتى قبل ظهور «داعش» على أفق الأحداث في سورية. وكشف سفير واشنطن السابق في بغداد راين كروكر الدور المركزي الذي يلعبه سليماني في سياسة بلاده الإقليمية في وثائقي بثته محطة «بي بي سي» أوائل العام الماضي، حيث ذكر كيف أن نظيره الإيراني في بغداد كان يطلب وقف المحادثات معه في العاصمة العراقية بين الحين والآخر، كي يخرج إلى الغرفة الملاصقة لاستشارة سليماني هاتفياً في شأن ما يستعصي عليه من نقاط. ويقول كروكر: «لم أفهم في البداية سبب طلب وقف المحادثات ولكن علمت لاحقاً كيف أن السفير الإيراني كان يستوقفني بين الحين والآخر للاتصال بطهران طالباً التوجيه في شأن ما كنت أثيره من نقاط معه.

فقد كان واقعاً تحت سيطرة قبضة متينة وكانت تلك قبضة قاسم سليماني الموجود على الطرف الأخر لخط الهاتف». كما شعر السفير كروكر بأهمية سليماني عندما كان سفيراً لبلاده في أفغانستان، ويقول في هذا الصدد: «المحاورون الإيرانــــيون معي في شأن أفغانستان أوضحوا من دون لبس أنهم كانوا ينقلون جميع ما يجري من حوار إلى وزارة الخارجية، ولكن القـــــرار النهائي كان بيد الجنرال سليماني بالكامل». وبات دور الجنرال في شؤون الســـياسة الخارجية لإيران معروفاً الآن عـــلى الصعد المحــلية والإقليمية والدولية.

فالتوقعات تشير إلى أن الملف النووي في طريقه إلى الطي النهائي آخر حزيران (يونيو) المقبل، ما يؤدي بدوره إلى فتح السبيل أمام الرفع التدريجي السريع لإجراءات المقاطعة الاقتصادية والمالية المفروضة على إيران وتأهيلها لإعادة الإندماج الطبيعي في المجتمع الدولي.

فإذا كان الجنرال الإيراني هو الذي فتح الباب أمام ميليشيا «حزب الله» للعبور من لبنان إلى سورية لتحقيق أهداف محسوبة بدقة، فهو أيضاً القادر على إعادة هذه الميليشيا إلى أراضيها، وقد لا يطول الوقت كي يفعل ذلك لأن استمرار وجودها خارج أراضيها لم يعد ملائماً لجملة التفاهمات التي تصر عليها الدول الغربــية، بخاصة الأوروبية.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى