صفحات سوريةميشيل كيلو

تقسيم أم تفتيت؟/ ميشيل كيلو

 

 

لا يبدو التقسيم الجديد للعالم العربي الذي يخشاه الجميع مستبعداً، ولا يبدو، في الوقت نفسه، سهلاً وملحّاً. في فهم قومي لطالما تبنته قطاعات واسعة من العرب، جماهير ونخباً، أخذ التقسيم شكل تجزئةٍ قطعت أمة عربيةٍ، لا يمكن أن يكون لها حال طبيعية، ومقبولة سياسياً، غير وحدة اندماجية كاملة، تعبّر عن حقيقتها الكلية والمندمجة. للتقسيم هنا معنى وحيد: تجزئة الكل الأموي الذي لا يمكن لتقطيعه أن يكون غير فعل استعماري، هو عدوان خارجي مستمر على عربٍ، تمثل وحدتهم شكل وجودهم التاريخي، المتفق، دون غيره، مع حقيقتهم وأمانيهم.

ومع أن تقسيم المشرق كان، بعد الحرب العالمية الأولى، بفعل الخارج، فإن تجزئة العالم العربي أنتجتها ديناميات ذاتية، حتّمتها تطورات مجتمعاته التي حفلت بتناقضات وصراعات، متنوعة المصادر والغايات، أدت إلى تبعثره السياسي والكياني، أي إلى غياب طابع دولته المركزي، وظهور كيانات سياسية محلية وكبيرة إلى جانبها، أنتجها عجزها عن إدارة تنوعها، في ظل تنامي نزعات الهوية والخصوصية بداخلها. لكن الفكر القومي، والبعثي خصوصاً، خلط بين التقسيم الخارجي الحديث والتجزئة الداخلية القديمة، وقفز فوق تجربتنا التاريخية، حين اعتبر التجزئة فعلاً استعمارياً، متجاهلاً أن الامبراطورية العربية عرفت، قبل سقوط بغداد، ثلاثة كيانات سياسية مستقلة ومتعادية، ومتناسياً أنه تباهى دوماً بواحد منها، هو الكيان الأموي في الأندلس الذي تأسس في مواجهة الخلافة العباسية، واستقل عنها.

في أوضاعنا الراهنة، بما تحمله من سمات جديدة نوعياً، أنتجتها عالمية الرأسمالية، كنظام كوني أعاد تجديد تأخرنا في حاضنة تاريخية، لم نعرف مثيلاً لها، أخذ تطور بلداننا يذهب تدريجياً نحو سيرورات تمزيق تفتيتي خارجي، وكياني له ديناميات داخلية، يستهدف الدولة والمجتمع، فهل يغيّر المشروع الداعشي هذا الواقع؟ أعتقد النفي، لكونه يطرح نفسه في إطار تجميعي، يمزق دولاً ومجتمعات وتشكيلات ما قبل مجتمعية، يضعه في مواجهة كيانات ستنتج مقاومته لها، ومقاومتها له، المزيد من تمزق مجتمعاتنا الداخلية الذي سيأخذ شكلاً ما بعد وغير وطني، وسيفرض نفسه بطرق تنتمي إلى عوالم الحروب الأهلية والفوضى. هي طرق تمزيقية، ومشحونة بميول على قدر كبير من التنافي المتبادل مع أي مشروع تجميعي، أو توحيدي، يمكن أن يأتي من خارج نسقها الخاص، الغريب عمّا يتطلّبه ويفرضه عليه عصرنا.

ليس التقسيم على طريقة سايكس ـ بيكو، الذي أقام دولنا الوطنية، أخطر ما يهددنا. إنه الحرب الأهلية المديدة التي تحمل في طياتها، تفتيتاً يمزق دولنا ومجتمعاتنا، وحتى تشكيلاتنا ما قبل المجتمعية. هذه الظاهرة المركّبة يجب أن نتابعها بكل اهتمام، وإلا سقطت دولنا وتمزقت شعوبنا التي يفتت نظام الأسد أحدها، ويمهّد لتفتيت دولته، مع أن التقسيم الاستعماري أبقى عليها كيانية موحدة وطنياً، لم تنتفِ بقيامها قدرتها على القيام بدور قومي توحيدي، ولم تتنكر لهويتها العربية، أو تحمل، في ثناياها، هوية ضدها، كما زعم أرباب الفكر القومي الذين ناقضوا أنفسهم، حين علّقوا بعض آمالهم على أهليتها كدولة “انفصالية” للاتحاد مع جوارها العربي، في حال حكمتها نخب “قومية”، تمارس سياسات تتخطى طابعها الجزئي، وتصهرها، كما كان يقال، في محيطها القومي الواسع.

يقف العرب على مفترق طرق مفصلي، فإما أن تنجح ثورة الحرية والديمقراطية، ويلتحقوا بعصرهم، انطلاقاً من قيمه التي صنعت حداثته وتقدمه وانفتاحه، فتتلاشى، وإن تدريجياً، المخاطر التي تهدد دولهم ومجتمعاتهم بقدر من التفتيت الكياني والتمزيق المجتمعي، يعدّ تقسيم سايكس ـ بيكو نعمة إلهية بالمقارنة معه، أو أن تفشل هذه الثورة، فيذهب التطور إلى احتمالاتٍ على خطورة يصعب تخيّلها، لن تبقى معها دولة أو مجتمع على حالهما، وسيكون بديلهما معازل مغلقة ومحتربة، تتناقض هوياتها المذهبية والإثنية واللغوية، علماً أنها ستكون كيانات مرحلية، ينتظرها مزيد من التفتيت والتمزيق.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى