صفحات سورية

تقرير عن دير الزور

 

“فرقة الموت” المؤلفة من الحرس الجمهوري والحرس الثوري الايراني

الانتقام من الشعب السوري بالسيوف والرصاص

دير الزور (شرق سوريا) “

الفرقة الوحيدة، ربّما، التي تنقـّلت بين كلّ المدن السوريّة الثائرة هي التي عُرفت باسم فرقة الموت. تلك التي قامت بمجازر مروّعة بحقّ المدنييّن العزّل، من ضرب وتعذيب وسحل وحرق وقتل، في النهاية، بالرصاص والسكاكين، على مرأى من أهاليهم، أو من أهالي الحيّ الذي نشأوا فيه!.

هذه الفرقة التي تنقّلت بين مدن عدّة، مثل حمص ودرعا ودمشق وحلب، قامت بأعمال وحشيّة جدا في الفترة التي دخلَت فيها مدينة دير الزور (455 كيلومترا شمال شرقي العاصمة دمشق) من يوم الأربعاء 26/9/2012 وحتى يوم خروجها في يوم الأربعاء التالي 3/10/2012 مخلـّفة وراءها أكثر من /532/ قتيلا تمّ العثور على جثثهم حتى كتابة هذا التقرير، وهذا العدد مرشّح للازدياد مع وجود أعداد كبيرة من المفقودين.

تألـّفت فرقة الموت أو فرقة الإعدامات الميدانيّة، كما اشتهرت في تسميتها في كلّ المدن التي ارتكبت فيها مجازرها الكبيرة، من أربعمائة عنصر من اللواء /104/ التابع للحرس الجمهوري، هذا اللواء الذي هو تحت أمرة العميد عصام زهر الدين، بقيادة العقيد علي خزّام، إضافة إلى خمسين مقاتلا يُعتقد أنـّهم من الحرس الثوريّ الإيرانيّ.

هناك دلائل عدة، وفق شهادات الناجين من تلك المجازر، أكـّدت انتماء الفرقة للحرس الجمهوريّ السوريّ والحرس الثوريّ الإيرانيّ:

أولا بالنسبة للحرس الجمهوريّ السوريّ:

من المعروف أنّ بعض الضباط الكبار في الجيش النظاميّ هم فقط مَن يرتدون الدروع الواقية من الرصاص. بينما عناصر الحرس الجمهوريّ، أثناء مهامهم القتاليّة، جميعهم يرتدون تلك الدروع، ضباطا وجنودا ً.

كان يوجد على الكتف الأيمن للمقاتلين الأربعمائة، وبشكل ملاصق للدرع، خيط أحمر عريض من السيلوفان، إضافة لشارة قماشيّة سوداء اللون مكتوب عليها باللون الذهبيّ: “الحرس الجمهوريّ 104”. وكان الضباط منهم يضعون، إضافة لذلك، شارات حمراء عريضة على الزنود، لتفريقهم عن الجنود العادييّن؛ كونهم لا يضعون الرتب العسكريّة أثناء مهامهم، القتاليّة، خارج الثكنات.

جميع الضباط، وغالبيّة العناصر، كانت بذقون طويلة، ويحملون سيوفا كبيرة على ظهورهم، لاستخدامها في عمليّة الذبح والقتل، إضافة لرشاشات متطوّرة وصغيرة الحجم، وهي شديدة الشبه برشاش “عوزي” الإسرائيليّ الصنع.

ثانيا بالنسبة للحرس الثوريّ الإيرانيّ:

الخمسون عنصراً، الذين كانوا يرافقون العناصر الأربعمائة من الحرس الجمهوريّ، كانوا يلبسون بزّات عسكريّة مبرقعة، شبيهة بلباس الحرس الجمهوريّ السوريّ، ويلبسون تحتها الدروع الواقية من الرصاص، ولكن من دون شارات حمراء، لا على الأكتاف ولا على السواعد، ولا يلبسون الخوذات العسكريّة. وكانوا ضخام الأجساد وصلعان الرؤوس وبذقون طويلة، وتوجد قماشة سوداء، مثل لفحة، ظاهرة من الدرع وملفوفة على الرقبة. وكان يوجد على صدرهم حامل جلدي، يحمل سكينة عريضة وطويلة، مكتوب عليه: “يا حسين”.

ما كان يميّزهم، عن باقي عناصر الفرقة، أنـّهم لا يأتمرون من ضباط وعناصر الحرس الجمهوريّ السوريّ، بل كانوا يتصرّفون وفق ما يرونه مناسبا.

الأحياء المنكوبة وأماكن المجازر:

المجازر التي قامت بها فرقة الموت تمّت في حييّ “القصور” و”الجورة”، وهي من الأحياء الغربيّة لمدينة دير الزور، وهي تتميّز بكثافة سكانيّة كبيرة، وازدادت بسبب نزوح أهالي أحياء الحميديّة والشيخ ياسين والجبيلة والعرفي، التي كانت تُقصف بالمدفعيّة والدبابات والصواريخ والبراميل المتفجّرة منذ منتصف الشهر السادس من عام 2012. وبسبب هذا القصف المتواصل لم يتبقّ في الأحياء الأربعة السابقة الذكر، وفق إحصائيّات أهليّة غير رسميّة، سوى ما يقرب /6000/ نسمة من أصل /150000/ نسمة، نزح الكثير منهم باتجاه حييّ القصور والجورة، بينما نزح الباقي إلى المدن السوريّة الأخرى.

صحيح أنّ هذه الفرقة حاولت اقتحام أحياء معيّنة من مدينة دير الزور، بمساندة أماميّة من مدرّعات الجيش النظاميّ، يوم الأربعاء 26/9/2012، إلا أنّ الأعمال الوحشيّة لهذه الفرقة بدأت فجر الخميس 27/9/2012 عندما تمّ اقتحامها من مدرعات الجيش النظاميّ من مدخل حيّ الجورة، فدخل عناصر فرقة الموت وراءهم راجلين، وقاموا بتمشيط البيوت في “جمعيّات الرصافة” و” شارع الوادي”، متجهين نحو حيّ القصور، بحماية مدرّعات الجيش النظاميّ التي كانت تنتشر في أماكن تواجدهم، حيث قاموا بتمشيط وتفتيش البيوت في “جمعيّة حوض الفرات” و”مساكن المعلـّمين” و”جمعيّة الدير العتيق” و”حارة البيجامات”، وحارة البيجامات هذه مشهورة شعبيـّا بهذا اللقب، ولها اسم متداول آخر هو حارة “بكتن” كون موظفي شركة بكتن النفطية كانوا يسكنونها.

كان عناصر الحرس الجمهوريّ الأربعمائة يتوزّعون على البيوت ويقومون بتفتيشها وتكسير محتوياتها، وفي طريقهم لأخذ البطاقات الشخصيّة من الشبّان، الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والأربعين، وإنزالهم مقيّدين إلى خارج الأبنية، كانوا يقومون بنهب المحتويات الثمينة، من ذهب ونقود، إضافة لأجهزة المحمول والحواسيب الشخصيّة المحمولة. وتخلـّل ذلك الكثير من الضرب والإهانة والشتائم، العنصريّة والمذهبية، للنساء والشيوخ من أهالي الشبان المعتقلين.

كان يتمّ اقتياد الشبّان إلى ساحة الشارع وصفـّهم مقيّدين إلى أحد الجدران، بينما يمنع عدد من العناصر أهاليهم من الخروج من البيوت لمعرفة مصير أبنائهم، مكتفين بمشاهدة ذلك المصير، مع العويل والنحيب الكبيرين من شرفات البيوت أو النوافذ لمَن يستطيع تحمّل مشاهدة تلك المصائر. ثمّ يقوم أحد الضباط باختيار الشبّان ذوي الأجساد القويّة والسليمة ليبقوا مصفوفين ووجوههم إلى الجدار، بينما يتمّ سحب مَن لم يتمّ اختياره بعيدا عنهم، في نفس المكان، ويتمّ الاعتداء عليهم بالضرب المبرّح وهم مقيّدو الأيدي، وبعد الانتهاء من حفلة الضرب تلك يتمّ وضعهم في حافلات، تابعة للفروع الأمنيّة والجيش النظاميّ، ترافق فرقة الإعدام في كلّ تحرّكاتها الراجلة. أمّا الشبّان الذين تمّ انتقاؤهم، وبقوا مصطفيّن أمام الجدار، فكان يتمّ إعدامهم بالرصاص الكثيف أمام الأهالي وبقيّة المعتقلين، وتُترك جثثهم في المكان نفسه، الذي يغادروه باتجاه شارع جديد، متقدّمين نحو حيّ القصور وتنفيذ المجزرة الكبرى.

الكثير من الشبّان الذين تمّ أخذهم بالحافلات كان يتمّ ذبحهم بالسكاكين ورميا بالرصاص في الشوارع التي لم يعثر فيها عناصر فرقة الموت على شبّان فيها، كنوع من الترهيب الجماعيّ لجميع أهالي تلك الشوارع. أما الذين بقي منهم على قيد الحياة، في ذلك اليوم، فتمّ العثور على جثثهم في أماكن متفرّقة وبعيدة عن بعضها، ولكنّ جميعها كانت تحت سيطرة الجيش النظاميّ، ويتم العثور عليها، في الأبنيّة غير مكتملة البناء أو الأقبية أو الحدائق أو المقبرة، بمجرّد انسحاب الجيش النظاميّ منها، ووقوعها تحت سيطرة الجيش السوريّ الحرّ، أو كان يُستدلّ عليها من تحليق سرب النسور فوق بقعة معينة، فكان الأهالي يهرعون إلى هناك فيكتشفون جثثا جديدة لأبنائهم، مثلما حدث لجثث /86/ شابا تمّ العثور عليهم مذبوحين ومحترقين في المقبرة في احد أيام شهر تشرين الأول2012.

أثبتت الخبرة الطبيّة التي أجريت على الجثث التي تمّ العثور عليها، وكان منها ثلاثة جثث في يوم 22/11/2012 في أحد المساجد في المدينة، وثمانية جثث لعائلة العبوش يوم 1/12/2012، بأنّ كلّ تلك الجثث قد تمّ قتل وذبح وحرق أصحابها في تواريخ تقع بين يوم 27/9/2012 و3/10/2012.

المجزرة الكبرى ومعركة تحرير المدنييّن:

في اليوم المذكور، الأربعاء 27/9/2012، تمّ تجميع أكثر من /70/ شابا من حيّ القصور ووضعهم مكبّلين على حائط مدرسة الشهيد حسّان العطرة (الواقعة في حيّ البيجامات)، وأهالي الشبّان، وأهالي الحيّ يندبون على الشرفات المطلـّة على المكان، ولأجل ذلك تمّ التعذيب على شكل عرض ٍ مسرحيّ دمويّ أمام المتفرّجين، الذين كان يُغمى على الكثير منهم بسبب واقعيّة الوحشيّة المدمّرة لأعصابهم على فلذات أكبادهم.

ابتدأ العرض بالتحقيق الميدانيّ مع سبعة من الشبـّان المكبّلة أيديهم، وتمّ الاعتداء عليهم بشكل وحشيّ، ومن ثمّ تمّ إعدامهم بالرصاص بدمّ بارد. وعندما قامت النساء بالندب والعويل، بعد ذهاب رجاءاتهم أدراج الرياح، قام عدد من العناصر التابعين للحرس الثوريّ الإيرانيّ بذبح ستة شبـّان على مرأى من الجميع، وهم يردّدون شعارات وأهازيج بلغة غريبة، إيرانيّة، وفق شهادات الأهالي الناجين، وكان عناصر آخرون يُطلقون النار في الهواء ابتهاجا ً!!.

حيّ البيجامات، والمكان الذي تمّ فيه العرض المسرحيّ الدمويّ، يكشف الشوارع الأخرى حولها، أي أنّ مَن يحاول مهاجمة الفرقة من أيّ طرف من الشوارع المقابلة وزواياه، يُعتبر في مرمى نيران جنود الجيش النظاميّ ومدرعاته، التي انتشرت في كلّ زاوية من تلك الحارة. بمعنى آخر، كان الجيش النظاميّ، وفرقة الموت نفسها، قد جهّزت نفسها، بل قامت بهذه الإعدامات للمدنييّن لاستدراج عناصر الجيش الحرّ إلى هذا المكان المكشوف أرضا وجوّا ً.

ورغم أنّ الجيش الحرّ كان خارج تلك المنطقة، ولم يضع تكتيكا عسكريّا لاقتحامها، لعدم معرفة أماكن تمركـّز قوات الجيش النظاميّ، ولا عدد عناصره، إلا أنّ وصول أخبار الإعدامات الميدانيّة، بشكل متواتر، إلى الأحياء الأخرى، وبالتالي إلى عناصره جعل عناصر لواء “درع الفرات”، بالتعاون مع عناصر من كتيبة “الحمزة”، يتـّخذون قرارا سريعا ًوبطوليّا، وانتحاريّا أيضا، بمهاجمة فرقة الموت، وعناصر الجيش النظاميّ، من زاوية “الكوخ” التي تطلّ على شارع عريض فيه جزيرة، منصّف، وينتهي بمكان الجريمة، لإغاثة الشبّان الذين تابع عناصر فرقة الموت بقتل البعض الآخر منهم بدمٍ بارد وبأهازيج واحتفالات.

هجوم عناصر الجيش السوريّ الحرّ كان مفاجأة للفرقة، رغم تحسّبها لذلك مسبقا.

عندما بدأ الهجوم قام مَن تبقـّى من أولئك الشبّان على قيد الحياة بالركض باتجاه عناصر الجيش الحرّ، فتمّ إنقاذ /13/ شابّا من الموت المحتـّم، وهذا ما جعل عناصر الجيش الحرّ يُهاجمون الجيش النظامي من منتصف الشارع، وبشكل مكشوف جدا، كي لا يُصيبوا الشبّان الذين هرعوا إليهم، وهذا بالضبط، إضافة لعدم وجود قرار مسبق وتكتيك مسبق بالهجوم على قوّات الجيش النظاميّ المساندة لفرقة الموت المجهّزة والمدرّبة بشكل عال على قتال الشوارع، ما أدّى إلى مقتل عشرين مقاتلا من عناصر الجيش السوريّ الحرّ، وكان على رأسهم الشهيد قيصر آصف هنداوي؛ وهو قائد لواء درع الفرات ونائب رئيس المجلس العسكريّ في دير الزور، الذي قـُتل بطلقات رشاش من الحوّامة التي ساندَت قوّات الجيش النظاميّ من الجو. بينما أدّى الهجوم، إضافة لإنقاذ /13/ من الشبّان، ومنهم شاب سقط على الأرض، ولم يعد يستطع الركض، فقام عنصران من الجيش السوريّ الحرّ بسحبه سالما من المكان، إلى مقتل عشرة عناصر من الحرس الجمهوريّ، وإصابة قائد عملياتهم العقيد علي خزّام، الذي أصيب بشظايا في قدميه وركبتيه ورصاصة في البصلة السيسائيّة، حيث تمّ نقله بالطائرة على الفور إلى المشفى /601/ بدمشق، وتوفي بعد أسبوع متأثـّرا بإصابته تلك.

كان من الواضح أنّ إصابة العقيد علي خزّام، وهو من المقاتلين الشرسين والقادة ذوي الكاريزما العالية لدى عناصره في اللواء /104/ حرس جمهوريّ، ستودي بحياته، ممّا أدّى إلى زرع الخوف والبلبلة في نفوس عناصره، الذين تركوا القتال وحاولوا حمايته بأجسادهم من إصابات أخرى، ومن أجل الانتقام له، وطرد ذلك الرعب وتلك البلبلة، التي قد تؤدّي إلى ما لا يُحمد عقباه، قام عناصر الجيش النظاميّ بإجبار عشرين شابّا من المعتقلين المدنييّن، والذين كانوا ينتظرون دورهم في الموت مقيّدين في الحافلات المرافقة، على خلع كلّ ملابسهم، فيما عدا اللباس الداخلي التحتيّ فقط، (الكيلوت)، وإجبارهم بقوّة السلاح على السير مقيّدين حول وأمام رتل العربات المدرّعة!!، والتقدّم باتجاه عناصر الجيش السوريّ الحرّ المتمركزين في زاوية الكوخ.

في هذه اللحظة وقع عناصر الجيش الحرّ تحت مطرقة الفكرة الوحشيّة التي لم يتوقـّعها هكذا، أو بهذه السرعة، جهنميّة وشيطانيّة من عناصر الجيش النظاميّ، فإمّا أن ينسحب بسرعة تاركا قتلاه، وربّما جرحاه حتى، والشبّان المدنييّن البريئين الذين تمّ وضعهم كدروع بشريّة أمام وحول رتل المدرّعات، الذي كان يتألـّف من ثلاث عربات مدرّعة نوع بي إم بي وشاحنة “زيل” عسكريّة، أو أن يُكملوا الهجوم، أو الدفاع كما يجب وصفه في هذه المرحلة، على أن يُحافظوا، قدر الإمكان، على أرواح هؤلاء الشبّان، وبالتالي المحافظة على أرواحهم هم، والقتال بشكل شرس وانتحاريّ أكثر. ولكن كيف يُمكن تفادي إصابة الدروع البشريّة وعناصر الجيش الحرّ لا يملكون سوى الرشاشات والبنادق وقواذف الآر بي جي على أبعد تقدير؟. كيف سيتمّ تدمير، أو إعطاب، المدرّعات لمنع تقدّمها، أو إجبارها على الإنسحاب، من دون قتل الشبّان العشرين الذين وُضعوا كدروع بشريّة أمامها وحولها؟؟. وهذه الأسئلة الكبيرة، عسكريّا وإنسانيّا وأخلاقيّا، كان يجب إيجاد أجوبتها الدقيقة والصحيحة في ظرف دقائق معدودة لا أكثر.

لم يكن أمام لواء درع الفرات وكتيبة الحمزة سوى متابعة القتال حتـّى النهاية وعدم الانسحاب، فإمّا سيموتون جميعهم، إضافة لجرحاهم ومَن تمّ إنقاذهم من الشبّان الثلاثة عشر، ومَن يجب إنقاذهم من الشبّان العشرين الذين وُضعوا كدروع بشريّة أمام المدرّعات، وإمّا أن يتمّ إنقاذ ما يُمكن إنقاذه بانسحاب عناصر الجيش النظاميّ وفرقة الموت، وذلك بإظهار شراسة وحنكة عسكريّة عالية.

لم يكن، إذا، أمام عناصر الجيش الحرّ سوى الهجوم على هجوم الجيش النظاميّ، فقام اثنان من عناصره بالمناداة، بمكبّرات الصوت اليدويّة، على الشبّان أمام وحول المدرّعات بالانبطاح على الأرض. وكم كان ذلك المشهد مؤثـّرا ومميتا ولا واقعيّاً، وكم هو بحاجة للكثير من الدراسات والأفلام والكتابات، عندما اكتشف شبّان بريئون بأنهم أمام الموت مباشرة بيد منقذيهم، وأقاربهم وأهلهم وأصحابهم، ويُغمضون عيونهم ورئاتهم كي يُبقوا على أمل صغير جدا جدا بإنقاذهم من الموت. وبأنـّهم من المؤكـّد أن يتم قتلهم بيد القتلة من الخلف.

المفاجأة حدثـَت. والأمل الصغير صار حقيقة، على الأقل، بالنسبة لثلاثة عشر شابـّا من جديد، فظهر رقم النحس /13/ فأل خير مرّتين على الشبّان المدنييّن الذين لا يعرفون، لحدّ الآن، ما سبب تعرّضهم لهذا الخطر الكبير، ولا سبب موت رفاقهم، سوى وحشيّة مفرطة من الجانب الذي عليه حمايتهم من “العصابات الإرهابيّة المسلـّحة” كما تدّعي أجهزة حرب وإعلام النظام. وللأسف مات سبعة شبّان على الفور، أمام عيون قاتليهم ومنقذيهم وأهاليهم ورفاقهم. بينما تراجع عناصر الجيش النظامي، وفرقة الموت، إلى داخل حيّ الجورة، تاركين رتل المدرّعات في مكانها معطوبة ومحترقة.

مسلسل الإعدامات لا يتوقـّف:

خلال الأيام التالية، ليوم المجزرة الكبرى هذه، تابعت فرقة الموت عملها النشيط والوحشيّ في قتل أهالي الجورة، وما يُحيط بها من أحياء؛ ففي يوم الخميس 28/9/2012 تمّ تفتيش البيوت من جديد، وتجميع الكثير من الشبّان المدنييّن، ووضعهم على حائط مسجد “قباء” في حيّ الجورة.

من إحدى الشقق تمّ إعتقال شاب واحد، وعندما كان يهمّون بالنزول من البيت، وقف والده عند باب الشقـّة، بينما بقيت في الداخل والدته، وترجـّاهم أن يفهم جريمة ابنه، وسبب اعتقاله هكذا، ثمّ ترجاهم أن يتركوه كرمى لشيبته، مع سماع نحيب والدته خلف الباب، فما كان من الضابط سوى إخراج مسدسه وقتل الوالد برصاصة في رأسه، أمام ابنه، ومتابعة طريقهم في تفتيش الشقق الأخرى!.

على حائط مسجد قباء تمّ وضع الكثير من الشبّان المعتقلين والمكبّلين. كان هناك طاولة وكرسيّ لضابط يتحدّث في اللاسلكي مع شخص ما. كان يقرأ له المعلومات من البطاقات الشخصيّة. مَن كانت بطاقته توضع على يمين الطاولة كان يبقى منتظرا مصيره المجهول على ذلك الحائط، ومَن كانت بطاقته توضع على يسار الطاولة كان يتمّ أخذه مكبّلا إلى الحافلات الأمنيّة المنتظرة.

بقي مكبّلا على حائط جامع قباء في ذلك اليوم /26/ شابّا تمّ إعدامهم بالرصاص، وتـُركت جثثهم ملقاة هناك على الأرض بعد التأكـّد من مقتلهم.

أهالي دير الزور، وباقي المناطق الأخرى التي تجوّلت فيها فرقة الموت كالوباء، ينتظرون ظهور المزيد من الجثث. لينقص أعداد المفقودين، من خيرة شباب المدينة، واحدا إثر آخر، ليس بالعثور عليه حيـّاً، ويا للأسف، بل مذبوحا أو محروقا أو مقتولا بالرصاص.

فرقة الموت التي دخلت، هذه الأرض الطيّبة، خرجت بأرواح شبّان بريئين، لا ذنب لهم، ولا لأهاليهم، سوى أنـّهم لم يرضوا متابعة العيش بذلّ إلى أبد الآبدين.

قيصر آصف هنداوي (شهادة بقلم أحد الناشطين في الثورة)

كنتُ قبل الثورة ارتادُ الجرداق (المقهى) الذي يملكه ويديره هذا الرجل، كانت طاولتي الدائمة بجانب طاولته تقريبا. كان يأتي مرتديا كلابيته الباكستانية القصيرة وكنت أستغرب أن يلبسها رجل سُمعته لا تشي بأنه متدين لدرجة الالتزام بالسُنن، وعرفت فيما بعد سبب ذلك ؛ كان لا يجد جلابية عادية على مقاسه في الأسواق بسبب ضخامة جسده.

كان يجلس عادة متحدثا لا منصتا بين عشرة رجال أو أكثر. صوته الأجش المميز يُجبرك على سماع ما يقوله، كان كلامه بسيطا في مُجمله كأي رجل غير متعلم.. وكأي رجل غير متعلم أيضاً، كان حديثه جذاباً..

كنتُ لا أصدق الكثير من الروايات والقصص المتداولة عن شجاعته وبطولاته في “الكونات” (المشاجرات). لم أصدق أن خمسة رجال لم يستطيعوا أن يرموه أرضاً، ولم أصدق أيضا أنه اشتبك بالبمبكشن مع دورية أمن جنائي أرادت أن تهدم بناء مخالفا في أحد الحقول قبل سنوات… المهم أنني كنتُ أعتقد في تلك الأوقات، التي لم يكن يشغلنا بها شاغل، أن شخصيته الفريدة والقصص المحاكة حوله هي مادة روائية يجب أن تُستغل.

اشتعلت الثورة، ولا أزال أذكر كيف رقص ” أبو آصف ” بكل فرح في ساحة المدلجي في جُمَع ( أحفاد خالد، ارحل ) على نغمات أغنيته المفضلة : هَا يا جنود الح.. ها دوهم د.

ومنذ العام الماضي، وقبل تشكيل الجيش الحر، شكَّل قيصر مجموعة صغيرة مقاتلة كانت تغيرُ على الحواجز في المدينة بأسلحتها البسيطة، فرفضنا ذلك آنذاك، بل وعاداه أغلب المناصرين للنهج السلمي للثورة، وأصبح قيصر مكروها من الكثيرين منّا، واستخففنا بجملته التي ذكرت عنه آنذاك: إن هذا النظام لا ينفع معه إلا الكلاش (إشارة إلى السلاح).

من جهة أخرى أُعجب أهالي دير الزور بفكرة أن يكون هناك بطل يظهر كالأشباح يخيفُ مَنْ يُخيفهم، وبدأوا يبحثون عن قصص بطولاته وأفعاله، وكانت صورته فعلا في أذهان جلاوزة النظام في دير الزور أنه وحش كاسر مخيف. فسوقوا لإشاعة مقتله عشرات المرات

أكمل أبو آصف مسيرته مع الجيش الحر بعد تأسيس الأخير، ولم يُمانع أن يتراجع عن مركزه كمقاتل وقائد أول وأسبق في دير الزور. عندما جاء الضباط المنشقون واستلموا القيادة.. كان يعمل تحت راية الثورة بكل إخلاص..، كان يُقاتل ويخطط ويطبخ للمقاتلين بيديه.

واكتشفنا بعد إعلان الحرب على دير الزور بالطائرات والمدافع أن الروايات الأسطورية عن بطولته لم تكن كذباً، بل كانت أقل مما يفعله قيصر حقيقة استشهد وهو يطلق النار من رشاشه البي كا سي، الذي لا يهتزّ في يده الضخمة… وكما قال عنه ابن دير الزور عدنان فرزات: “ليس أقل من طائرة ثمنها بالملايين كانت تقدر على قتله”.

الخلود لروحك أبو آصف.. يا ابن الفرات البار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى