صفحات المستقبل

تناص شعري مع الموت/ أحمد الشمام

 

 

لعل برزخاً واحدا ظل عصيا على العقل يطل كل حين شاهراً معول احتطابه أمام قصب أعمارنا، لم نعرف عنه سوى ما يأخذه منا دون اكتناه لعالمه الآخر دون ملمح أو إشارة، إذ ليس للغائب عودة والحديث عن كنهه ما هو إلا محض افتراض مشغولين بوجع الهزيمة قبالته أو فانتازيا المواجهة.

دورته القليلة قديما على شخوص المكان جعلت من قدومه تأريخا لأعوام كأن تروي جدتي حدثا تؤرخه بعام موت فلان، ها هو ذا يصبح اليوم طقسا يقتات دمنا، ونتلقاه بتبلد أحاسيسنا قبالة شريط الأخبار، فلم نعد نعدُّ اليوم الذي لا موت فيه، ولو أن القنابل لم تأخذهم زرافات لبتنا نوزع ساعات النهار ودقائقها على أسمائهم، ساعتان للأطفال قبيل استيقاظهم وطلب الحليب المفقود، ساعة للرجال، وثلاث للنساء عند الظهيرة قبل شاي العصاري، ووقت مفتوح للشيوخ في أول الليل بعد حكايا النوم لأطفال روزنامة الموت التالي.

والشعر مملكة تتلمس ذاتها بتعدد من يفجر طاقة صمتها بالإيماء حينا وبالبوح حينا، واللغة أم تجد كينونتها بالتعدد مثل وطن ثرنا لأجله، تخسر شيئا من وميضها عندما يغادرها مبدع فتفقد ثغرا مضيئا وتذوي.

موت الشاعر فيه بتر لأكثر من روح، فهو ليس روحا فقط أو أبا لأطفال بقدر ما هو مخاض إبداع على وشك، وهو يقول في النهاية مملكتي ليست في هذا العالم، موت الشاعر بتر سيرة وجع ومحاذاة أرواح لأفق يليق؛ توقف ملحمة تبوح بها السماء من تحرش يده الراعشة.

نصوص لم تكتمل بعد وأسئلة على مسودة الحياة ستذوي بانتظار من يفتقها بطريقته، القصاصات لها روح أيضا وبكل حال هي ليست كزهرة في الأصيص ليرويها شخص آخر، فليس للقصيدة إلا أب واحد أو أن كل شاعر هو أب لقصيدته التي تأخذ ملامحها من ذاته، وتحيا من مشيمة روحه ورؤيته.

“أحمد النشمي” الشاعر الذي قال لي يوما أريد منك إن استشهدتُ أن تعطي لزوجتي مبلغا تعتاش به، ولأنه يكثر من المزح طرح رقما خياليا، فما استطعتُ إلا أن أضحك، وقلت له أخبرني قبل استشهادك بيوم لأنفذ عملية انتحارية، وأخلص من وصيتك الثقيلة؛ هو نفسه هجر سيمياء الحرف وفوضى الدلالة ليجسد النزوع لنقطة يعلق بها وتر الانتباه على مسمار روحه الذي دقه في السماء.

يموت الشاعر وقد لا يسير في جنازته أحد، لكن جيلا من العشاق وأسرابا من بجع القصائد ستهاجر في غير رجعة آن تجف بحيرات جنون لغته بانتظار حجره الذي أجفل ركودها بشهقة الحياة، وشعرا كثيرا سيبقى حبيس بئر يوسف ويذوي إذ لا أنثى بقصيدة شاعر تطل وتدلي ضفيرتها عليه.

ولعل الموت يفجر وجعا غير اعتيادي لكنه يبقى في المتون التي استنفدت طاقة احتفاءاتنا الرتيبة والآيلة إلى زوال لتفسح لمتون أخرى بينما الموت المفاجئ يبدو فائض الوجع ذاك الذي يستبطن الهوامش ويحتاج إلى صوت ولغة أخرى الهوامش التي تبقى لأن أحدا لا يكترث بها، والشاعر اختار أن يبقى في المكان الذي تحول هامشا بينما يرتحل الهاربون بحياتهم لمتون بعيدة؛ وبقي ملتصقا بهموم خبز الصاج والتراب والطين بجراح من عانوا واختار أن يحيا على الحواف ليعرف كنه الحياة ويجسر هوة الكلمات التي تنسج من بعيد واختار محاذاة الحواف التي تفصل بين الحياة والموت مقولته “من يواجه الموت ويتمشّ معه يرَ الحياة بقلب مفعم بها أكثر من أولئك الغارقين في هِناتها” كانت لحظة كشف وبدء افتراق بعد هنيهة إلى ضفتي موت وبقاء وأنا أجدف بينهما حيث نهر الحياة حافة بين ضفتين ليس إلا.

سرعان ما نؤثث حياتنا بمعاني غيابه كصديق ونقتله بذلك، نعلق صورته وننتظر “اللايكات” وجمل تطييب الخاطر التي مقتُّها لتقليديتها، ولأنها تذكرني بمهرجان شعري كنا سنقيمه بالقامشلي أسبوعيةً للشاعر محمود درويش، فألغاه أمين فرع الحزب المتوجس من أي نشاط لنا فاتصل بي يعزيني به، وأتخمني بمدائح لمحمود درويش “السوري” جاهلا ما درسه عن فلسطينيته في الإعدادية، وأن عزاءنا كشعراء هو عزاؤهم كحزبيين، حتى شعرت أني أخ للشاعر وصاحب بيت العزاء الرسمي عبر جملة “البقية بحياتكم ومصابكم مصابنا”، ومن يومها أدركت أن الشعراء عائلة واحدة.

يولد الشاعر كنبي منبوذ ويموت كملك خائب، وما بين الولادة والموت تظل سيرة روحه المسكونة بالتحليق كلما أثقلتها الهموم شهقت إلى أعلى، والشاعر إذ يستشهد لربما حاول أن يتوحد بمن غرقوا أو من قتلوا في لجة الحرب مؤمنا بمقولة “الموت لا يوجع الموتى لكنه يوجع الأحياء” فلم يجد في خربشاته “نصا كاملا” يروي وجعه، فاختار أن يرمي بقصاصاته جانبا ويعيش النص الذي يروم؛ بالموت في تناص شعري فريد مع موت من عاشهم وعاش موتهم، فغاب راعفا بالحياة.

(سورية)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى