صفحات الثقافة

 تُسرق الأقلام وأيدينا تتفرّج للكتابة/ سهى أبو شقرا

 

بما أن يدي صارت تقول كلماتها بحركات “روبوتية”، تصفّ الحروف برؤوس أصابعها، بإيقاع متشابه وروتيني، فلم تعد تطاوعني على الكتابة بالقلم كالسابق. فقدت شيئاً من مرونتها. كانت تخطّ على الورق بانسياب ومهارة أكثر، لكنها صارت أثقل من قبل.

لم يعد إمساكها بالقلم تلقائياً واعتيادياً، بل أجدها تجتهد حتى تبقيه مطواعاً. ربما يعود الأمر إلى أن الكتابة “اليدوية” لم تعد من أولوياتها، فلا تضطر لذلك إلا عند التوقيع على معاملة رسمية، وهذا لا يحدث إلا قليلاً، تناسيْنا الحاجة إلى القلم الحقيقي.

استوقفني الأمر عندما راقبت خطاطاً يرسم الحروف ويشكّلها كأنها لوحة فنيّة. رأيت يده وكأنها وُجدت للتخطيط فقط، وهي، على عكس يدي تماماً، التي لم تعد تتمايل وتنحني عند الكتابة لتلبي تقويسات الحروف وانحناءاتها.

تتباعد علاقتنا بالكتابة اليدوية على مرأى منّا، ولا حيلة للبشرية بالحفاظ على هذه المهارة على المدى البعيد. سيصير خطّ اليد مع مرور الزمن حكراً على محترفي الكتابة اليدوية، والخطاطين، وتتحوّل حرفتهم إلى ” أرتيزانا” تراثية قديمة تُعرض في متحف ربما، وتصبح أعمالهم للفرجة، تُبهر الزوّار فتتركهم يتساءلون عمّا حلّ بالكتابة والريشة والقلم والورقة.

فقد رأيت تقريراً مصوراً ذات مرة عن امرأة تمتهن تخطيط الدعوات الرسمية في المناسبات، وذكرت أن المؤسسات العريقة لا يُرضيها توزيع دعوات حفلاتها ومناسباتها بخطّ مطبوع، لأن خط اليد يعطي قيمة أكبر للداعي والمدعو، فالكتابة اليدوية أسلوب فاخر وراقٍ في التعامل والتعبير.

هذا هو مستقبل الكلمات المكتوبة باليد، ستصبح عملاً تراثياً، آثاراً نتركها للأسلاف، ونسخاً معروضة في واجهات المتاحف. فالمستقبل بالتأكيد لن يكون لديه الطاقة ولا الصبر على انتظارنا حتى ننهي كتابتنا على مهل، حتّى نتفنن بإبراز خطٍ يميّز أحرفنا، ولا انتظار الحرفيين حتى ينجزوا أعمالهم بدقّة متناهية. فالوقت على عجل دوماً، والوتيرة تسمح لنا بالنقر، لكنها لا تنتظرنا لنخطّ الحبر فوق الورق.

وفعل الكتابة ليس عملاً يدوياً جديداً، فمنذ اختراعات البشرية الأولى في الكتابة عبر الأزمنة السحيقة، وإذا اعتبرنا أن الصور والرسوم التي كانت أولى وسائل التعبير التي خطها الإنسان أو نقشها، نوعاً من أنواع الكتابة اليدوية، فهي تعود إلى نحو 35 ألف سنة، حسب المتخصصين.

ومع تطوّر عمل اليد الكتابي، صار الإنسان يعبّر عن ذاته بالكتابة المسمارية منذ نحو 3500 سنة قبل الميلاد، فالأيدي كانت تضرب المسمار فوق ألواح الطين أو الشمع وحتى المعادن لتنقش صوراً تعبيرية (الكتابة التصويرية)، ثم اختزلتها إلى رموز (الكتابة الرمزية)، تدلّ على أفكارها وأقوالها.

واخترع سكان وادي النيل كتابتهم الخاصة منذ نحو 3100 سنة ق.م. وهي الهيروغليفية، والتي تعني النقش المقدس، وكانت تصويرية بدورها، إلى أن اختلفت حركة اليد التعبيرية في الكتابة. فمنذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد تطورت الخطوط وأتقنت اليد وتفننت في كتابة الحروف الأبجدية، واخترع الفينيقيون الأبجدية قبل نحو 1100 سنة قبل الميلاد، ثم طور الإغريق أبجدية خاصة بهم قبل نحو 400 سنة قبل الميلاد.

وبدأت تشيع علاقة الأيدي بالقلم والورقة، الورق ذلك الاختراع الصيني المرافق للكتابة، فانتشر فعل التدوين ولم تعد محصورة بالكتبة وأهل العلم. اعتادت اليد على الكتابة ولم تعد عملاً مجهداً بالنسبة لها، بل صارت تؤديها بتلقائية وسرعة عموماً. وأصبحت الكتابة جزءاً من أعمال اليد اليومية، نكتب من دون أن نشعر أننا نقوم بفعل الكتابة.

فإذا سألك أحدهم عمّا فعلته خلال يومك، تذكر أنك ذهبت إلى العمل أو زرت صديقاً أو قمت بنشاطك الرياضي المعتاد، لكنك لا تذكر تفصيلاً من نوع كتبت ثلاث صفحات في دفتري عن كذا، ودونت ملاحظاتي عن الاجتماع الأسبوعي… إلخ. الكتابة صارت تلقائية وعملاً مكرساً بحكم العادة والحاجة، حتى الكتابة في الصف أو الجامعة، تلك التي كانت تُنهكنا، ونتذكّرها، هي عُرضةٌ للاختفاء اليوم.

نكتب من دون جهد كالماضي، فقد وصف أحد الناسخين في القرن الثاني عشر الكتابة بقوله: “إنها عمل شاق جداً، فهي تجهد العينين وتغطيهما بالغشاوة وتحني الظهر وتسحق الأضلاع والبطن وتسبب أوجاع الكلي وتؤلم الجسد بأكمله”. أصبحت كتابتنا سمةً تُعرّف عنّا، وميزةً تشعرنا بالتفوّق على من لم يتعلمها، بل نسمح لأنفسنا بتصنيفه ونسميه “أميّاً”. إنها مهارة يدوية رغم انتشارها وتداولها إلا أنها لم تصبح في متناول كل الناس.

واليد كباقي أعضائنا، تتكيّف مع المهام المطلوبة منها، لذلك جاء اختراع الآلة الطابعة ليُغيّر حركة يدنا وطريقة أدائها عند الكتابة، وندين بذلك التغيير إلى مخترع الآلة الطابعة الأول، البريطاني هنري ميل، في العام 1714، وما لحقها من تعديلات إلى أن وصلنا للطابعة الإلكترونية في العام 1961، واليوم صرنا نطبع مباشرة على لوح مفاتيح الحاسوب.

الفارق كبير بين حركة اليد عند الكتابة بالقلم وعند النقر على مفاتيح الكومبيوتر.

الكتابة “اليدوية” تحمّل صاحبها مسؤولية أكبر من الطباعة، لأن خطَّ اليد يدلُّ على شخصية صاحبه. فعندما نكتب يدوياً نجتهد حتى يكون خطّنا مقروءاً قدر الإمكان لكي يفهمنا القارئ. وإذا كان الوقت في صالحنا، نكتب برويّة ونجمّل خطوطنا، لأن خطوطنا تشبهنا. كما نحاول أن نتدارك الأخطاء اللغوية كونها أحد مقاييس شطارتنا، فخطوط يدنا هي إحدى سماتنا، وهذا ما يؤكده علم الجرافولوجي.

على العكس من ذلك هو شكل الخط عند الطباعة، والذي ليس لنا فيه يدّ عموماً، إضافة إلى أن الأخطاء الإملائية والقواعد يصححها لنا الكومبيوتر في معظم الأحيان. أمّا عن شكل الكتابة في المستقبل؟! فكما عدنا في أيامنا هذه إلى أسلوب النقر كما في الكتابة المسمارية، قد يستغني البشر يوماً ما عن الكتابة ويكتفون بالتسجيل الصوتي؟ ربما، في هذه الحال نكون كأننا عدنا إلى التعبير بالمقاطع الصوتية، إلى ما قبل الكتابة!

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى