صفحات الثقافة

تويتراتور: عندما يصبح التغريد ادبا

 

رلى راشد

“تويتراتور”. صار المصطلح متداولاً ومستخدماً ومألوفاً. تجمع المفردة الهجينة بين كلمتي “تويت” بإسم الرسائل المتداولة على موقع “تويتر” للتواصل الاجتماعي و”ليتيراتور” أي أدب بالفرنسية. لكأن في ذلك سعياً إلى التوفيق بين نقيضين. يقدّم حساب “تويتر” واجهة تغري الكثيرين من المشتغلين في حرفة القلم، ذلك أنها تتلاعب وبسهولة، بوتر الأنويّة الطافحة عند البعض، ليصير المكان الأنسب للإعلان عن صدور كتاب أو نشر مقال أو ظهور إعلامي. يجد أي خبر آني محوره الأنا التأليفية، فسحته الأرحب في رسالة لا تفيض على 140 حرفاً، يتراوح مضمونها بين الفكرة المقتضبة والقول مأثور. ها هنا وتيرة الكلام مستعجلة ولا مجال للإطالة ولا يمكن التعويل على إرجاع عقارب الوقت. ما ينشر على “تويتر” قد نشر. ليس ثمة إمكان لحذف القول ما أن يخرج الى العلن، لأنه يستحيل كلاماً يحاسب عليه.

يتأنّى الكتاب في الإجمال في نشر الكلام المقطوف قطفاً، يقيسونه بميزان أكثر دقة من سواه، ميزان الذهب الأدبي. غير أن ذلك لا يعفيهم من الخضوع لسؤال ضروري: هل تصير الرسالة القصيرة “تويت” أدبا لمجرّد أن واضعها أديب؟ يمكن البحث عن جواب في نتيجة الاختبار الذي أجراه قبل مدة وجيزة الصحافي في صحيفة “لو دوفوار” الكندية فابيان دوغليز. أقنع الصحافي خمسة وعشرين كاتباً فرنكوفونياً آتين من فرنسا وكيبيك والمغرب بكتابة قصة قصيرة لا تزيد على 140 حرفاً ثم جمعها في كتاب ألكتروني طبعاً يمكن تحميله على “آي تيون”. التزم الكسندر جاردان وميشال ترامبلي وبرنار بيفو والطاهر بن جلون ويان مارتيل وآخرون التحدي وابتكر كل في دوره “تغريدة” كما تعاينها التصنيفات التقنية، وحكاية روائية شديدة الاقتضاب وفق المقاربة الأدبية. تبدّت التجربة لقاء غير محتمل بين التكنولوجيا والهوى الكتابي، حاولت تطويع التمرين التأليفي بما يتوافق مع العصر التكنولوجي. دفعت بالكتّاب إلى عصر أفكارهم بل إلى تقطيرها وصولاً الى ماهيتها.

التجربة جسورة بلا شك، غير أنها تستند إلى مثال أثبت قابليته للحياة وعرفته أميركا اللاتينية بإسم “ميكروكوينتو”. القصة المتناهية الصغر هذه، جنس أدبي ريادي بشتى المعايير يلائم الألفية الثالثة تماماً في حين أطلق للمفارقة في الستينات من القرن المنصرم، ليعرف ألقه في السبعينات والثمانينات من القرن عينه. انبثقت الـ “ميكروكوينتو” في موازاة تشكّل الحداثة الأدبية كتسجيل صوتي لإيقاع الحياة المدينية. استبقت السّرد الموجز والتهكّم والمحاكاة الساخرة والفكاهة السوداء  ونبذت الافكار الأكاديمية، لتبرز أسلوباً جديداً لفهم الواقع يرتكز على الانفتاح والتفكّك والتبصّر. والحال أن سجلّات الأدب تشير إلى قصة “الديناصور” للكاتب ابن غواتيمالا أوغوستو مونتيروسو كأكثر “ميكرو كوينتو” إيجازاً في تاريخ الأدب العالمي. تقول الحكاية المنتهية قبل أن تكاد تبدأ: “عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك”. يجيء  مونتيروسو بإعجاز فعلي على مستوى التأليف، لأنه يوحي للقارئ أن ثمة قبل وبعد هذه الكلمات اليسيرة، كأن الحكاية تدور في مكان آخر خارج حظيرة الكلام، في بياض الورق.

“أن نغرّد أو لا نغرّد، هذه هي المسألة” ذكر الكاتب والسيناريست الفرنسي دافيد فوينكينوس على حسابه الشخصي على موقع “تويتر” مختصراً علاقة الكتّاب الشائكة بالحداثة التقنية. الكتّاب في عالم “تويتر” و”فايسبوك”. كيف كان ليُكتب تاريخ الأدب لو وجدت مواقع التواصل الاجتماعي منذ زمن؟ هل كان كيتس ليدوّن افتتانه بفاني على حائط حسابها  الشخصي على “فايسبوك”؟ هل كان أرنست همنغواي ليخرج من الفقاعة الافتراضية ويصير عمدة جميع حانات باريس؟ في الثرثرة الكونية الافتراضية ما يبهر وما ينفّر، وفي الهويات المؤسطرة افتراضياً شيء من الحقيقة والكثير الكثير من الكذب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى