صفحات الثقافة

تكاليف العزلة/ خيري منصور

 

 

ما أعنيه بكلمة تكاليف ليس ما ينصرف إليه الذهن من فواتير وأسعار وسائر مفردات معجم السوق، الذي افترس بوحشية اللغة كلها، ما أعنيه هو ما قاله زهير بن أبي سلمى في مطلع معلقته: سئمت تكاليف الحياة، وقد اختصر بهذه الكلمة كل ما يمكن تخيله من الحراك الإنساني على امتداد عمر الفرد، فالتكاليف شجون وأحلام والام ويأس ورجاء، والشاعر الذي بلغ الثمانين وعرف بالحكمة والزهد والاعتناء بالقصيدة، ناء بتلك الحمولة الباهظة التي تسمى الحياة، وأصبح الموت مطلبا للراحة وربما للعزلة الكاملة.

أما تكاليف العزلة فتبقى في نطاق المجهول بالنسبة لمن لم يعرف العزلة، خصوصا عندما تكون طوعية، وليست قسرية. ورغم أن مصطلح العزلة ومشتقاته اقترن بفلاسفة وكتّاب على امتداد تاريخنا، إلا أن الشائع عن العزلة، اختزلها إلى أضعف دلالاتها، وكأنها تعني الانسحاب أو الاستقالة من الحياة العامة، والحقيقة أن هناك عزلات عديدة تتفاوت في دلالاتها وتأويلاتها تبعا لمن كتبوا عنها أو من هم داخلها.

فالعزلة بالنسبة لكاتب مثل برديائيف ليست هروبا، بل هي عزلة مضاءة، وقد تكون صاخبة أحيانا، ما دامت الذاكرة تعج بأحداث وشخوص، وكذلك الخيال الذي يطلق الممكنات الهاجعة في الأحداث فيعيد إنتاجها، والعزلة بالنسبة لألبير كامو تتجسد في إحدى قصصه التي حملت عنوان «الفنان يعمل» من مجموعة بعنوان «المنفى والملكوت»، حيث لا يجد وقتا ينجز فيه أعماله فيضطر إلى الإقامة في قفص يتدلى من شجرة، وما تخيله البير كامو مارسه بالفعل الشاعر كيمنجز لفترة من الوقت، ثم اكتشف أن الطيور تفسد عليه هدوءه وعزلته. وحين قرر تولستوي التخلي عن ممتلكاته الشاسعة وقصره ليعيش شأن أي فلاح روسي في بيت بسيط أشبه بالكوخ لم يكن يعبر عن نوبة زهد مباغت، بقدر ما اهتدى إلى ذاته، واستبدل الخارج بالداخل، والسطوح بالأعماق

وقد يتعدد الإنسان الذي قرر العزلة داخل عزلته، فيكون ذاته والجميع في آن معا، لأنه يبتعد عن اللوحة كي يراها، ومن يتفلطح أنفه على سطح لوحة لا يرى منها غير بقعة داكنة.

العزلة إذن مسافة، تتيح لمن يبتعد أن يرى أكثر، وهناك سجناء اكتشفوا ذلك رغم أن عزلاتهم قسرية، ومنهم الكاتب الفرنسي ريجيه دوبرييه، الذي كتب يوميات الزنزانة بصورة فائقة التأمل والحساسية، واكتشف أن العزلة داخل زنزانة تتحول إلى مجهر أو مايكروسكوب، بحيث يصبح ما كان ضئيلا وعابرا ومجرد تفصيل جوهرا وقضية، لكن ليس معنى ذلك أن كل الزنازين تتحول إلى بيوت حكمة وتأمل، فالماركيز دوساد قضى سبعة وعشرين عاما في زنزانة، وأدت عزلته السلبية إلى إطلاق الغرائز في أقصى توحشها، بحيث أصبح التلذذ بتعذيب الآخرين يحمل اسم الماركيز.

وغالبا ما تفرض العزلة نفسها على المثقف بالتحديد حين يعم الوباء ويصبح الاتقاء وقاية للحفاظ على ما تبقى من مناعة، ولا أظن أن هناك زمنا كانت العزلة فيه وقاية وخلاصا كهذا الزمن الذي انعطبت فيه البوصلات كلها، وفي مقدمتها البوصلة الأخلاقية، فالبراغماتية أصبحت سمة عصر، وكذلك الذرائعية، أو ما كان يسمى في زمن الإغريق الكلبيّة.

فالمشهد بكل أبعاده، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وتربويا، يثير لدى من يقترب منه الفزع وربما القشعريرة، خصوصا بعد أن احتال مهربو الواقع وسماسرة اللحم البشري على القاموس، فأطلقوا أسماء جديدة وشبه محايدة على قتلة وشهود زور وبغايا وقطاع طرق ولصوص دم، رغم أن تغيير اسم المهنة لا يبدل من الأمر شيئا، لكنه يمنحها شرعية اجتماعية، خصوصا عندما يصبح الفساد قاعدة والاستبداد ثقافة سائدة، والنفاق فقها.

تبدأ تكاليف العزلة من إساءة الآخرين فهمها، بحيث يرى من لا يستطيعون العيش خارج نظام القطعنة، أن المعتزل معزولا، ثم تمتد هذه التكاليف إلى إسقاط الأوهام كلها، بدءا من وهم العلاقات اليومية التي تتحكم بها المصلحة والعادة، وليس انتهاء بتأثيث العزلة. وما أعنيه بالتأثيث هو استدعاء المعرفة والذكريات، وإتاحة الفرصة للخيال أن يذهب بعيدا بلا مصدات أو كوابح، ومن ينعزل بإرادته وليس رغما عنه، يجد في داخله من يراقصونه التانغو ويلعبون معه التنس أو حتى كرة القدم، لأنه متعدد في وحدته، فالإنسان الذي يقرر التفاهم مع ذاته، ويخلع الأوهام كرداء ثقيل في مناخ ساخن، يدرك أنه وحيد عندما يكون في الزحام ووسط الضجيج، ثم يتلاشى إحساسه بالوحدة عندما يعود إليه.

ومن تكاليف العزلة أن طريقها ليس معبدا، بل هو موحش ويندر فيه الزاد والرفيق، كما يقول الشاعر و. هـ . أودن، لهذا لا يقوى على العزلة إلا من قرر أن يتسع داخله لملايين البشر. فيكون وحده ومع الجميع في وقت واحد، لكن وجوده مع الآخرين لا يعني أنه فرد في قطيع، يضيع إذا ابتعد عنه، فهو منفي وعائد وله في كل أوان قيامة، لأنه يحيا ولا يعيش، وثمة فارق بين الحياة والعيش وقد عبّر عنه الشاعر ت. س. أليوت بقوله: أين هي الحياة التي أضعناها في العيش؟ فالحياة حرية، أما العيش فهو ضرورة وإشباع غرائز.

وقد تكون تكاليف العزلة أشد من تكاليف الحياة التي تحدث عنها زهير بن أبي سلمى، لكنها أقل من الثمن الباهظ للاستغراق في ضجيج القطيع، أو التحول إلى رقم أعمى وأصم في تعداد ديموغرافي.مل والحساسية، أمل والحساسية واكتشف ان العزلة داأم أأأااا

٭ كاتب أردني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى