صفحات العالم

تمرين في الترجمة

 

فواز طرابلسي

من الميزات المستورة للثورات العربية أنها كشفت مفردات وممارسات لم تلقَ بعد ما تستحقه من اهتمام. بعضها مصطلحات جديدة وبعضها ترجمات عملية مبتكرة لمفردات العولمة ومفاهيمها.

على امتداد ربع قرن، جرت تربيتنا على مساوئ الفساد ومحاسن الشفافية. الفساد متجسّد في الموظف المرتشي. ومع أنه لم يجرِ القبض على كثير من الموظفين «الفاسدين»، يصدف أن تأتي حلول مسألة الفساد كلها في خدمة الإملاءات النيوليبرالية لصندوق النقد والبنك الدوليين: ترشيق الإدارات بتسريح الموظفين الزائدين، تحجيم الموازنات الحكومية، تقليص نفقات الدولة الداعمة للمحروقات والأغذية، الخصخصة، إلخ. ولكن، مَن يحاسب الراشي؟

في أي قاموس من قواميس العولمة يجري تفسير الحالات الآتية؟

÷ في العام 2011 أعلن مليك المغرب التبرّع بأرباح شركاته للعام 2010 لمصلحة الأعمال الخيرية امتداداً لمعالجته الاحتجاجات الشعبية ضده. قيمة أرباح المليك 1,2 مليار دولار. يحرّم دستور المغرب على رجالات الدولة العمل بالتجارة؟ فمن يحاسب الملك على مخالفته الدستور وعلى حساب السنوات التي فاتت؟ بل من يراقب كيف وزّع المليار وربع المليار من أرباحه على افتراض أنه وزّع؟

÷ على أثر هجوم أهالي درعا على مركز شركة سيرياتل مطلع الثورة السورية، أعلن صاحب الشركة رامي مخلوف، أمين خزنة الأسرة الحاكمة في دمشق الذي يفاخر بأنه يسيطر على 60% من الاقتصاد السوري، أنه قد علّق أعماله الاقتصادية وحوّلها للأعمال الخيرية. قيل حينها إنه يتملّص بذلك من العقوبات الاقتصادية التي طالته. يجوز. أية شرعة دولية للاقتصاد الحر تجيز لأسرة من بضعة أفراد أن تحتكر هذا المقدار من اقتصاد بلد؟

÷ يتحكّم خمسة أو ستة أمراء من آل سعود بعشرة في المئة من عائدات النفط، عشرة ملايين برميل يومياً يصل ثمن البرميل إلى مئة دولار أميركي في بلد يعيش 40% من أهله تحت خط الفقر.

وما لا يقع في باب الاستحواذ المباشر على الاقتصاد والموارد والثروات، يقع في باب التصرّف والسيطرة والانتفاع.

÷ تبيّن أن آل القذافي كانوا يتصرّفون بصندوق الاستثمار السيادي للدولة الليبية و120 ملياراً. (وآل القذافي أبناء العم الفقراء لأسر الخليج والجزيرة). فأكبر الصناديق السيادية في العالم هي بتصرّف آل النهيان في أبو ظبي 750 ملياراً، وآل سعود 425 ملياراً، وآل الصباح في الكويت 213 ملياراً، وآل ثاني في قطر 52 ملياراً. (للعلم، الصندوق السيادي للولايات المتحدة الأميركية بالكاد يتجاوز الخمسين مليار دولار).

لم يجمع هؤلاء الحكّام الثروات بعرق الجبين ولا بخير العمل. ورثوا ثروات تراكمت من ريوع أرض ونفط استولت الأسر عليها بقوة العصب العائلي أو القبلي وحدّ السيف في الغزو والسّبي والغنيمة أو بالانقلابات العسكرية. وسوف يورثونها لأبنائهم إلا إذا وضعت الثورات حداً لهم. وليست تكتفي تلك الأسر بما فوق الأرض وتحتها. لجأ آل خليفة إلى بحر البحرين يردمونه ويستثمرون الأراضي المستحدثة بالمضاربة العقارية.

العدالة الانتقالية صيغة أثيرة من الآليات الدولية الرسمية في حقل «فض النزاعات».

ومع ذلك برّأت «المبادرة الخليجية» علي عبد الله صالح، ومعاونيه، من أية مساءلة أو محاسبة أو محاكمة أو عقاب على 33 سنة من الحروب والاغتيالات والنهب والسرقة. وفي ظل «العدالة الانتقالية»، بإدارة مباشرة من ممثلين عن الأمين العام للأمم المتحدة وتحت العين الساهرة والآمرة للسفير الأميركي في صنعاء، ينعقد «مؤتمر الحوار الوطني» اليمني الذي منح أكبر عدد من مقاعده لحزب الرئيس المخلوع والمبرّأ من كل ذنب. من التهم الموجهة لعلي عبد الله صالح احتلاله العسكري لجنوب البلاد في ما سُمّي «حرب الوحدة والانفصال» العام 1994. يتبيّن الآن أن تلك الحرب، التي أثارت حماسة غير قومي عربي من المحيط إلى الخليج، كانت غزوة قبلية مستوفية الشروط. فقد اعترف حميد الأحمر، رجل الأعمال وأحد شيوخ قبيلة حاشد، بأنه شارك في «نهب» ـ والتعبير له ـ الشطر الجنوبي من اليمن في تلك الغزوة. وتبرير الشيخ البزنسمان أن اليمنيين ـ أي أهالي «شمال اليمن» ـ شاركوا كلهم في نهب «الجنوب» ومعهم قسم من «أهالي الجنوب» ذاتهم.

في أي خانة «ثقافية» من خانات العدالة الانتقالية يجري وضع الغزو والغنيمة والسبي؟

«فيلانثروبيا»: مصطلح جديد سوف نسمع عنه كثيراً من الآن فصاعداً.

والفيلانثروبيا تدبير أميركي يجيز حسم الأرباح الموزعة للأعمال الخيرية من المبالغ الخاضعة للضريبة. تشتغل آلات الفيلانثروبيا في ظل نظام من الضريبية التصاعدية على المداخيل (معززة بضرائب مرتفعة على الإرث والريع العقاري والفائدة المصرفية وسندات الخزينة والبيوت الثانوية وما إليها). يريد الرئيس هولاند الفرنسي رفع ضريبة الدخل التصاعدية إلى 70% على الأرباح التي تزيد عن مليون يورو (!).

في بلادنا، بدأ السعي لتزويج الفيلانثروبيا على الإحسان والصدقات والزكاة والخمس. شتان بين الأرض والسماء. تشتغل الفيلانثروبيا في ظل نظام ضريبي قاس. أما ترجمتها العربية ـ الإسلامية فالمؤمل لها أن تخدم في نسف النظام الضريبي من أسسه وتستعيض عنه بالفريضة الدينية وقد تحوّلت إلى منّة بدلاً من حق، وإلى ممارسة يؤديها الإنسان «بينه وبين ربه»، أي بمعزل عن أي تصريح.

قد يعجب المرء أن يهدّد الإخوان المسلمون المصريون خصومهم بـ«حد الحرابة» وهم ممثلو «الإسلام الوسطي» المسالم. يزول العجب إذ نكتشف أن تفسير «حد الحرابة»، عند حزب الرئيس مرسي، هو «الشركات الأمنية الخاصة»، وهي ممارسة تنسجم تماماً مع توجهات الحزب النيوليبرالية. بل يمكن تأويل «الحد» ليشمل شركات «الفاليه باركنغ» أيضاً.

وهي بسمة باتجاه باسم يوسف.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى