صفحات الثقافة

تمرين على الحرب/ هنادي زرقه

 

(إلى مها جديد وسعد الدين كليب)

 

أعيش في الساحل السوري، وهذا ترف، على ما أظن، يحسدني عليه كثير من السوريين في المدن المُدمَّرة والتي تعيش على وقع الموت اليومي.

أنا في مأمن من الموت، أو هكذا يُخيَّل لي!

لا أعرف شيئاً عن الحرب، التي لا تبعد سوى مئة كيلومتر أو أقل عن قريتي، سوى ما أراه على شاشة التلفاز، أخشى إطلاق النار، وينتابني هلع رهيب كلما مرت طائرة حربية على ارتفاعات عالية في السماء، أسارع بإخفاض رأسي وأهرع إلى السرير، وكأنني سأتلقى قذائفها!

لم أرَ من الحرب سوى تناقص عدد الشبان في حافلات النقل العمومية، وإذا ما وُجِدوا، فإنهم، على الغالب، يرتدون بزّات عسكرية ويحملون بنادق وحقائب كتف صغيرة متجهين إلى حرب لم يكن لديهم خيار في إشعالها، وليس لديهم الخيار في الوقوف على الحياد، لا يعلمون هل يعودون بكامل أجسادهم، أو بعاهة مستديمة، أو ربما يعودون في صناديق ملفوفة بعلم البلاد. أما الطائرات المدنية التي تقلع من المطار القريب من قريتي، فتذهب ملأى بجنود إلى مناطق بعيدة، لا تلبث أن تعود بعد فترة وهي ترشح دماء الذين أخذتهم.

منذ أربع سنوات، أستيقظ على أصوات سيارات إسعاف وإطلاق نار كثيف إيذاناً بوصول ضحية جديدة سقطت في هذه الحرب، وما إن أخرج من المنزل حتى تطالعني نعوات جديدة تتكدس فوق بعضها لشبان لم يتجاوزوا الخامسة والثلاثين قضوا في الحرب، أما مفارق الطرق وأعمدة الإنارة وأسوار المدارس ومداخل المدن الساحلية فقد غصت بصور هؤلاء الشباب.

لكل بيت حصّته من الحرب، ضحية… ضحيتان… ثلاث ضحايا، من يأبه؟ ومطحنة الحرب لازالت تطالب بالمزيد.

يتكسّر الموت على الموت هنا، بيد أنَّ الحرب بعيدة! وما كلّ الصور تلك سوى رَجْعٌ لهذه الحرب.

لا أعرف كيف تندلع الحروب، وماذا يفعل الناس كي يبقوا على قيد الحياة؟ كيف يستمرون في حياتهم؟ يتابعون أعمالهم، تحصيلهم العلمي في مدينة مثل حلب أو الرقة، على سبيل المثال. سبق وأن رأيت كثيراً من الأفلام وقرأت رواياتٍ شتى، إلا أنها، جميعاً، لم تستطع إيصال معنى أن تخرج من بيتك بثيابك فقط، خوفاً على الحياة.

أي حياة؟!

والأطفال، الذين نجوا من الموت بآلة الحرب، يفترشون الأرصفة بأقدام حافية وثياب بالية، ووجوه متسخة وأفواه فارغة، لا يعرفون شيئاً عن المدارس، ينتشلون أهلهم من العوز بأيديهم الصغيرة، وقد تجد بعضهم لم يتجاوز التاسعة من عمره يمجُّ لفافة تبغ وقد أُصيب بكدمات على وجهه وعينيه. ومنهم من يتعرض لعنف جسدي وجنسي يومي دون أن يصرّح عن سبب الأذية التي تلقّاها.

تتقاطر النسوة والرجال أمام مراكز الإغاثة في الساحل، مصطحبين أطفالهم، وكثير من هؤلاء، يحملون عاهات الحرب، بتر في الأطراف، شظايا في الجسد، إعاقات جسمية ونفسية، ولكلّ شخص حكايته مع الحرب.

يكفي أن ينهار رجلٌ وهو يحدثك عما جرى من قصف وترويع وموت أفراد من عائلته، حتى تتأكد أنك، بالفعل، كائن مترف، إذ مازال لديك منزل وأسرّة نظيفة، أغطية دافئة، ولم تعرف معنى الجوع والتشرّد ومدّ اليد.

لا حرب في الساحل، عبوات ناسفة، تفجير صغير، سقوط قذائف عشوائية وصواريخ حرارية على المدينة، أو على مقربة منها، ازدياد حواجز التفتيش في الشوارع وعلى الطرقات السريعة، كثافة سكّانية هائلة جرّاء تهجير سكّان المناطق المدمّرة، وجنازات مستمرة.

أما في القرى البعيدة النائية عن مركز المدينة، والتي وصلتها الحرب قبل أن تصلها مياه الشرب وحافلات النقل العمومية، لم يبق سوى النساء والأطفال والعجائز في حقول الزيتون وبيادر القمح.

أتخيّل ما يجري في سوريا ليس إلا فيلماً قاسياً طويلاً، لا بدّ وأنه سينتهي، شأنه شأن كل الأفلام التي شاهدتها من قبل. سينتهي، هكذا أفكر، أنا التي لا أعرف شيئاً عن الحرب سوى ما أسمعه من أفواه الناجين.

رأيت الحرب في امرأة خرجت وابنتها سالمتين من حصار مخيم اليرموك بعد أن تناولتا العشب خمسة عشر يوماً، وقد كنت أظن أن هذا محض خيال فقط! أما أن يأكل شخص يعيش في سوريا، البلد الذي ينتج القمح وكافة أنواع الخضراوات والفواكه، العشبَ، فذلك مشهد لا أستطيع تخيّله.

رأيت الحرب في صديقتي الصيدلانية التي وصلت إلى اللاذقية من حلب، بجسدٍ متورّم مليء بالشظايا وفكٍّ مكسور، بعد أن سقط صاروخ في حيّها، وخسرت صيدليتها، وكادت أن تخسر حياتها. وحينها عرفت معنى «مي فرنجي»، حين سألتها ماذا أكلت اليوم؟ قالت: «مي فرنجي»! سألتها ماذا تعنين؟ قالت لي: «خبزة مدهونة برب البندورة».

أنت في الساحل، حيث تنتشر زراعة البندورة بكثافة وتأكل رب بندورة!

أما العائلة التي استلمت زجاجة زيت زيتون من مركز الإغاثة فقد وضعتها في منتصف البيت وأخذت الأسرة جميعها تتأملها بشغف. إذ لم يعرفوا طعم الزيت منذ ثلاث سنوات.

رأيت الحرب في طفلة أكلت الموزة من دون أن تقشّرها، لأنها لم تعرف شكل هذه الفاكهة من قبل. وفي امرأة كانت تبيع ربطة المعكرونة التي تستلمها ضمن سلة غذائية من مركز الإغاثة، لقاء بيضة تطعمها لابنتها المريضة خفية عن ابنتها السليمة!

أضافت الحرب قيمة لأشياء كثيرة لم تكن لتخطر على بال، فلم يعد البشر يرمون قمامتهم كيفما اتفق، إذ بدأوا يفرزونها، ويضعون الأشياء الصالحة للاستخدام أو الاستهلاك في أكياس ويعلقونها على حاويات القمامة، فلطالما اعتدنا في السنوات الأخيرة، رؤية أشخاص وهم ينبشون القمامة بحثاً عن كسرة خبز!

ليست الحرب، إذاً، بهذا السوء؟!

ثمة مكان للحب وسط هذا الموت العبثي، لا أعرف كيف يستمر البشر في الحياة والحب؟ غير أنَّ امرأة مهجَّرة مات زوجها في الساحل، فحملت جثّته وحيدة، وسافرت لتدفنها في حلب تنفيذاً لوصيته، رغم مخاطر الطريق وكثرة الحواجز والرصاص والحرب. إن لم يكن هذا هو الحب؟ فكيف يكون؟

لا شيء يحدث في الساحل، نتابع يومنا على أصوات هدير الطائرات، ونفكّر: ربما تتأخر الحرب في الوصول إلى هنا، نتمرّن على الموت، نعيش تحت سطوة هذا القلق اليومي، متى يحين دورنا؟ متى تصل الحرب الحقيقية إلى هنا؟

من قال: إنك تعيش في الساحل، إذاً أنت آمن!

لا أمان هنا… ولم يكن ثمة أمان في ما مضى، الساحل يحكمه الخوف، وكلّ أمان فيه هو أمان مزيّف.

من قال: إنك ستنجو؟!

لن تنجو والبلاد كلها على قائمة الموت.

(شاعرة سورية)

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى