صفحات الرأي

ثابت عزاوي: الوجيه -المثقف في دير الزور ومذكراتهم/ عبد الله حنا

 

 

ثابت عزاوي الوجيه – المثقف في دير الزور

1900 – 1978

ومذكراته عن مدينته الفراتية.

أولا:

حياته

كان ثابت عزاوي من أبرز المشاركين في الأحداث، التي مرت على بلدته دير الزور في النصف الأول من القرن العشرين. كما كان أول من شارك في المؤتمرات والتجمعات الوطنية القومية خارج مدينته. وكان ممثلا لدير الزور عام 1933 في عصبة العمل القومي. وفي خضمّ الأحداث التي عاشها أو شارك فيها اتجه نحو الفكر الاشتراكي. وكان أبرز الأعلام الداعين إلى الاشتراكية العلمية في دير الزور في منتصف القرن العشرين. وقد كان لي شرف التعرّف إليه عندما حللتُ في صيف 1959 لمدة شهر ونيف في دير الزور. وكان “أبو زهير” محط أنظار الشباب المتطلعين إلى الاشتراكية ومرجعهم الروحي، إضافة إلى مكانته المرموقة بين الديريين.

ثابت عزاوي بن الحاج رشيد المولود عام 1900 في دير الزور، تلقى تعليمه في مدرسة دير الزور التي كانت تعلّم بالتركية. ولم تكن ظروف ذلك الوقت ووضع دير الزور يسمحان له بإتمام تعليمه. وعلى الرغم من ذلك كان أحد مثقفي دير الزور، الذين يشار إليهم بالبنان. وقام بتأليف عدد من الدراسات نذكر منها:

– كتاب، من ثلاثة مجلدات، لا يزال مخطوطا عن تطور دير الزور الاقتصادي منذ منتصف القرن التاسع عشر..

– دراسة مطبوعة عن سد الفرات واستثمار النفط وطنيا..

– ترجمة ديوان الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت عن التركية، الذي صدر عام 1968 تحت عنوان: “الناظرون إلى النجوم”..

– مذكراته عن دير الزور والفرات من عشرينيات القرن العشرين إلى منتصفه. وهذه المذكرات نشر مقاطع منها الدكتور قاسم عزاوي، الذي أهدانا مشكوراً نسخة منها. وسننقل بعضا منها في نهاية هذه الدراسة.

ودارت الأيام دورتها واستوطن وباء المباحث السلطانية محلّ حرية الفكر وحلّت السياط والتذويب بالأسيد مكان الحوار بالكلمة. فقد شنّت المباحث السلطانية في الأشهر الأولى من عام 1959 حملتها الشعواء ضد الحزب الشيوعي، ومن ثمّ ضد كل من يرفع الصوت محتجا على طريقة الإقناع بالسوط والسجون. نال ثابت العزاوي نصيبه من هذه الحملة، التي كان لها اليد الطولى في ضرب مرتكزات المجتمع المدني، والإسهام في تركيع القسم الأكبر من قوى المجتمع النيّرة. ولكن ثابت العزاوي سجين المزة رفض بإباء الركوع للجلادين محافظا على كرامته ومدافعا عن الأفكار التي حملها.. وأثناء سجن العزاوي زار رئيس الجمهورية العربية المتحدة جمال عبد الناصر دير الزور، وجاء من أخبره عن استياء الناس من اعتقال ثابت عزواي ومكانته في قلوب الديريين فأمر بإطلاق سراحه.

وقد أدت قساوة ظروف السجن إلى إصابة العزاوي بالشلل النصفي. وكما وقف ببطولة أمام الجلادين، واجه المرض بعزيمة لا تلين، إلى أن وافته المنية في تموز/يوليو 1978.

ثانياً

ثابت عزاوي السابح ضد التيار

وملحمة الشبّوط الرومي

أصدر الابن الروحي لثابت العزاوي طبيب العيون الدكتور قاسم عزاوي عام 1993 ديوان “ملحمة الشبوط الرومي”. تضمن الديوان مجموعة من القصائد بعضها نظمها في برلين أثناء مرحلة التخصص والبقية نظمها في مكان عمله وموطنه دير الزور، في مرحلة انحسار حركة التحرر الوطني العربية وانهيار دول “المنظومة الاشتراكية”. والشبوط الرومي: سمك فراتي يفضّل السباحة عكس التيار وقد قلّت أعداده في المرحلة الأخيرة وكثر شحمه بسبب نقص قوة تيار نهر الفرات. وملحمة الشبوط الرومي “مهداة إلى روح المفكر المناضل ثابت عزاوي ذلك السابح أبداً عكس التيار”.

فثابت عزاوي “السابح عكس التيار” من مثقفي دير الزور ومناضليها الذين “يغشون الوغى ويعفون عند المغنم”، وما أندرهم. كان من مؤسسي عصبة العمل القومي في دير الزور في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم اتجه نحو الفكر الماركسي وأصبح علماً اشتراكياً معروفاً في دير الزور. أرسل ابنه زهير لدراسة الطب في فرنسا على أمل أن يعود الطبيب زهير ويسير على خطى والده ويعالج المرضى بروح إنسانية عالية ولا يتقاضى أجراً من الفقراء. وعن هذا الطريق يمكن نشر الفكر الاشتراكي كما حلم أبو زهير. ولكن الابن “الدكتور زهير عزاوي” خيّب آمال والده بعد عودته في منتصف خمسينيات القرن العشرين. واستمر ثابت العزاوي رافعاً علم الإخلاص والصدق والصراحة والاشتراكية والمُثل العليا إلى أن وافته المنية.

الابن الروحي لثابت عزاوي الدكتور قاسم عزاوي أهدى قصيدته “ملحمة الشبوط الرومي” إلى ثابت عزاوي السابح أبدا ضد التيار. ولنقرأ بعض أبيات هذه القصيدة ونقارنها مع مجريات هذه الأيام. جاء في القصيدة:

لا تسبح يا شبّوطي عكس التيار

فما عاد فراتُك نهراً

صار غديراً أو ساقيةً يجري فيها الرمل

وبضع جرار من ماء آسن

فلتترهل يا صنوي وليكثر شحمك

وتستبدل صبغيّاتك يا شبّوطي الرومي

بأخرى أحدث منها حسبَ شروط البنك الدولي

وحسب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة

لا تسبح يا شُبوطي عكس التيار

ولا تعجب إن رُحتَ غداً في أنبوب

يحمل نهرك كي يروي مستوطنة

لعدُوّيَ وعدوّكَ في الأرض المسبيّة

ثالثاً

الحياة السياسية في دير الزور

في مذكرات ثابت العزاوي

كان ثابت عزاوي من أبرز المشاركين في الأحداث، التي مرت على بلدته دير الزور في النصف الأول من القرن العشرين. كما كان أول من شارك في المؤتمرات والتجمعات الوطنية القومية خارج مدينته. وهو من مؤسسي عصبة العمل القومي. وقد دعاه ميشيل عفلق وصلاح البيطار لمشاركتهما في تأسيس حزب البعث، فاعتذر لأنه لا يرغب في دخول حزب لا يتبنى الاشتراكية، وأرشدهم إلى ابن مدينته جلال السيد للحلول محله. قام العزاوي بتأليف عدد من الدراسات ما يهمنا منها هنا مذكراته عن دير الزور والفرات من عشرينيات القرن العشرين إلى منتصفه، وهي تغطي الفترة الزمنية بين عامي 1919 1949.

وتنبع أهمية مذكرات العزاوي من أنها تتناول دير الزور المدينة الشرقية النائية البعيدة عن أمهات المدن السورية، ولكنها واكبت الحركة الوطنية بخصوصيتها المتميّزة بطغيان العشائرية فيها، وظهور مجموعات تجارية لها شأن محدود في الأرياف.

هذه المذكرات هي في حوزة الدكتور قاسم عزاوي قريب ثابت قام بطبعها على الجستتنر، وأهدانا مشكورا نسخة منها، أثناء إلقائنا محاضرة في المركز الثقافي بدير الزور.

ونقدم فيما يلي مختارات من هذه المذكرات، التي تعكس واقع الحركة الوطنية والقومية في دير الزور، ودور العزاوي، وبداية طَرْق المجتمع المدني لأبواب المجتمع الأهلي (العشائري) المسيطِر في وادي الفرات. سننقل النصوص حرفيا مع توضيحات من كاتب هذه الأسطر:

– بعد انسحاب العثمانيين الأتراك من دير الزور في خريف 1918، تألفت في الدير “حكومة مؤقتة سُميت بمجلس الرؤساء الثلاثة… وكانت هذه الحكومة ترتكز على مجلس مؤلف من وجهاء الدير. وخلال حكم الرؤساء الثلاثة كانت المدينة معزولة عن القرى وبحالة استنفار ضد الطوارئ. وكان الديريون يتطلعون إلى الراية الفيصلية المرفرفة على حلب فراحوا يتصلون بحكومتها برئاسة الأمير فيصل بن الحسين ومركزها دمشق.

– لدى وصول مرعي باشا الملّاح في أوائل ربيع عام 1919 خرجت المدينة بأسرها إلى غربي الجورة لاستقباله بصفته ممثلاً للحكومة العربية بدمشق. وقد ألقى ثابت العزاوي في حفلة تكريم الملّاح متصرفا للواء دير الزور خطاباً هاجم فيه “النزعة العصبية والعشائرية”.

– في عهد الملّاح حصل ثابت عزاوي وتوفيق الفنوش في خريف 1919 على إجازة تخوّلهما فتح فرع للنادي العربي الذي مارس نشاطه في حلب، وأصبح عزاوي رئيساً للنادي العربي. ومعروف أن النادي العربي تأسس في دمشق في عام 1919 ونشط في سائر المدن السورية. وكان النادي العربي من ركائز الحركة القومية العربية والداعين لها، وأحد تعبيرات المجتمع المدني الناشئ.

– أواخر عام 1919 عمل ثابت عزاوي بصورة سرية مع تحسين الجوهري “على انتشال الدير من واقعها المشحون بالانقسامات العشائرية، والنهوض بها إلى مستوى أعلى. واشتد الشعور الوطني بعد وصول لجنة الاستفتاء برئاسة المستر كراين الأميركي”. وبعد الاتصال بأحد قادة الحركة الوطنية بحلب. “نظمنا” – والكلام لعزاوي – “مضبطة تطلب العودة إلى أحضان سورية، وتمّ توقيعها من الديريين وقام بتسليمها إلى اللجنة الأميركية ملا عيسى العزاوي بصفته رجل دين …”

– “عام 1920 حاول القائد التركي في ماردين كنعان بك احتلال الدير وضمها إلى تركيا. وقدّم كنعان بك نسخاً من القرآن الكريم إلى وجهاء الديريين يستنفر شعورهم الديني ويحثهم على طرد الفرنسيين الكفرة والرجوع إلى أحضان الحكم التركي المسلم. وقد لعبْتُ (تاء المتكلم تعود للعزاوي) مع تحسين الجوهري دوراً هاماً في مقاومة ذلك التيار الخطِر، الذي كنّا نبغضه كما نبغض الاحتلال الفرنسي..”.

– عام 1919 انضمّ سرا إلى حلقة عزاوي – الجوهري، لانتشال الدير من الانقسامات العشائرية، اثنان آخران “فأصبحت منظمة سرية مؤلفة من أربعة أشخاص موحدين فكرياً وسياسياً في إطار مثالي هدفه المصلحة العامة والنهوض بالمنطقة”. ويستأنف عزاوي قائلاً: “ثم أصبحت حلقتنا نواة لدائرة أوسع من المواطنين، الذين أذكر منهم …”.

– في ربيع 1923 وعلى عهد المتصرف نبيه مارتيني، الذي كان مثقفاً ومستقيماً تشكّل تجمّع من الشباب يجمعهم الشعور الوطني أطلق على نفسه اسم (أخوة خليصة) تعبيراً عن ولائهم لبعضهم وعن إخلاصهم المتبادل. وكانوا يرفعون شعار “الديرية الوطنية بدلاً من العصبية الوسطية والشرقية”. ومعنى ذلك أن (أخوة خليصة) انتقلوا من الولاء للعشائرية المُمَثّلة في الوسطية والشرقية إلى الولاء لمدينة الدير وللوطن.

– مثّل شباب الدير، ومنهم العزاوي، في أوائل عام 1926 رواية (لولا المحالي). “وكان الغرض من تمثيلها تعبئة الشعور العام أولاً ثم تقديم ريع الرواية الذي بلغ 77 ليرة ذهبية لمساعدة ثوار دمشق”.

– عندما زار المفوض السامي الفرنسي بونسو دير الزور عام 1927 اجتمع (أخوة خليصة) وكلفوا ثابت عزاوي بإلقاء كلمة أمام بونسو في بهو المحافظة جاء فيها: “نتشرف بتقديم خلاصة مطالبنا الوطنية التي أصبحت عقيدة راسخة عند عامة الشعب السوري المجيد، وهي: الوحدة السورية. إعلان العفو العام عن المحكومين والمبعدين السياسيين. دعوة الجمعية التأسيسية لسن قانون على مبدأ السياسة القومية. إطلاق حرية الكلام والكتابة والاجتماع ومنع تدخُّل أي سلطة بها”.

– عام 1928 تأسس نادي الفرات الأدبي، الذي حصل على إجازة رسمية بالعمل، ووُضع له نظام داخلي وأُحدث له فرعان للرياضة والتمثيل. وكان العزاوي أحد أركانه.

– في أواخر تموز 1933 “ورد كتاب من دمشق يطلب فيه حضوري (ياء المتكلم تعود للعزاوي) أنا والشيخ سعيد العرفي إلى دمشق مع وفد نعتمده من شباب الفرات للاشتراك في جلسات مؤتمر مزمع عقده. فاجتمعت حلقتنا السرية وقررت سفري مع الشيخ سعيد عرفي وجلال السيد..”. ويروي عزاوي ما جرى في مؤتمر قرية قرنايل في جبل لبنان، الذي انبثقت عنه عصبة العمل القومي. ثم يقيّم عزاوي مؤتمر قرنايل بأنه “رفع شعار القومية العربية وكان رفعه أول محاولة استبدل بها مفهوم الوطنية في سورية بمفهوم القومية العربية الشامل، يوم كانت سورية تناضل من أجل صهر الخلافات الطائفية بشعار الوطنية الجامع الذي يخلّصها من النزعات القبلية والعشائرية والطائفية الممزقة لوحدة الشعب..”.

– بعد مؤتمر قرنايل تأسس في دير الزور فرع لعصبة العمل القومي في خريف 1936، وكان العزاوي من أعضائه البارزين. وفي الوقت نفسه استأجر فرع الكتلة الوطنية في دير الزور مقراً له في الحويقة ترأسه محمد الفتيح.

– يذكر ثابت عزاوي في مذكراته أنه اجتمع في بيت صلاح البيطار بدمشق بحضور شاكر العاص وميشيل عفلق. وجرى نقاش بين عفلق الساعي إلى تأسيس “حزب قومي” وعزاوي المنادي بحزب ذي طابع اشتراكي. وجاء في مذكرات عزاوي: “ولما رأيت إصرار عفلق على تأسيس حزب قومي حاف اعتذرت له عن إمكانية التعاون معه. فسألني عمّن أعرفهم من الشباب بالدير فدللته على جلال السيد..”.

واللافت للنظر أن جلال السيد لم يشر إلى مبادرة العزاوي، سواء في كتاباته أو أثناء لقائي به.

***

ذكرنا في مستهل هذه الدراسة أن ثابت العزاوي كان عضو بارزا في عصبة العمل القومي وشخصية وجيهة في دير الزور، ولهذا سعى ميشيل عفلق لكسبه إلى جانبه لتأسيس حزب البعث العربي. ولكن عزاوي، الذي بدأ يتجه نحو الأفكار الاشتراكية العلمية، رفض مطلب عفلق وأشار عليه بأخذ جلال السيد كعضو مؤسس لحزب البعث. وبعدها توقف ثابت العزاوي سنة 1949 عن كتابة مذكراته المفعمة بالصدق والتواضع.

ولا تزال لقاءاتي في صيف 1959 بثابت العزاوي الإنسان المتواضع المفعم بحب الوطن والحالم بمستقبل سعيد للبشرية خال من الاستعباد والاستغلال، محفورة في ذاكرتي.

[1] اتيح لكاتب هذه الأسطر أن يزور في صيف 1959 ثابت عزاوي في بيته أكثر من مرة. وكانت كلماته المتواضعة تنطق بالصدق والإخلاص. وكان شباب الدير الذين التقيت بهم في ذلك الصيف يتحدثون دائما عن مصداقية أبي زهير ووطنيته العارمة واشتراكيته الطوباوية. وعندما أجريت مقابلة مع أحد مؤسسي حزب البعث جلال السيد في منزله بدير الزور بتاريخ 11- 10 -1986 قال “ثابت عزاوي شيوعي فلسفة وليس انتماء”، أي لم يكن منتميا إلى الحزب الشيوعي.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى