صفحات الثقافةممدوح عزام

تقنيات حارقة/ ممدوح عزام

 

 

في ملاحظة لافتة من كتابه “الرواية الأميركية اللاتينية الجديدة” يشير كارلوس فوينتس إلى أن معظم الكتاب المكسيكيين الذين كتبوا عن الثورة هناك (وهي ثورة اجتماعية حاولت أن تغيّر بنية البلد) قاربوا هذا الموضوع بطريقة مباشرة. وقد أحرقت هذه المباشراتية، حسب قوله، أياديهم حين وجدوا أنفسهم مجبرين على اتباع تقنية محددة هي تقنية الشهادة، أو الوثيقة، إذا أردنا التوضيح أكثر. وهي تقنية منعتهم بشكل كبير من النفوذ إلى إبداعاتهم نفسها.

غير أنه يشير بالمقابل إلى أن خوان رولفو قد أغلق بروايته “بيدرو بارامو” الموضوع الوثائقي للثورة المكسيكية. هذا هو رأي فوينتس، ويمكن لمن يقرأ رواية رولفو هذه أن يلاحظ أن الروائي لم يقارب الثورة كوثيقة، أو كمخيلة روائية. وليس في روايته أية شخصية ثورية، والبطل الرئيسي لروايته إقطاعي وغد عديم الأخلاق والضمير هو بيدرو بارامو. وفي الرواية، يقدّم رولفو من خلال سيرة بارامو شخصية تتسم بالتطاول على كل ما لدى البشر من حرية وكرامة ووجود، يشاركه في ذلك ابنه ميغيل أيضاً.

فإذا وقعت الثورة، فإننا نراها من خلال وعي نقيضها، أي من خلال بارامو نفسه. ولهذا يقدّم لنا الروائي مشهدين يشيران إلى هذه الدلالة: الأول هو سرقتها على يد أحد رجال بارامو، واسمه داماسيو، حين يتفقان على أن ينضم التابع للثورة مصطحباً معه مئات الرجال. والثاني حين يأتي التابع نفسه ليطلب المال من بارامو فيدعوه هذا لأخذه من الفلاحين “الذين يدافع عنهم”.

هذه هي الوسيلة التي يقارب بها الروائي الثورة، وهي تترك في نفس القارئ شعوراً بالذعر من تلك الطريقة الدنيئة التي يريد بارامو من خلالها تحطيم الثورة، وتخريب محتواها الإنساني الرامي إلى التحرّر من الظلم.

لا توجد هنا في الرواية أية شهادة عن الثورة، وقد خلق الروائي تقنية كتابة صعبة لا تنتمي إلى نهج التوثيق الذي يسود في العادة زمن التأريخ الروائي للثورات، وقد يضطرّ الروائي للابتعاد عن التجديد.

ويحتمل أن تكون تقنية الشهادة التي تحاول إعادة إنتاج الوقائع التاريخية قد سدّت المنافذ أمام التجديد الروائي، أو أن تكون قد قدّمت تشابهات نصية وموضوعاتية بين الروائيين. ولهذا رأى فوينتس أنها أحرقت أيادي الذين اشتغلوا عليها، بينما سجّل خوان رولفو لروايته مكانة رفيعة في تاريخ الرواية.

تضع ملاحظة فوينتس الرواية كلها في العالم أمام هذا الاختبار المتعلق بطريقة تناول موضوع الثورة، وبالتقنيات التي تحدّد قيمة النص الروائي الفنية والفكرية. وهو اختبار يجب أن يشغل الرواية العربية اليوم. خاصة تلك التي شهدت بلدانها ثورات وانتفاضات في العقد الثاني من قرننا.

ليست لدينا المعطيات الكافية عن الرواية المكسيكية التي اهتمت بتاريخ الثورة هناك، وليس من المؤكد تماماً أن رأي الكاتب يمكن أن يعمّم على الرواية في العالم. غير أنه يشير إلى موضوعة ذات أهمية كبيرة في تاريخ الرواية، وهي أن الروائي حين يكتب عن الثورة، يجب أن لا ينسى البتة أنه يكتب رواية ولا يصنع ثورة.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى