صفحات الثقافة

تم حذف الصورة/ فايز العباس

 

 

ثلاث سنوات من الوحدة، الوحدة الممزوجة بمرارة بعدكِ، وحلاوة لقاءاتنا عبر كاميرات الموبايل، الوحدة التي كنت أقيسها بأكثر من طريقة للقياس؛ ثلاثة آلاف كيلومتر، ثماني دول وبحر، ساعة في التواقيت بين بلدين، كنتِ تدخلين عاما جديدا وبعد ساعة كاملة أدخله، كما لو أنني سأظل متأخرا دائما عن مواعيدك ساعة، تلك الثغرة في الزمن لا تعدو كونها خطًأ فنيًا في لوحة لسيلفادور دالي، مجرد خطٍأ مائعٍ ندفع على الدوام فاتورته التي لا تنتهي.

ثلاث سنوات كانت كاميرا أمامية بدقة خمسة ميغا بيكسل كفيلةً بأن تجمع بين زمنين، أنت التي طالما تمنيتِ أن تدخلي آلة الزمن تُطلّين عليّ، تخاطبين المستقبل المجهول، وأخاطبُ الماضي المنتهي، تخيلي معي أن المستقبل الذي لم يبدأ يلاحق الماضي، ويسعدُه أن يرى ابتسامةً تبعد ثلاثةَ آلاف كيلومتر مقبلةً عبر الأثير وتجلس أمامه على الطاولة.

ولأن شيئا ما – ربما عطلٌ في شبكة الإنترنت – أدى لقطع الاتصال، وأدى بالمحصلة لنفورٍ بين الزمنين، سنواتٌ ثلاثٌ تركْنَ بيننا الكثيرَ من الصور التي رحتُ أُدِيرُ عنها وجهي فتلاحقني، واليوم قررتُ أن أفتحها كلَّها، ولأنها صورٌ مقدسةٌ لديّ، رأيتُ أن أحرقها على الملأ، كما لو أنني أفتتح معبدا أثريا، أو مزارا للتبرُّكِ والنذور، أو مقبرةً جماعيةً لشخصٍ واحد.

صورتك والبحر: يحملك البحرُ متوهما أنكِ موجةٌ خرجتْ على سياق النصِّ، ويحملكِ الموجُ متوهما أنكِ الرملُ الذي بنى عليه البحّارةُ مدائنَهم المشتهاة، فيما كنتُ أجلس قريبا من الحلم، أُحمِّل أبنائي القادمين طيفَك، مرددا بنشوة من ترك آخرَ الكأس في آخر كأسٍ من خيالك؟ وأنتِ تؤدّين دورَ الشواطئِ، تجثو البحورُ على ركبتيها، وأحتارُ؛ أيُّ البحورِ جديرٌ بحملِ السفينةِ حيَن تكونين بيتَ القصيد؟ البحر واسع، والناس رمل الشواطئ، و»الطاقية بتجنن». الآن أمرُّ على هذه الصورة وأضغط بيدٍ مرتجفةٍ «Delete».

صورتك بثوب النوم الشفيف: على سريرٍ واسعٍ لأنثى وحيدةٍ ينام كونٌ كاملٌ، كنتُ أغني لئلا تنامي؛ فصوتي في الأغاني نشازٌ بشهادتك الدائمة، أغيّر الحديثَ، أتغزّلُ بمدفئتكِ التي من ماركة «كوكب الشرق»، وتتغزلين برائحة الطبيخ في الصور التي أشارككِ إياها، ولأني أعلم أن صوري لم تعدْ تهمّكِ أغنّي لك وللمرة الأخيرة: «لاتردين الرسايل وايش اسوي بالورق، وكل معنى للمحبة غاب فينا واحترق»، وبعدها ها أنا أستخدمُ زرَّ الحذف للمرة الثانية.

صورة نادرة لأصابع يدك: خمسةُ شوارعَ تفضي كلُّها لبيتكِ البعيد وأقصد قلبي، شمسٌ بيضاءُ بأشعةٍ تنفَذُ إلى الروح مُسلّحَةً بطلاء الأظافر الفضي، ولأنكِ تحبين الفضاء وعوالمَه قلتُ لك: إنها كواكبي الخمسةُ التي لا حياة على كوكب خارج مجموعتها، كلما رأيتُ الصورةَ تذكرتُ أن كل الكلام الجميل الذي وصلني كان يمرُّ من خلالها، ولن تكفي لنعدّ عليها كلمة «أحبك» التي قلتِها خلال الأعوام الثلاثة، غير أنها تكفي لتقبضَ على العمر متلبسا بهوسه بها، أتردّدُ قليلا، ثم أستجمعُ قواي، وأحذفها من الذاكرة.

صورتك وأنت تدخنين: أنثى مثلك تعرف كيف تحرق البلادَ بوهج سجائرها، تعلم كيف تجمع في منفضة واحدة كل اللحظات الجميلة، تتلو عليها صلاة الغائب، ثم تتمُّ مراسمَ الدفن وتنفث الدخان كما لو أنها انتهت من قراءة رواية، تأخذني هذي الصورة لكل محادثاتنا عبر الهاتف، أذكر كم مرة عرفتُ من صوت «الولاعة» أنكِ أتممتِ جعلَ سيجارةٍ أخرى رمادا، وروحي التي كنتِ تفرحين لقولي: إنها تحترق.

هذه الصورة تحديدا أودُّ حذفَها على عدد المرات التي تحدثنا بها، غير أني أشفقُ عليَّ من تكرارها فأحذفها وأمضي.

صورك في باب شرقي، صورك وأنت توقعين للمعجبين ديوانك الشعري، صورتك في محل الألبسة، صورتك بعد تسريحة الشعر الجديدة، مع الطفل الذي تحبين، مع أمك وجدتك، مع أبيك، مع أخيك، مع أصدقائك بعد سهرة عشاء، الخ.

اليوم أستطيع النوم وحيدا جدا، حيث تمتلئ سلة الحذف بأعوام ثلاثة من الحب.

*ملاحظة: صورتك الأولى التي فتحتْ كل هذا الحريق على مصراعيه بضحكتك الهائلة سأجعلها شاهدةً للمقبرة.

٭ شاعر سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى