مراجعات كتب

“تلاميذ” إدوارد سعيد في البلقان: أنس سولستاروفا نموذجًا/ محمد م. الارناؤوط

 

 

شكّل ظهور كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد في 1978 حدثًا علميًا وثقافيًا مهمًا على مستوى العالم، وخاصة في ما يتعلق بالدراسات الشرقية في أوروبا والولايات المتحدة والعلاقات بين الشرق والغرب. وكان من حسن حظي أني عايشتُ صدور الكتاب في أحدث قسم للاستشراق في يوغسلافيا السابقة (جامعة بريشتينا) الذي افتتح عام 1973 بعد سراييفو (1950) وبلغراد (1926).

كان القسم يضمّ الزملاء من خلفيات مختلفة ومن هنا كان التفاعل مختلفًا. كان حارث سيلاجيتش (الرئيس اللاحق للبوسنة) يتقن الإنكليزية فكان من أوائل من اكتشف مغزى الكتاب ومن أوائل من عرّف به في العربية، في عرض له بمجلة “المعرفة” السورية في مطلع 1981، أي قبل أن تصدر الترجمة العربية. ومن الزملاء الذين تشربوا نقد إدوارد سعيد للمركزية الأوروبية، كان أسعد دوراكوفيتش الذي عبّر عن ذلك في سلسلة دراسات ضد هذه النزعة التي كانت لها تجلياتها في يوغسلافيا السابقة أيضًا. ومن “تلاميذ” إدوارد سعيد في البلقان الذين اشتهروا لاحقًا في الغرب، الباحثة البلغارية ماريا تودوروفا، من جيل سيلاجيتش ودوراكوفيتش، التي غادرت بلغاريا إلى الغرب في 1988 لتكتشف هناك “الاستشراق” الذي أحدث انقلابًا في مسيرتها الأكاديمية. فقد تأثرت بكشف إدوارد سعيد عن خلفيات وآليات “تخييل الشرق” أو تكريس “شرق متخيّل” لأجل أجندة معينة لتقوم بدورها بالكشف عما يوازي ذلك في البلقان في كتابها “البلقان المتخيل” الذي صدر 1997.

وتعترف تودوروفا في مقدمة كتابها أنها لو بقيت في بلغاريا لما تمكّنت من التعرّف إلى “الاستشراق” ولا إنجاز كتابها هذا، ولذلك تعترف بـ”الدين الثقافي الكبير” الذي تدين به لإدوارد سعيد حتى تمكنت من أن تكشف ما هو مشترك في الخطاب الغربي عن الشرق والبلقان: خلق وتكريس صورة متخيلة وملفقة لخدمة أجندة معينة.

ويمكن أن نعدّ من “تلاميذ” إدوارد سعيد في البلقان الباحث الألباني أنس سولستاروفا، الذي ولد في عام صدور “الاستشراق” (1978)، وتخرج من قسم علم الاجتماع في جامعة تيرانا وتابع دراساته العليا في جامعة أنقرة، ليعود للعمل أستاذًا في قسم علم الاجتماع بجامعة تيرانا. ومع كتابه الأول “الخطاب القومي في ألبانيا: النهضة القومية والشيوعية وما بعد الشيوعية” (2003) لفت النظر إلى مقاربته النقدية لما يبحث فيه، بينما حظي بشهرة مع كتابه الثاني “الهروب من الشرق: من نعيم فراشري إلى إسماعيل كاداريه” الذي صدرت منه ثلاث طبعات (2006 و2007 و2013) حيث بدا بوضوح تأثير إدوارد سعيد في نقده للخطاب الاستشراقي الألباني الذي يمتد من النهضة القومية الألبانية (الشاعر نعيم فراشري نموذجًا) وحتى الشيوعية وما بعد الشيوعية مع الكاتب المعروف إسماعيل كاداريه.

أما الكتاب الأخير له “الإسلام يعني الشرق – رواية الأمة وأوروبا والإسلام في الخطاب العام والنصوص المدرسية للتاريخ” (تيرانا، دار بيكا 2016) فهو أيضًا يمثل استيعاب المؤلف لروح إدوارد سعيد ومنهجه النقدي في “الاستشراق”.

ففي هذا الكتاب يبرز المؤلف ما يمكن تسميته “النسخة الألبانية” من النزعة الاستشراقية بالمعنى الموجود في “الاستشراق” لإدوارد سعيد. ففي “النسخة الألبانية” يجري العمل أيضًا على تكريس الفصل المتخيل بين الشرق والغرب على الرغم من أن ألبانيا حتى 1920 كانت تسمى “مفتاح الشرق الأدنى” بعد حوالي 1500 سنة من الارتباط السياسي والثقافي مع الشرق البيزنطي/ العثماني. وفي هذا السياق تصبح مهمة “الاستشراق الألباني” التركيز على الانسلاخ عن الشرق بكل معانيه؛ الآسيوي، الأناضولي، العثماني، العربي، الإسلامي إلخ، والالتحاق بأوروبا بالمعنى السياسي والثقافي بما يتضمن ذلك من فك الارتباط بـ”الآخر” (الشرقي والتركي والعربي والإسلامي إلخ) المتخلف الذي يمثل “دين الاحتلال” وثقافته .

وبالمقارنة مع الحكم الشيوعي (1945-1990) الذي أصبح فيه الخطاب يركز على أن ألبانيا الشيوعية بقيت الدولة الأوروبية الوحيدة التي تحافظ على “الماركسية-اللينينية”، التي كانت أيضًا مقاربة أوروبية في الأساس عن فهم الشرق من نمط الإنتاج الآسيوي إلى تبرير الاحتلال الفرنسي للجزائر، جاء الخطاب الألباني الجديد بعد نهاية الحكم الشيوعي ليعكس بروز نزعة “الأوربة” أو الالتحاق بأوروبا بعد أن تخلصت ألبانيا بتعبير إسماعيل كاداريه من كابوسين شرقيين: كابوس الشرق العثماني وكابوس الشرق الإيديولوجي (الماركسي اللينيني).

وفي هذا السياق، بعد أن كانت ألبانيا أول دولة أوروبية أعلنت الإلحاد “دينًا” رسميًا في 1967 ومنعت أي دين آخر وأصبحت بعد 1990 جاذبة لكل الأديان، يلاحظ المؤلف أن الخطاب الألباني العام (أي النقاشات المنشورة في الصحف والكتب المؤلفة حول هذا الموضوع) عن “أوروبا” الجديدة المتخيلة أصبح يعتمد على ربط “الإسلام” بـ”الآخر” على الرغم من أن الإسلام يمثل دين الغالبية الذي انتشر منذ خمسة قرون.

يتوقف المؤلف في القسم الثاني من الكتاب عند رصد تجليات هذا الخطاب الألباني “الاستشراقي” عن الإسلام في الكتب المدرسية، وبالتحديد في كتب التاريخ المدرسية التي هي المجال الرئيس لتجليات هذا الخطاب “الاستشراقي”، التي تُقرّر على التلاميذ منذ الصف الرابع الابتدائي إلى الصف الثاني عشر، أي في المرحلة العمرية التي تتشكّل فيها المفاهيم الأساسية للفرد عن المجتمع والعالم. ويقارن المؤلف هنا بين ما كان موجودًا عن الإسلام والشرق في الكتب المدرسية خلال الحكم الشيوعي، مع ما هو موجود في الفترة الانتقالية التي تلت الحكم الشيوعي، التي اتخذت من “الأوربة” أو الاندماج في أوروبا “بوصلة” لها.

في هذا السياق يُبرز المؤلف المغالطات والمتناقضات في هذه الكتب المدرسية مع ما يجمعها من تركيز على أمر واحد: خلق فصل متخيل بين الشرق والغرب أو بين الإسلام والغرب للوصول إلى تكريس الفكرة الرئيسة التي جعلها عنوانًا لكتابه “الإسلام يعني الشرق”!

أخيرًا، لا بدّ من القول إن هذا الكتاب يعتبر من الكتب القليلة التي تغرّد خارج السرب في ألبانيا الحالية، ويحمل الجديد في المضمون والمنهج مقابل ما ينشر في الضفة الأخرى. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الكتاب سيكون له شأن، كما هو الكتاب السابق للمؤلف “الهرب من الشرق”، لأن الكتاب لا يمثل صوتًا ألبانيًا منفردًا بل مقاربة أوروبية منهجية، لأن المؤلف حظي خلال 2013-2015 بمنحة من مؤسسة أوروبية معروفة (مؤسسة غردا هنكل Gerda Henkel في ألمانيا) تعنى بتحليل الكتب المدرسية بمنهجية متقدمة تجلت في الكتاب. ومن هنا فإن الكتاب يمثل نتاجًا “أوروبيًا” متقدمًا في هذا المجال في مواجهة النتاج “الاستشراقي” في ألبانيا، ولا يمكن لـ “الاستشراق” الألباني في هذه الحالة أن يعتبره نتاجًا “شرقيًا” متخلفًا.

ولكل هذه الاعتبارات فمن المفيد ترجمة هذا الكتاب إلى العربية وقراءته في أقرب وقت، كما هو الأمر مع كتاب تودوروفا “البلقان المتخيل” الذي صدر بالإنكليزية منذ عشرين سنة، ولم يلفت نظر أحد للأسف.

عنوان الكتاب: الإسلام يعني الشرق – رواية الأمة وأوروبا والإسلام في الخطاب العام والنصوص المدرسية للتاريخ   المؤلف: أنس سولستاروفا

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى