صفحات سورية

تل رفعت: استعصاء سياسي ومأساة إنسانية مزدوجة

 

 

منذ الثالث والعشرين من آذار الماضي، عادت مسألة تل رفعت والقرى والبلدات المحيطة بها شمالي محافظة حلب إلى الواجهة بقوة بعد أن سيطرت القوات التركية والفصائل المدعومة منها على عفرين وأريافها، إذ اعتصمَ الآلاف قرب معبر باب السلامة على الحدود السورية التركية، مطالبين الفصائل المتحالفة مع تركيا باستعادة تل رفعت ومحيطها من يد قوات سوريا الديموقراطية، بهدف إعادة عشرات آلاف النازحين من تلك المنطقة إلى بيوتهم وبلداتهم.

وكانت قسد، مدعومةً بالطيران الروسي، قد سيطرت على تل رفعت ونحو 52 بلدة وقرية في محيطها، أبرزها عين دقنة ومنّغ، في شهر شباط من عام 2016. وهو ما قاد إلى تصاعد التوتر العربي الكردي في الشمال السوري، إذ بدا أن سيطرة قسد، وعمودُها الفقري وحدات حماية الشعب الكردية، هي مشروع تهجيرٍ لسكان مناطق ذات غالبية عربية، كما أنه جاءَ مساعدةً لقوات النظام في إحكام حصارها على أحياء حلب الشرقية، الذي انتهي بتهجير أهلها أواخر 2016.

كانت قضية تل رفعت الذريعةَ الأبرزَ التي استخدمتها فصائل المعارضة المسلحة في تبرير تحالفها مع تركيا في عملية عفرين، ولعلّ هذا كان من أهم أسباب الغضب الشعبي، إذ بدا أن عملية عفرين قد شارفت على الانتهاء دون حسم مصير تلك المنطقة، وبدا كما لو أنها ستقتصر على السيطرة على المناطق ذات الغالبية الكردية، التي يشكل تواجد الوحدات الكردية فيها خطراً على «الأمن القومي التركي».

تلا هذه الاعتصامات حديثٌ عن مفاوضات تركية- روسية حول مصير تل رفعت ومحيطها، وتعهداتٌ من الجانب تركي، جاء بعضُها على لسان الرئيس التركي نفسه، بأن العملية ستستمر حتى استعادة تل رفعت، حتى أن صحفاً تركية نشرت أخباراً تفيد بسيطرة القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها على تل رفعت، ليتضح لاحقاً أنها غير صحيحة، وتبقى المنطقة بانتظار تفاهمات أوسع، يبدو أنها ستكون أحد المحاور الأساسية لاجتماع أنقرة الذي سينعقد غداً الأربعاء، ويضم رؤساء تركيا وروسيا وإيران.

في الوقت الذي انتشرت فيه شائعات عن قرب دخول القوات التركية إلى تل رفعت، نشرت قنوات تلفزيونية موالية للنظام السوري تسجيلات مصورة قالت إنها تُظهِرُ انتشار قوات تابعة للنظام السوري ضمن تل رفعت، ليكون هذا دليلاً إضافياً على أن مصير المنطقة ليس محسوماً بعد، وأن التفاهمات التركية الروسية المتعلقة بعملية عفرين، لم تكن واضحةً بخصوص مصير تل رفعت ومحيطها.

يشكّلُ موقع تل رفعت ومجموعة القرى القريبة منها، وعلى وجه الخصوص تجمّع قرى الشهباء، القريب جداً من مدينة حلب، سبباً أساسياً في التوتر والصراع وتعقيد مسألة التفاوض حولها، ذلك أن سيطرة القوات التركية ومعها فصائل مناهضة للنظام السوري على تلك المنطقة سيشكل خطراً على أمن مناطق سيطرة النظام والميلشيات المرتبطة بإيران في مدينة حلب وبلدتي نبّل والزهراء. لكن هناك سبباً آخر لهذا التعقيد، لعلّه الأكثرُ تأثيراً، وهو أن مقاتلي الوحدات الكردية المنسحبين في عفرين وأريافها باتوا يتجمعون في منطقة تل رفعت ومحيطها، ومصيرهم ووجهتهم بنودٌ أساسيّة في عمليات التفاوض دون شكّ، ذلك بالإضافة إلى مصير عشرات آلاف المدنيين من أبناء عفرين، الذين نزحوا جراء العملية التركية إلى المنطقة نفسها.

لمأساة المُهجّرين العرب من تل رفعت ومحيطها وجهٌ آخر اليوم، وهو مأساة المهجّرين الأكراد من عفرين وأريافها، الذين يحتشدون اليوم في تل رفعت ومحطيها، وقد قَدَّرَتهم وكالاتٌ تابعةٌ للأمم المتحدة بحوالي 170 ألف نازح، في حين تقول مصادر من الأهالي إن العدد يفوق مئتي ألف.

حتى اللحظة لم يحظَ هؤلاء النازحون بأي مساعدات من المنظمات الإنسانية الدولية، ما عدا توزيع منظمة الصليب الأحمر لبطانيات وفُرَشٍ على النازحين الذين يفترشون الطرقات دون مأوى، وتبدو الصور الآتية من هناك مؤشراً على كارثة إنسانية قد تتفاقم في حال لم تتم الاستجابة، ويزيدُ من تفاقمها استعصاء التفاوض حول مصير المنطقة.

تأتي التطورات السابقة في سياق نزاع دولي واسع على شمال سوريا، فهذه المنطقة، التي تعتبرها أنقرة حيوية لضمان «الأمن القومي»، هي محلّ تجاذبات روسية-أمريكية أيضاً، بالتوازي مع التجاذبات التركية-الأميركية، التي تصاعدت مؤخراً بخصوص مصير منطقة منبج التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية وفيها تواجدٌ عسكري أميركي، في وقت لا تزال تركيا تقول إنها بصدد إخراج القوات الكردية منها بالتفاوض أو القوة.

تَتَّبِعُ القوى الثلاثة مبدأ الاتفاقات الآنية في كل منطقة على حدة لتحقيق تفاهمات أو رسم مناطق نفوذ وسيطرة ضمن خريطة الشمال السوري، الممتد من القامشلي شرقاً إلى محافظة إدلب وريف اللاذقية غرباً. وتتركز نقاط التصدع الأساسية اليوم في منبج وتل رفعت، ويمكن أن تنتقل إلى مناطق أخرى في أي لحظة، إذ من غير المتوقع أن تشهد هذه المنطقة استقراراً قريباً، خاصةً أن تصريحات الرئيس الأمريكي حول انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، قد تغيّرُ شكل وموازين القوى في هذه المنطقة، مما يفتح المجال أمام مزيد من الصراعات أو التفاهمات.

لا يبدو أن للسوريين أي يد في رسم مستقبل المنطقة وسط خارطة نفوذ لا تسمح بأي هامش للحركة، حتى أن أنباءً ترددت على بعض وسائل الإعلام، تفيد بأن سيطرة تركيا وحلفائها على تل رفعت ستكون في مقابل دخول قوات روسيّة إلى جسر الشغور، وهو ما لا يمكن استبعاده في ظل مشهدٍ بالغ السوداوية، يُمنَعُ فيه مهجّرو تل رفعت حتى اللحظة من العودة إلى بيوتهم ضماناً لمصالح روسيا وحليفيها نظام الأسد وإيران، فيما يقيمُ مكانهم مهجّرون من عفرين، يُمنعون بدورهم من العودة إلى بيوتهم حتى اللحظة، ضماناً لمصالح تركيا والفصائل المتحالفة معها.

يمكن أن يُلخِّصَ التنافس على تل رفعت ومنبج سياقات الصراع الإقليمي، وتحويله للقوى المحلية إلى أذرعٍ مباشرةٍ له، ويبدو أن هذا التكثيف قادرٌ أيضاً على تشكيل صورة واضحة عما ينتظر سوريا في الفترة المقبلة، فالحلفاء التقليديون لقوى المعارضة والثورة السورية، يتجهون اليوم إلى بسط السيطرة المباشرة على المناطق الحيوية بالنسبة لهم، فيما يبدو أن مشروع إعادة تأهيل النظام السوري مستمرٌ على قدم وساق، وليس تصريح ولي العهد السعودي الأخير عن بقاء بشار الأسد خارج هذا السياق.

موقع الجمهورية

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى