صبر درويشصفحات سورية

تقرير من يبرود … من هنا مرّت الحرية


صبر درويش

من هنا مرّت الحرية.. هذا أول شيء رددته بعدما دخلت المدينة.

بعد أن تترك الطريق الدولي الذاهب إلى دمشق، وتتوجه إلى يبرود في الاتجاه المعاكس لمدينة النبك، سيوقفك حاجز في مدخل المدينة، إلا أنه في هذه المرة سيكون حاجزاً للثوار.

لا شيء يدعو إلى القلق، بضع شبان لم يتجاوزوا العشرين من العمر على أبعد تقدير، والمسؤول عنهم وهو أكبر سناً كما يبدو، يطلب منا الهويات، ويسألنا عن طبيعة الزيارة، وبعد التأكد من هوياتنا، نعبر بسلام إلى المدينة، هناك حيث لكل شيء نكهة مختلفة.

دليلنا أبو نيرب، وهو شاب جامعي، يحفظ المدينة عن ظهر قلب، يقودنا إلى أحد المكاتب، هناك حيث نلتقي بالمسؤول عن جريدة المدينة، هذا أنه بات للمدينة إعلامها الحر الخاص بها.

جريدة “السنونو”، وهي الجريدة الناطقة باسم المدينة، تصدر أسبوعياً، تطبع وتوزع داخل المدينة؛ يقول أبو سالم المسؤول عن الجريدة: [لم أعمل يوماً بالإعلام، وأنه خلال سنواته الخمسين الماضية، لم يكتشف ميولاً لديه للعمل الإعلامي، إلا أن الثورة التي تفجرت في سوريا، فجرت لديه أيضاً طاقات كان يجهلها]. يطمح ابو سالم إلى أن تصبح الجريدة، جريدة رسمية بعد نجاح الثورة، وهو مصر على إصدارها رغم كل الصعوبات.

بعد “تحرير” المدينة بالكامل، عمد الناشطون إلى تقسيم العمل فيما بينهم، فتوزعوا على فرق مختلفة، المجموعة الأولى التي التقينا بها كانت مسؤولة عن تزيين سفوح الجبال المحيطة بالمدينة؛ علم ضخم تحته لافتة هائلة الضخامة ترفع على أعلى نقطة مطلة على المدينة، وعلى السفح القريب تكتب العبارات بالحجارة ثم تلون بألوان علم الثوار، همّة عالية لدى الشباب، وفرح من الصعب عدم ملاحظته، من بعيد يبدو العلم كأكف تلوح مرحبةً بالزائرين. هنا يبرود.

ورشة أخرى يقع على عاتقها تزيين جدران المدينة؛ لوحات عملاقة، ترسم على الجدران، إلى جانبها عبارات تلح على شعار الوحدة الوطنية، وعلى أن النصر قرار وليس خيار. بينما مفردات مثل “مساوات، حرية، عدالة..” سنجد أنها الأكثر انتشاراً على الجدران؛ تقول رنا إحدى الناشطات اللواتي التقين بهن: [اليوم نشعر بعمق انتمائنا إلى المدينة، حيث كنا نشعر سابقاً أننا ضيوفاً فيها]. أينما توجهت ستجد شباب وشابات ومن كافة التلاوين الاجتماعية، يعملون يداً بيد، وبهمةٍ قلّ نظيرها.

في ورشة المشغولات اليدوية، سنقابل مجموعة من الشباب والشابات، الذين يقومون بصنع الكثير من القطع التذكارية، أشرطة توضع حول المعاصم، وأخرى على الرأس وحول الرقبة، وعشرات من الأشياء الأخرى كعلاقات المفاتيح وميداليات من كل الأصناف، صنعتها أصابع رشيقة باتت محترفة ما إن تحررت.

في الحقيقة من الصعب رصد كل النشاطات الثورية في المدينة، فكل شيء يشير إلى الحياة وإلى الفرح المرافق لها، حتى أننا مررنا مصادفةً بأحد الأعراس، ويا للمفاجأة! فحتى السيارة التي كانت تقلّ العروس، كانت مزينة بعلم الثورة، وأما الأغاني المرافقة فهي أيضاً أهازيج الثورة، حتى ليكاد المرء يتساءل هذا عرس أم مظاهرة!؟.

سلمى امرأة في الأربعينات من عمرها، أفرغت إحدى الغرف في منزلها وخصصتها لورشة تعمل على كتابة اللافتات ورسم الصور.

غرفة متوسطة الحجم، تتناثر الألوان فيها في كل مكان، لا تتسع لموطئ قدم، حيث اللوحات منتشرة في كل مكان واللافتات تشغل المكان بالكامل. تقول إحدى الناشطات اللواتي التقين بهن في هذا المكان: [نحن لا نكتفي فقط بالمشاركة من داخل “الغرف”، بل إننا كنا وما زلنا من المشاركات في المظاهرات، وفي البداية كانت أعدادنا أحياناً تفوق أعداد الشبان، لقد أصبحنا حرات ما إن خرجنا إلى الشارع، وهو شعور عظيم].

قادتنا رحلتنا إلى بيوت أحد الشهداء، قابلتنا أم الشهيد بابتسامة وامضة، رحبت بنا ودعتنا إلى الدخول إلى المنزل.

لم يكن من جدار في المنزل إلا وعليه صورة الشهيد الشاب، والذي تشير ملامحه إلى أنه لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، وكان قد استشهد الشاب على يد قوات الأمن السوري في كمين نصب له ولبعض زملائه مما أودى بحياته.

تروي لنا أم الشهيد كيف حدثت الأمور، تقول: [في أحد الأيام وكنا نشاهد مجزرة الحولة على التلفاز، بكى ابني، وبكينا جميعاً، في تلك اللحظة نظرنا أنا وهو في عيني بعضنا، وفي تلك اللحظة كان القرار قد اتخذ، فاستلّيت قطعة ذهب من يدي وأعطيتها له، واستطاع بعد ذلك أن يشتري سلاحاً له، والتحق بزملائه في الجبل].

هكذا أصبح الشاب واحداً من الثوار الذين حملوا السلاح مرغمين، وذلك بعد كل ما رأوه من نظام لا يفعل سوى ارتكاب المجزرة تلو المجزرة.

لم تبكي الوالدة حين التقيناها، كانت واثقة من نفسها، ومن أيمانها بقضية يقول أغلب السوريين أنهم سيبذلون الغالي والنفيس في سبيلها، وهي حقاً كانت قد قدمت أغلى ما عندها.

في سياق تجولنا في أحياء المدينة، صادفنا حائطاً مهدماً، قال دليلنا ابو نيرب ضاحكاً: [من هنا مرّ الجيش السوري.. هذا الجدار كان مكتوب عليه شعارات الثورة، وعندما لم يتمكن الجيش من ازالة الشعارات –لضيق الوقت ربما- قاموا بإزالة الجدار بالكامل، مستخدمين دبابة!].

الساعة الآن تجاوزت منتصف الليل، ولكن شوارع المدينة ما تزال مستيقظة، عشرات من الشبان يقومون بتنظيف الشوارع ورفع الأعلام والرايات، (يا الله، ألا ينام هؤلاء الشبان؟!)، يبتسم أبو الجود ويقول: [نريد أن نحيا كل لحظة من حريتنا، لا نوم بعد اليوم].

في الحقيقة، كانت تجري التحضيرات لصلاة ِالصبحِ التي ستقام في العراء في أحد ساحات المدينة. طلب الناشطون من عدد من أئمة الجوامع الحضور والصلاة في الناس، الجميع رفضوا!.

توافد إلى صلاة الصبح في الساحة المئات من المصلين، ويا لدهشتي! حيث صلّى في الناس فتىً لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره على أبعد تقدير.

نظرت إلى الفتى، شاب نحيل لم تكتمل لحيته بعد، تلمع عيناه من فرط الحماس، يقول: [أينما ذهبت ستجد من يناصر الثورة ومن يعاديها، وهذا الكلام ينطبق حتى على أئمة الجوامع].

لم يعد من شيء في سوريا الثورة خارج النقد، فقد أسقطت الثورة كل المقدسات المزيفة، والمعادلة بالنسبة إلى الثوار واضحة: هنا الحرية، وهناك القمع، وما عليك سوى أن تحدد في أي موقع ستقف.

ليبرود، ثاني المدن المحررة التي زرناها، ولأبو نيرب وابو الجود، وابو جميل الذي سنفرغ له مكان خاص به، ولكل الأحرار، منا تحية، وشكر لهم على ما بذلوه ليرونا مستقبل سوريا بعد التحرير.

دمشق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى