صفحات العالم

تموضع روسي أميركي جديد في الصراع السوري/ ماجد كيالي

 

التموضع الروسي

الموقف الأميركي

مقارنة بين الطرفين

لم يأت التموضع التركي الجديد والمفاجئ إزاء صراعات القوى في الشرق الأوسط، وضمن ذلك إزاء روسيا وإسرائيل نسيج وحده، فهذا التموضع ابن البيئة الدولية والإقليمية، وتكيفا معها، سيما أنه يمكن الحديث عن إعادة تموضع روسية وأميركية أيضا، وسيكون لتداعيات كل واحدة من الحالتين شأن كبير على مآلات الوضع السوري والثورة السورية، وعلى مكانة الفاعلين الدوليين والإقليميين في إطار الصراع الجاري على سوريا.

التموضع الروسي

من جهة روسيا، فإن التموضع الجديد يتمثل بالتمايز الذي بات علنيا وواضحا في المواقف بين كل من روسيا وإيران بخصوص ما يجري في سوريا، بشأن الموقف من نظام الرئيس بشار الأسد، ومن مسألة الهدن، والعملية التفاوضية.

ففيما تبدو إيران مصرة على استمرار الأسد في السلطة إلى ما بعد المرحلة الانتقالية، باعتباره الضامن الوحيد لاستمرار نفوذها، ليس في سوريا فحسب وإنما في العراق ولبنان أيضا؛ ثمة تسريبات تفيد بأن روسيا ليست متمسكة إلى النهاية بالرئيس، وأنها تفعل ذلك الآن فقط لمصلحة بقاء الدولة السورية وتلافيا لانهيارها.

إضافة إلى ذلك فمن المعلوم أن روسيا تعول في دورها على العملية التفاوضية، مع العمل العسكري من الجو، في حين تعوّل إيران فقط على الحل الأمني، مع مشاركة ميليشياتها اللبنانية والعراقية في الصراع إلى جانب النظام. ولعل كل ذلك يفيد أنه بات ثمة فارق جوهري في مضمون مواقف هذين الطرفين؛ الروسي والإيراني، كما في اصطفافهما على الأرض، وفي هدف كل منهما من أغراض تدخله العسكري، من دون أن نستنتج من ذلك أن ثمة عداوة أو خصومة بينهما.

وفي الواقع فقد مررت روسيا في الآونة الأخيرة عدة رسائل أرادت عبرها التوضيح للعالم -وضمنه الإيرانيين- أن سوريا منطقة نفوذ لروسيا لا لإيران، وإن كان لهذه دور ما فيها، لأنها أصغر من أن تنافس روسيا في سوريا. وقد تبدى ذلك واضحا من تسريب “فيلم حميميم” (القاعدة البحرية الروسية على الساحل السوري)، الذي ظهر فيه الرئيس الأسد وكأنه في حالة استدعاء إلى قاعدة روسية في سوريا لمقابلة وزير دفاع بلد آخر.

هذا أيضا ما يمكن استنتاجه من رفع الغطاء الجوي الروسي -ولو لفترة معينة- عن الميليشيات التي تشتغل كأذرع لإيران في سوريا مثل حزب الله في مناطق حلب، وفي نفي السفير الروسي للكلام الذي صدر عن زعيم هذا الحزب حسن نصر الله بخصوص وجود معركة مصيرية آتية في حلب (رغم أن ذلك جرى فيما بعد لكن وفق الأجندة الروسية).

وعلى الأرجح فإن هذا الاصطفاف الجديد في علاقات القوى المتصارعة على سوريا سيفضي بطريقة ما إلى إضعاف دور إيران، وتاليا لإضعاف أهم قوة ساندت نظام الأسد في السنوات الماضية، وأسهمت في وصول الأوضاع في سوريا، وفي المشرق العربي عموما، إلى ما وصلت إليه، من حال التصدع الدولتي والمجتمعي.

ومن شأن هذا الإضعاف أو هذه الإزاحة -ربما- توحيد الجهود مستقبلا في اتجاه إخراج كل الميليشيات العسكرية من البلد، سواء الموالية للنظام أو المناهضة له أو التي لها أجندة خاصة (داعش والنصرة مثلا)، وبالتالي وضع حدّ للصراع المسلح، أو التخفيف منه، بانتظار أن تفرض التسوية السياسية ذاتها.

الموقف الأميركي

أما من جهة موقف الولايات المتحدة الأميركية فقد بدا موقفها مؤخرا أكثر مهادنة لموقف روسيا، حتى إنها وضعت المعارضة السورية السياسية والعسكرية في موقف حرج، في حديثها عن توحيد الجهود لمواجهة “داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) و”جبهة النصرة”، بالتزامن مع إقامة حكومة انتقالية مع بقاء الأسد لفترة معينة، مع تأكيدنا أنه لا مفاجأة في حدوث تغيرات معينة في الموقف الأميركي، لأن هذا ما عودتنا عليه الإدارة الحالية.

ويمكن تفسير موقف الإدارة الأميركية إزاء سوريا بثلاثة أسباب: أولها، أن البلد المعني لم يكن محسوبا طوال العقود السابقة ضمن دائرة حلفائها التقليديين، لذا فهي لا تشعر بخسارة ما في هذا المكان. ثانيها، أن مصالحها مضمونة بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم، سواء كانت مصالح سياسية أو اقتصادية أو أمنية، وهو ما يمكن تبينه من مراجعة السياسات التي انتهجها النظام السوري طوال المرحلة الماضية، بغض النظر عن كل الشعارات أو الادعاءات. وثالثها، أن هذا البلد صغير وفقير الموارد، وتنبع أهميته من موقعه الجغرافي، ومن جواره مع إسرائيل.

بيد أن هذه الأسباب لوحدها لا تكفي لتفسير المواقف التي انتهجتها الإدارة الأميركية، لأن أركان هذه الإدارة، من رئيسها باراك أوباما، إلى سفيرها السابق في سوريا روبرت فود، مرورا بوزير خارجيتها جون كيري، طالما أدلوا بتصريحات تقول إن الأسد فاقد للشرعية، وأن عليه أن يرحل. بل إن هذه التصريحات -التي رافقت بدايات الثورة السورية قبل قرابة خمسة أعوام- قد يمكن اعتبارها أحد أهم العوامل التي شجّعت السوريين على الاستمرار بثورتهم، وربما كانت من أهم عوامل تحول بعض الجماعات نحو العمل المسلح ضد النظام، مع عوامل أخرى.

وفي الواقع فإن تعامل إدارة أوباما مع المسألة السورية ظل ملتبسا، ويحمل إشارات متعددة، فهي من جهة تساند الثورة السورية قولا، ومن جهة أخرى لا تفعل شيئا من الناحية العملية، لا فيما يتعلق بوقف القتال في سوريا، أقله بواسطة القصف بالبراميل المتفجرة، ولا لتمكين “الجيش الحر” من الدفاع عن نفسه بواسطة مضادات للطيران، مثلا، ولا بشأن السماح لتركيا إقامة منطقة آمنة.

أيضا، هي مع بيان جنيف 2012، بخصوص التأسيس لمرحلة انتقالية تتشكل فيها هيئة تنفيذية كاملة الصلاحيات، ولكن ليس لديها مشكلة مع بقاء بشار الأسد، إبان تلك المرحلة. هي ضد الوجود الإيراني والروسي في سوريا، ولكن لا مانع لديها من مشاركتهم في إيجاد حل للمسألة السورية.

على ذلك فإن السياسة التي تنتهجها الإدارة الأميركية إزاء سوريا، في هذه المرحلة، تتأسس على الاستثمار في المسألة السورية، وهذا يختلف عن إدارة الأزمة، لأنها في حقيقة الأمر -ومن الناحية العملية- تشجع كل الأطراف على المجيء إلى سوريا، وعلى تحويل سوريا إلى ساحة للمواجهة أو للصراع، في حين تجلس هي في مقاعد المتفرجين، أو في مكانة الحكم بين الأطراف.

ولعل الإدارة الأميركية تشتغل هنا بناء على فكرتين مفادهما، أولا، ترك الآخرين يتقاتلون فيما بينهم ويستنزفون بعضهم، بما يشبه مقولة “دع العرب يتقاتلون”، والمقصود هنا إيران وتركيا وروسيا والسعودية، وغيرها من الدول العربية. وتنطلق في ذلك من قناعة مفادها أن كل الأطراف، بعد أن تكون أُنهكت واستنزفت، ستلجأ إلى الولايات المتحدة، باعتبارها صاحبة القوة الأكبر، وباعتبارها الحكم.

ثانيا، وفي ذات السياق، لا يمكن أن ننسى القطبة المخفية (أي الإسرائيلية)، في هذا الأمر؛ إذ أن أغلب المؤشرات تفيد بأن إسرائيل هي أكثر دولة مستفيدة من بقاء الأمور على ما هي عليها في المنطقة، ولا سيما في سوريا، أي أن توفير منطقة آمنة لمدى زمني طويل يدخل في الحسابات الأميركية كأولوية. والحقيقة فإن الولايات المتحدة التي لم تعد بحاجة إلى نفط المنطقة ولا إلى استقرار أنظمة الحكم “الصديقة” فيها باتت تأخذ في اعتبارها فقط مصلحة إسرائيل.

مقارنة بين الطرفين

بناء على ما تقدم يمكن الاستنتاج بأن الحديث عن تنسيق روسي أميركي أو “تلزيم” سوريا لروسيا أو انكفاء أميركي ينطوي على سذاجة، أي أن هذه سياسة مقصودة للولايات المتحدة الأميركية، وكأن روسيا تشتغل بدلا عنها، أو عندها، في الشرق الأوسط، ومن دون أن تتكلف أي ثمن بشري أو مادي.

ما ينبغي الانتباه إليه أن ثمة مبالغة بروسيا، وبالدور الروسي، وهذا ناتج عن خلط المتعاطفين مع السياسة الروسية بين الإمبراطورية التي كانت وازدهرت زمن الإمبراطوريات، وحتى في زمن الإمبراطورية السوفييتية، والتي صاحبها ازدهار الفنون والأدب والرياضة ونمو الصناعة، وبين روسيا اليوم التي باتت مجرد دولة لا يكاد أحد يلحظ أنها تضيف شيئا جديدا للعالم في مجال الثقافة والفنون والصناعة والتكنولوجيا والعلوم.

كما الخلط بين الاتحاد السوفييتي السابق وبين روسيا اليوم، التي يتحكم فيها فلاديمير بوتين، والطغمة الملتفة حوله من رجال المال والأمن، بحيث تحولت إلى بلد من بلدان العالم الثالث، في نمط الحكم وتهميش المجتمع، وكبح التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفقدان الديمقراطية الليبرالية التي تميز الدول الغربية.

وفي حقيقة الأمر فإن روسيا اليوم هي بمثابة دولة فقيرة، فهي رغم حجمها الكبير، كأكبر بلد في العالم، مع 17 مليون كلم2، وقلة عدد سكانها (145 مليونا)، وثرواتها المعدنية والنفطية، فإن مستوى المعيشة فيها منخفض، ومستوى خدمات التعليم والصحة والبنى التحتية فيها مترد.

وبحسب تقرير التنمية البشرية (2014)، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، فإن متوسط حصة الفرد من الدخل السنوي تبلغ في روسيا 23 ألف دولار (الولايات المتحدة 51 ألفا)، أي أن ثمة 45 دولة أعلى منها، علما أنها تحتل الترتيب 57 في دليل التنمية البشرية. ومقارنة مع الولايات المتحدة التي يبلغ ناتجها القومي السنوي 17 ترليون دولار، فإن الناتج السنوي لروسيا يبلغ 3.4 ترليون دولار، وثمة دول عديدة أعلى منها، أو تتساوى معها.

ومعلوم أيضا أن الولايات المتحدة تنفق 3 بالمئة من دخلها القومي على البحث العلمي، أي ما يساوي 450 بليون دولار سنويا، بينما تخصص له روسيا 1.2 بالمئة فقط، أي ما يقارب 40 بليون دولار. كذلك فإن الولايات المتحدة تنفق على التسلح حوالي 700 بليون دولار سنويا، أي ما يعادل خمس الناتج القومي الروسي. والأهم من ذلك أن ثمة فجوة علمية وتكنولوجية كبيرة بين الطرفين، إلى الدرجة التي تشكو فيها روسيا من العقوبات الأميركية، وتلح بضرورة رفع الحظر عنها؛ مع كل ادعاءاتها عن ذاتها بأنها دولة عظمى.

ويستنتج من كل ما تقدم أن السياسة الظاهرة هي مجرد غطاء لحقيقة مفادها أن الولايات المتحدة الأميركية هي اللاعب الرئيسي، فهي بمثابة موزع للتناقضات في سوريا -وفي المنطقة والعالم- وتاليا فهي التي توزع الغنائم والحصص نظرا إلى كونها الدولة الأقوى والأكثر قدرة وتأثيرا، ليس من واقع قوتها العسكرية فحسب، وإنما من واقع قوتها الناعمة أيضا، أي قوتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ومن الفجوة الكبيرة بينها وبين العالم على هذه الأصعدة كافة.

هذا يعني أن أي حديث عن تنسيق روسي أميركي بخصوص إدارة الوضع في سوريا، هو مثير للسخرية حقا، لأنه مجرد محاولة للتلاعب والاستخفاف بالعقول، إذ من السذاجة بمكان الاقتناع بأن هناك تنسيقا بين طرفين متكافئين حقا. فإذا كان هناك نوع من التنسيق، فتفسيره على الأرجح، يكمن في أن الولايات المتحدة تريد المزيد من التورط لروسيا فلاديمير بوتين في الصراع السوري لإرهاقها واستنزافها.

وهذا يفيد بأنروسيا تتحرك في المربع أو في الهامش الذي تحدده أو ترسمه الولايات المتحدة، لا أكثر، وهو ما يفسر سعي روسيا إلى حل سياسي، كما يفسر ذلك سرعة استجابتها لتطبيع العلاقات مع تركيا، وطلبها المستمر رفع العقوبات الأميركية المفروضة عليها، وضمنه رفع الحظر عن استيرادها تكنولوجيا متقدمة.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى